في العقود الأخيرة من عهد حكم الأسرة القاجارية (1779 – 1925)، ساءت أوضاع بلاد فارس (إيران حاليًّا)، وصارت الدولة مطمعًا للقوى الغربية ومسرحًا لتدخلات المملكة البريطانية وروسيا، خاصة في عهد الشاه ناصر الدين القاجاري الذي امتد من عام 1848 إلى 1896، وانعزلت الأقاليم بعضها عن بعض مع تراجع الأمن وانتشار قطَّاع الطرق.

ثورة التنباك

مع تفكك المجتمع طبقيًّا وإثنيًّا ومذهبيًّا ولغويًّا لم يكن هناك قوى مجتمعية تستطيع التصدي لهيمنة القاجار وأتباعهم، لكن وقعت حادثة عام 1891 يمكن الوقوف عندها باعتبارها من الوقائع المؤثرة في تشكيل الوعي الوطني في البلاد، وهي ثورة التنباك التي حدثت عندما منح الملك القاجاري، ناصر الدين شاه، حق احتكار تجارة التبغ في بلاد فارس لصالح شركة بريطانية.

وحينها أصدر المرجع الشيعي، ميرزا محمد حسن الحسيني الشيرازي، فتوى تعتبر أن من استعمل التبغ فحكمه الشرعي كأنه حارب إمام الزمان المنتظر، وبناءً على هذه الفتوى المقتضبة المكونة من سطر واحد امتثل الناس لها ووقعت مصادمات بين المحتجين وقوات الشاه إلى أن رضخ الأخير للأمر الواقع وتراجع عن قراره.

ظهرت الحركة الوطنية لأول مرة باحتجاج الطبقة الوسطى والمثقفين الإيرانيين علنًا إبان تلك الأزمة، وأظهرت تلك الحركة للنخبة وللعامة على السواء كيف يمكن لحركة احتجاجية قوية أن تكسر إرادة الشاه وتفرض عليه كلامها، وأن جنوده لا يستطيعون التصدي لمثل تلك الحركة بفعالية، وبذلك مهدت فيما بعد لقيام الثورة الدستورية.

بعد تراجع الملك ناصر الدين شاه تحت الضغط لم يلبث إلا قليلًا حتى استبدل به امتياز إنجليزي آخر  لمدة نصف قرن مقابل حصوله على هدية مقدارها خمسة وعشرون ألف جنيه استرليني وإيجار سنوي مقداره خمسة عشر ألف جنيه استرليني ، بالإضافة إلى ربع أرباح الشركة، لكن مع قدوم عملاء الشركة لشيراز ، علت انتقادات الصحف الفارسية بالخارج لهذا الامتياز ودوره في سرقة فرص العمل من الإيرانيين، ودعت إلى الإضراب والتظاهر، فخرجت المظاهرات ضد الشاه في طهران وكبريات المدن، فاضطر إلى إلغائه.

أخذ الشاه في التضييق على الحركة الوطنية الوليدة فتلكأ في بناء مدارس جديدة، وحظر استيراد الصحف، وعمل على إذكاء الصراعات القبلية، وأوقف إرسال البعثات العلمية للخارج.

توفي الشاه ناصر الدين بعد ثورة التنباك بخمس سنوات بطلقة نارية سددها له أحد أتباع جمال الدين الأسد آبادي (الشهير بجمال الدين الأفغاني)؛ فيما اعتُبر أول عملية اغتيال سياسي بدوافع دينية في البلاد.

ففي مطلع مايو/أيار 1896 اغتاله المواطن ميرزا رضا كرماني بعد أن تعرض للتعذيب في السجن القاجاري، فلما أطلق سراحه سافر إلى إسطنبول للقاء أستاذه جمال الدين الأسد آبادي، فقال له: “حين تعرضت للظلم كيف ترضخ له؟ المظلوم هو الذي يشجع الظالم في ظلمه”، وحثه على الانتقام، فقتل الشاه وأُعدم بعدها، وكان الشاه طرد جمال الأسد آبادي لاتهامه بالتحريض على معارضته.

استوعب مظفر الدین شاه (1896 – 1907) الدرس من مقتل سلفه ناصر الدين ومن أحداث سنواته الأخيرة، فحاول استرضاء المعارضين فخفف الرقابة على الصحف، وشجع البعثات العلمية للخارج، وتوسع في فتح الكليات، وسمح بإنشاء الجمعيات الخاصة.

تأسست «الشركة الإسلامية التجارية» من كبار التجار بهدف حماية الاقتصاد من الغزو التجاري الأجنبي، وأنشأت الطبقة المثقفة صحيفة «كنز المعرفة» التي عكفت على ترجمة الكتب الحديثة، وأسس مثقفو طهران «جمعية التعليم 1900»، وكانت عبارة عن مكتبة عامة كبيرة تم إعدادها بأموال الدولة والشاه والتبرعات، وأنشأت الجمعية أكثر من خمسين مدرسة ثانوية حديثة في المدن الرئيسية، وانتشرت كذلك ظاهرة الجمعيات السرية، بحسب ما ذكرته آمال السبكي في كتابها «تاريخ إيران السياسي بين ثورتين».

