يستخدم القرآن الكريم مصطلح الإنفاق للدلالة على الاستهلاك. ويقصد بالإنفاق صرف المال الحلال للحصول على منافع مادية أو معنوية مشروعة، تساعد الأفراد في تحقيق الإشباع المادي أو المعنوي؛ حيث يدفع المستهلك الثمن نظير المنفعة التي يحصل عليها.

ويتولَّد النشاط الاقتصادي وفقًا للمنهج الإسلامي بالحض المنضبط على الإنفاق، ويتكون الإنفاق الكلي من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري والصدقي – بشقيه الاستهلاكي والاستثماري – ويحتل الإنفاق الاستهلاكي النسبة العظمى من الإنفاق الكلي. والإنفاق الكلي يساوي الناتج الكلي. ويقول الغزالي: «فبدون إنتاج لا يوجد دخل أو كسب، وبدون كسب لا يوجد إنفاق، وبدون إنفاق لا يتصور وجود أسواق، وبالتالي لا يتولد إنتاج، ومن ثم، لا تقوم أصلًا دورة النشاط الاقتصادي. فالحض على الإنفاق بمكوناته وضوابطه إذن حض على الإنتاج والكسب، أي دفع العجلة لإعمار الأرض». [1]

ونتناول فيما يلي مسألتي الإنفاق الاستهلاكي وسلوكيات المستهلك في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة.

الإنفاق الاستهلاكي في القرآن والسنة

من الآيات القرآنية التي تحض على الإنفاق، يقول الله عز وجل:

﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ﴾
(طه: 81).
﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
(آل عمران: 134).
﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾
(الإسراء: 29).

ويُستنبط من هذه الآيات ما يلي:

  • إن الإنفاق الاستهلاكي وفق المنهج الإسلامي يكون في أوجه الإنفاق المشروعة، وأول عنصر أن يكون في الطيبات.
  • إن الإسلام يحض على الإنفاق الصدقي، والمعروف أن إعطاء الفقير يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي؛ لأن الميل للاستهلاك عند الفقير يكون أكبر من الغني؛ حيث تؤدي زيادة الدخل للفقير إلى زيادة الاستهلاك بنسبة أكبر من الغني.
  • التوسط في الإنفاق الاستهلاكي على المستوى الفردي من دواعي الفلاح، ويؤدي إلى عدم الندم، وتأمين المستقبل.

وفي السنة الشريفة، يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

لا تَزُولُ قَدَمَا عَبد يَومَ القيامة حتى يُسألَ عن عمره فيمَ أفناه، وعن عِلمِهِ فِيمَ فعل، وعن مَالِهِ من أينَ اكتَسَبهُ وفِيمَ أنفَقَهُ، وعن جِسمِهِ فِيمَ أبلاه. [2]
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. [3]
إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا. [4]

ويُستنبط من هذه الأحاديث ما يلي:

  • إن العبد سوف يُسأل مرتين عن المال؛ كيف اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ ولا بد من العمل؛ على أن يُكتَسب المال ويُنفَق بالقيود والضوابط الشرعية.
  • ينظر الإسلام إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنه بلاء، والمستكفي يعيش أكثر اطمئنانًا وأمنًا.
  • يجب تطبيق الضوابط الشرعية في الإنفاق؛ على مستوى الأسرة ومنظمة الأعمال والدولة لتجنب الخلل في الميزانية.

وتوجد قواعد للإنفاق يجب الالتزام بها. يقول الله تبارك وتعالى:

﴿ ليُنفِق ذو سَعةٍ من سَعتهِ ومن قُدِر عليه رزقُهُ فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً﴾
(الطلاق: 7).
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾
(الفرقان: 67).
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
(البقرة: 286).
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
(المؤمنون: 33).

ويُستنبط من هذه الآيات ما يلي:

  • من مسئولية الرجل الإنفاق على أهل بيته – زوجته وأولاده – باعتدال، وحسب العادات والبيئة والقدرة المالية.
  • يجب أيضًا ألا يُكلف الزوج في الإنفاق فوق طاقته، وعلى الزوجة أن تدبر النفقات في حدود الكسب – الإيرادات – حتى يحدث التوازن بين الكسب والإنفاق.
  • يجب تجنب النفقات التي تنطوي على ترف غير مشروع، والتي لا يقابلها منفعة مشروعة.

سلوكيات المستهلك في القرآن والسنة

إن سلوك الأفراد هو العامل الحقيقي؛ الذي يكمن وراء المشاكل الاقتصادية، ويمثل عائقًا أمام التنمية. وهذا السلوك له الدور الرئيس في الاستهلاك، والادخار، والاستثمار.

