محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2018/3/30
الكاتب
أنتونيا ماكارو

صارت العبارة اللاتينية «ميمينتوموري»[1] (الدعوات التي تُناشدنا بتأمُّل فكرة أنه سيصيبُنا الفناء) أمرًا عاديًّا على مر التاريخ. اعتبر المذهبان الفلسفيان القديمان -البوذية والرواقية- أن تَأمل الموت أساسي في مناهجهما.

إن نقطة الانطلاق بالنسبة لكل منهما هي حقيقة مفادها أن الطريقة الاعتيادية التي ننظر من خلالها للقيم مصابة بخلل كبير؛ هذا لأننا لا نتوقف عن التوق إلى / أو النفور من أشياء لا أهمية لها في الحقيقة. أدرجت النصوص البوذية تلك الأشياء في قائمة مرتبة ضمت كلًّا من: الخسارة والمكسب، الشهرة وسوء السمعة، المدح والذم، والمتعة والألم. وقد كان لدى الرواقين تعبير واحد تُرجِم إلى: «الأشياء اللا فارقة»[2]

إن الأشياء التي نكون حريصين على السعي وراءها -مثل الغِنى والامتلاكات المادية والمتع الحسية والراحة والنجاح ورضا الآخرين والحب … إلخ- هي التي من الممكن أن تخذلنا أو تلهينا عما يعنينا حقًّا، ألا وهو تطورنا الروحي والأخلاقي.

لكن القول بأنه لا ينبغي لنا قضاء أعمارنا في الجري خلف تلك الأشياء ليس كافيًا. إن رغباتنا قوية ومتأصلة داخلنا، كما أن كلا المذهبين يعلِّمان أن البدء في تحطيم تلك الرغبات يتطلب ما هو أكثر من الاتكال على العقل. إنه يحتاج إلى التأمل المستمر في مشاهد حية بل صادمة، تجعل هذا الأمر يصل لمستوى عميق داخلنا. ومن هنا، أتى دور التفكير في الموت.

واحد من أمثلة التأمل المثيرة للدهشة، هو عملية تأمل الجثث التي تناولها الكتاب البوذي: «حوار حول أساسيات التأمل الواعي»[3]. في الهند القديمة، كانت الجثث تُوضع داخل «مقابر مفتوحة»، وعلى الناس أن يراقبوا مراحل تحللها المُتعاقبة.

يجب على النص أن يُقدم قبل كل شيء مشهدًا شاملًا ومُفصلًا:

يوضع الجسد في المقبرة المفتوحة، يظل على حاله لمدة يوم أو اثنين أو ثلاثة، ثم ينتفخ، يشحُب لونه، ويُطلِق ما فيه من أحشاء. يتغذى عليه الغربان، الصقور، النسور، الكلاب، الثعالب، أو الأنواع المُختلفة من الديدان، فينتهي به الأمر لأن يصير حفنة من العظام العفنة التي تتفتت وتتحول إلى ثرى. يُذَكِّر الراهب نفسه فور مراقبته لتلك العملية بأن: هذا الجسد أيضًا يمتلك الطبيعة نفسها، ستكون حالته كحالة ذلك الجسد، فهو لن يُستثنى من مُلاقاة ذلك المصير.

توجد رسائل التذكرة بالموت في كل مكان في الأدب الرواقي، وإن كانت في الأغلب أقل تفصيلًا. كان أكثر ما اقترب فيه الرواقيون من تلك الأوصاف المُفصَّلة في كتاب «التأملات» لـ «ماركوس أوريليوس»:

لتضع في اعتبارك أن ما من شيء موجود إلا وقد أصابه الوَهَن بالفعل، ومن ثَمَّ فإنه سيخضع بالتبعية للتحلل والتعفن. أو أن كل شيء قد ولِد ليموت.

لقد كان رأيه سديدًا أيضًا حينما وصف الحياة الإنسانية بكونها:

سريعة وتافهة. كُنت في الأمس نُطفة، وفي الغد ستصير جثة مُحنطة، ثم بعدها رماد.

يقدم لنا إيبكتيتوس نصيحة أن نضع دائمًا الموت في حُسباننا:

عليك أن تضع الموت والفناء نصب عينيك يومًا وراء يوم، هو وكل الأشياء التي قد تبدو لك مُزعجة، ولكن على الموت أن يسبق كل شيء آخر؛ وقتها لن ينال منك أي اعتقاد بائس، أو رغبة تفوق مقدرتك.

تَهدف تلك التأملات إلى تنبيهنا لحقيقة أن الأشياء التي نجدها جذابة ومرغوب فيها «تبدو براقة من الخارج، بينما هي في حقيقتها وضيعة»، هكذا كان يرى سينيكا. تُعد الممارسات التي تحث على التجرد من التعلق بالأشياء المادية بمثابة استعداد لملاقاة الموت؛ بحيث يُصبح من السهل علينا، إذا أدركنا عدم أهمية تلك الأشياء، تَقبُّل فكرة أننا لن نكون موجودين في القريب العاجل لنتمتع بها.