 الثورة الدستورية

شهد عهد مظفر الدین شاه أحد أبرز الأحداث في تاريخ البلاد، وهو «الثورة الدستورية» (انقلاب مشروطه) في عام 1905، واستمرت تفاعلاتها وأحداثها حتى عام 1911، وتركت بصمات لم تمحَ حتى اليوم على شكل الدولة وتفاعلات المجتمع مع السلطة.

وبحسب السبكي فإنه نتيجة انتشار التعليم وازدهار النشاط السياسي المعلن والسري أصبحت السلطة القاجارية معزولة واقعيًّا عن الطبقة الوسطى والمثقفين الذين اكتشفوا تدريجيًّا أن القاجار مفلسون ماديًّا، وضعاف إداريًّا، ومهزومون عسكريًّا، واقتنعوا بضرورة التغيير.

مع تفشي وباء الكوليرا عام 1905، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وتعطل التجارة مع روسيا لاندلاع الثورة فيها، ارتفعت أسعار السلع وقلت عائدات الجمارك في الوقت الذي طالب فيه الدائنون بديونهم، ففرضت الحكومة ضرائب جديدة على التجار والحرفيين، واشتعلت التظاهرات ثلاث مرات، أولها نهاية عام 1905، على خلفية المطالبة بطرد المدير الأجنبي للجمارك، فوافق الشاه لكنه تراجع بعد تهديد روسيا له، فعادت الاحتجاجات وأغلق التجار دكاكينهم، وطالبوا بتطبيق الشريعة فاضطر الشاه لطرد الرجل ولم يوافق على بقية المطالب، فتجددت التظاهرات في طهران منتصف عام 1906، فأرسل الشاه قوات القوزاق لقمعهم، فقتلوا منهم اثنين وعشرين متظاهرًا، فأفتى رجال الدين بأن القاجار يمثلون معسكر يزيد بن معاوية الذي قتل الإمام الحسين رضي الله عنه، وبدأوا إضرابًا عن العمل.

انطلقت قوات القوزاق لفتح البازارات بالقوة، فاحتمى خمسون تاجرًا بمقر السفارة البريطانية في طهران، وشكلوا لجانًا لتنظيم شئون المعتصمين، وانضم لهم الكثيرون، وقدمت بريطانيا الدعم الظاهري للثوار لموازنة نفوذ موسكو، بينما وقف الروس في صف الملك بوضوح.

وتشكلت هيئة قيادية طالبت بإنشاء جمعية لوضع دستور مكتوب، واستمر الاعتصام شهرًا كاملًا حتى وافق الملك مظفر الدین شاه على هذه المطالب في 5 أغسطس/آب 1906 بعد أن شك في ولاء قوات القوزاق بسبب تأخر رواتبهم، فأمر بإنشاء لجنة لوضع الدستور الذي صدر في أكتوبر/تشرين الأول 1907 مكونًا من 51 وتم تذييله بتصديق الملك قبل وفاته بأيام في يناير/كانون الثاني 1907، أي قبل أن يرى المنتج النهائي للدستور.

تم وضع لائحة تحدد عمل المجلس واختصاصاته، وعدد ممثلي الأقاليم، ولائحة للانتخابات نصت على حق الجميع في التصويت، وبدأت الانتخابات في طهران لاختيار نوابها، وأسندت لنواب العاصمة مهمة الإشراف على انتخابات الأقاليم وافتتاح المجلس.

ويمكن القول إن إيران الحديثة وُلدت من رحم الثورة الدستورية التي أضحت علامة على الانتقال إلى عصر جديد تحظى فيه الدولة بمؤسسات حكم حديثة، وإن ظلت فعاليتها رهينة للتقلبات السياسية وشخصيات الحكام.

ووفقًا للباحث العراقي نضال جميل غضب فقد غيرت الثورة الدستورية ليس فقط شكل هياكل الحكم، بل تركت آثارًا عميقة على الثقافة والأدب ولم تقتصر على الجانب السياسي فقط؛ فكان الشعر والأدب قبل هذه الثورة منشغلًا بوصف الطبيعة ومدح الملوك والشراب ، لكن مجموعة من ذوي الدراسات العليا والمثقفين أخذوا ينشرون ويطبعون من أجل التأثير على الشارع وأثمرت جهودهم التعرف على الثقافات الأخرى وتجارب الشعوب الأجنبية فظهرت النصوص الأدبية التي تتحدث عن الحرية واشتهر الشعر السياسي.

الالتفاف على الثورة

بعد وفاة مظفر الدين تولى الحكم ابنه الشاه میرزا محمد علي، فأظهر احتقاره للبرلمان منذ البداية، فعندما أقام حفل تتويجه استضاف كبار رجال الدولة والسفراء الأجانب ورجال الدين المقربين منه، ولم يستقبل أعضاء المجلس النيابي.