ويُعرف سلوك المستهلك بأنه مجموعة التصرفات التي تصدر عن الأفراد، وهي مرتبطة بشراء السلع والخدمات، وعملية اتخاذ القرار بشأنها.

وتوجد فروق أساسية بين النظامين الإسلامي والرأسمالي في موضوع سلوكيات المستهلك، وهي: فروق من حيث غاية المستهلك، وفروق من حيث القيم العقيدية والأخلاقية والسلوكيات الإسلامية، وفروق من حيث العادات والتقاليد، وفروق من حيث القيود والعوامل الخارجية التي تؤثر على المستهلك. [5]

ومن الآيات الدالة على سلوك المستهلك؛ يقول الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ⁕ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ⁕ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
(البقرة: 278 – 280).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
(آل عمران: 130).
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
(القصص: 77).

يستنبط من هذه الآيات ما يلي:

  • إن أهم شرط لتحقيق الفلاح؛ هو تنظيف المال من الربا، ثم تقوى الله تعالى.
  • يجب الاستعانة بالله في كل عمل، وأن يكون المؤمن مُنصاعًا للأحكام التي أنزلها الله تعالى ولما سنه رسوله (صلى الله عليه وسلم) من تشريعات.
  • تتمثل غاية المستهلك في تحقيق التوازن بين الإشباع الروحي والإشباع المادي، وبين متطلبات الدنيا والعمل للآخرة.

ويقول الله عز وجل:

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾
(الأعراف: 32).
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
(آل عمران: 180).
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(الحشر: 9).
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾
(البلد: 17).
﴿ لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾
(الأحزاب: 24).
﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾
(الإسراء: 37).

ويستنبط من الآيات السابقة ما يلي:

  • إن القيم الإيمانية والأخلاقية هي التي تحدد سلوك المستهلك، بجانب العوامل الاقتصادية الأخرى. ويؤمن الفرد المسلم بأن الله تعالى مالك كل شيء وإليه الأمر، وأن الإنفاق يجب أن يكون في طاعة الله تعالى.
  • المستهلك المسلم الملتزم يتصف بمكارم الأخلاق؛ فهو صبور عند الأزمات، ويحب الإيثار والخير للآخرين، كما أنه رحيم بالآخرين، وصادق الوعد، كما أنه كريم، ومتواضع في استهلاكه.

وفي السنة الشريفة:

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما شَبِعَ آل محمد (صلى الله عليه وسلم) مِن خُبزِ شَعيرٍ، يَومينِ متَتَابِعَينِ، حتى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)». [6]
وقد دخل عمر بن الخطاب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «وإنَّه لَعلى حصيرٍ ما بينه وبينه شيءٌ، وتحت رأْسهِ وِسادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عندَ رجليهِ قَرَظًا مصبورًا، وعند رأْسِهِ أَهَبٌ مُعلقةٌ، فرأَيْتُ أثَرَ الحصير في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيصرَ فيما هما فيه، وأَنت رسولُ اللَّهِ، فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدنيا ولنا الآخرة؟» [7]

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ ﴿يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وقالَ ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يَدَهُ إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُهُ حرامٌ ومشرَبُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغُذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك. [8]

يستنبط من الأحاديث السابقة وغيرها ما يلي:

  • وجوب التقشف وقت الأزمات، والاعتماد على الذات، وعدم اللجوء إلى الاقتراض إلا لضرورة معتبرة شرعًا.
  • الإنفاق يكون وفقًا لنظام ترتيب الأولويات، ويجب التركيز على الإنفاق على الضروريات والحاجيات، وتجنب الكماليات، ويكون ذلك على مستوى الفرد أو الأسرة او المجتمع أو الأمة حتى لا يحدث خلل في الحياة.
  • الاهتمام بالتنمية الروحية؛ لأنها من البواعث لتحقيق التنمية الاقتصادية.
المراجع
  1. عبد الحميد الغزالي، حول المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، 1409هـ = 1989م، ص81.
  2. حديث أبي برزة السلمي: جامع الترمذي برقم 2417 (حديث صحيح).
  3. من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه: جامع الترمذي برقم 2346 (حديث حسن). ومعنى حيزت له الدنيا، أي جُمِعت له الدنيا.
  4. رواه البخاري في صحيحه برقم 56.
  5. بدوي فهمي محمد علي، الضوابط الإسلامية لحماية المستهلك بين الفقه الإسلامي والتطبيق المعاصر، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد الدراسات الإسلامية، 1414هـ = 1994م، ص 33 – 40.
  6. رواه مسلم برقم 2970.
  7. من حديث عُبيد بن حُنين أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يحدث بهذا الحديث: رواه البخاري برقم 4913.
  8. حديث أبي هريرة: ورد في جامع الترمذي برقم 2989 (حديث حسن).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.