وعلى الرغم من تصديقه على الدستور للمرة الثانية في مارس/آذار 1907، فإنه لاحقًا رفض مطلب النواب لإضافة مزيد من المواد لتنظيم العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتقرير مسئولية الدولة أمام النواب وكذا حق البرلمان في عزل الوزراء، بل طلب الشاه أن تفوض إليه مسئولية تعيين وعزل الوزراء، والانفراد بالإشراف على الجيش، وزيادة عدد قواته الخاصة، فرفض البرلمان طلباته بالإجماع.

بعد هذا التعارض قرر الشاه التخلص من البرلمان بحجة فشله في تخفيض أسعار الطعام! وأمر بقطع أسلاك البرق بين طهران وبقية المدن، ووزع منشورًا على سكان طهران في 9 يونيو/حزيران 1908، اتهم النواب بإهمال مهامهم والتركيز على مصالحهم الشخصية، وناشد السكان التزام مساكنهم، بينما أخذت قوات القوزاق تمارس السلب والنهب نتيجة عدم حصولهم على رواتبهم، فطلب الشاه من لياخوف، قائد القوزاق الروسي، ضرب مبنى البرلمان بالمدفعية في يوليو/تموز 1908.

أظهرت الأزمة فريقين متباعدين: الأول تعاون مع الشاه ووافقوا على حل المجلس وتكوين ما يعرف بالمجلس الإسلامي بدلًا منه، ورفض الفريق الثاني ذلك، وعارضوا فكرة المجلس الإسلامي، وفي يناير/كانون الثاني 1909 أعلن رجال الدين الجهاد من أجل الدستور والمجلس، وحرموا دفع الضرائب للحكومة، واتهموا من لا يعمل بالفتوى بأنه يحارب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وظهرت شائعات تتهم نظام الشاه ميرزا محمد علي بالاحتفاظ بالخنجر الذي قطع رأس الحسين، رضي الله عنه، وتزعم أن الجمعيات المعارضة أسسها الحسين وتوارثتها الأجيال سرًّا من جيل إلى جيل، وتتهم الأسرة القاجارية بأنها من سلالة المشاركين في الجيش الذي قتل الحسين في كربلاء.

أشعلت الفتوى الاحتجاجات في المدن الإيرانية حتى خشيت روسيا وبريطانيا على حياة رعاياهما فلجأتا إلى الضغط على الشاه لإعادة البرلمان وامتصاص المعارضة، وهو ما تم في أبريل/نيسان 1909.

وبالرغم من إعلان الشاه عودة الحياة النيابية فإن الجماهير لم تهدأ بسبب دخول القوات البريطانية والروسية البلاد، فتوافد المحتجون على طهران وهزموا قوات الشاه في 16 يونيو/حزيران 1909 ، فاحتمى الشاه بالسفارة الروسية.

قرر الثوار عزل ميرزا محمد علي وتعيين ابنه الصغير أحمد ميرزا مكانه، وتكليف رئيس الوزراء، عضد الدولة، بإدارة شئون الحكم كنائب له، وتواصلت قيادات الثوار مع السفارتين الروسية والبريطانية وتم التوصل إلى اتفاق في سبتمبر/أيلول 1909 حدد مرتبًا سنويًّا للشاه المخلوع في منفاه في روسيا وألزموه بعدم محاولة استعادة الحكم، وعُقدت محكمة خاصة لمعاقبة جميع الذين قمعوا الثوار.

وقد تولى أحمد شاه المملكة عام 1909 في حالة اضطراب، وكان سنه صغيرًا جدًّا إذ كان يبلغ 12 عامًا تقريبًا، وبلغت التدخلات البريطانية والروسية مدى كبيرًا عجز الشاه الصغير عديم الخبرة عن التصدي له، لكن شهد عهده إجراءات ديمقراطية عديدة كإقرار حصة للأقليات الدينية في مجلس الشورى والحكومة، وتخفيض سن الاقتراع.

وتعرضت الدولة للإذلال مع استخدام بريطانيا عام 1917، لأرض فارس نقطة انطلاق للهجوم على روسيا، ورد الاتحاد السوفيتي بضم أجزاء من شمال البلاد، وظلت الأمور هكذا، والشاه يقضي وقته متنقلًا في رحلات سياحية في أوروبا تاركًا الأمور للسياسيين لتدبيرها، إلى أن نفذ رضا خان، وزير الحرب وقائد حامية القوزاق، انقلابًا ضده في 21 فبراير/شباط 1921، أطاح بالسلطة الفعلية لأحمد ميرزا، وفي عام 1925 أعلن إنهاء حكمه رسميًّا وتنصيب نفسه ملكًا على بلاد فارس، متخذًا لقب الشاه رضا بهلوي، لتعود البلاد من جديد إلى الملكية المطلقة فعليًّا رغم البقاء الشكلي للبرلمان.