كان القدماء على دراية بأنه يجب التعامل مع تلك الممارسات بحرص. فقد كان الغرض منها تحقيق السكينة لا الاشمئزاز. يُحذرنا بوذا ويقول إنه إذا أدى ذلك النوع من التأمل إلى كره الذات، فعلى الراهب أن يلجأ إلى نوع آخر.

للتوضيح، استعرضت إحدى النقاشات حالة لمجموعة من الرهبان الذين انخرطوا بحماسة شديدة في تأمل «لا جاذبية» الجسد، لدرجة جعلت البعض منهم يقتل نفسه. عندما علم بوذا بما حدث، قرر أن يعلِّم الناجين ممارسة أكثر سلامًا للتأمل الواعي.

نحتاج أن نُنبه أنفسنا، كما نصحنا بوذا، إلى احتمالية أن يكون تأمل الموت مؤذيًا، إذا أسرفنا في القيام به أو إذا قُمنا به في حالة روحية أو عقلية غير جيدة. ولكن لماذا نقوم به من الأساس إذا كُنا غير بوذيين وغير رواقيين؟

لا يرى الجميع أن الاستعداد للموت فكرة جيدة. سخر «ميشيل دي مونتين» من هذه الفكرة في كتابه «حول علم الفراسة» (1580)، وقال إن مثلها مثل ارتداء معطف من فرو في فصل الصيف، لأننا سنحتاجه في ليلة عيد الميلاد: «من المؤكد أن معظم استعداداتنا للموت تُلحِق بنا عذابًا أكثر منها تُعيننا على تحمله». [4]

فلماذا نُثقِل كاهلنا بأفكار تخص موتنا، بينما نحن في استطاعتنا أن نستمتع بالحياة ولنترك النهاية تتولى أمر نفسها؟

على الرغم من أن وجهة النظر هذه تروق لنا، فإن هناك أسبابًا تدفعنا لأن نضع الفناء نصب أعيننا. طبقًا لما جاء في كتاب «التحديق في الشمس» (2008) للطبيب النفساني الوجودي «إيرفن يالوم» [5]. فالخوف من الموت يُرافقنا طيلة الوقت، سواء أدركنا هذا أم لم نُدركه. حتى إن كُنَّا لا نعبأ بشأنه، فالخوف من الموت يتسلل إلينا في صور تَنَكُّرية عديدة. هذا ما يجعلنا نشغل أنفسنا عنه عن طريق السعي وراء الغِنى والمكانة الرفيعة، فعلى سبيل المثال، نبحث عن سلوان من خلال التوحد مع شخص آخر أو قضية ما. لكن حالة الإنكار هذه «دائمًا ما يكون لها ثمن: تقييد حياتنا الفكرية، وتشويش رؤيتنا، وتعطيل عقولنا. وإذا بنا نجد أن خداع الذات قد تمكَّن منا في النهاية».

نفيق أحيانًا من إنكارنا عند حلول كارثة عظيمة، من قبيل الإصابة بمرض خطير أو فقدان الأحبة، أو أي حادث دنيوي جلل.

يقول «يالوم» إنه من شأن تلك التجارب أن تبعث فينا -على غير توقع- نوعًا من الصحوة التي تجعلنا ننسى همومنا العابرة، نُعيد ترتيب أولوياتنا فيما يتعلق بما يعنينا في الحياة، وتزيد من تذوقنا للجمال الموجود حولنا: «بالرغم من أن الحقيقة المادية للموت تهلكنا، فإن فكرة الموت تُنجينا».

يقول «يالوم» إننا لسنا في حاجة لانتظار الوقوع في تجربة فاصِلة. فمن الممكن أن يتغير فهمنا للأبد إذا واجهنا حقيقة فنائنا عن طريق العلاج النفسي أو تأمل الموت. نعم، من المُحتمل أن تُثير فينا تلك العملية شيئًا من القلق، لكنها في النهاية تستحق العناء لأنها قادرة أن تجعل حياتنا أكثر ثراءً وإشراقًا.

إذا شددنا على فكرة أن الزمان يمر بنا سريعًا، فمن الممكن أن يُعيننا تأمل الموت على وضع الأمور في نصابها، وتقدير اللحظة الحالية أكثر. وبإمكانه أن يُنبهنا إلى فكرة أن الأشياء التي نستنفِد فيها وسعنا ليس لها قيمة؛ مظاهرنا، وسيرتنا المهنية، ومقارنة إنجازاتنا بإنجازات أقراننا، وإشباع رغباتنا الجسدية، والشجار مع الجيران والتجار.

لخص «ماركوس أوريليوس» هذه النقطة جيدًا:

فلتتذكر قائمة الناس الذين رحلوا عن الحياة. ماذا جنوا من موتهم في سِن متقدمة؟ في نهاية المطاف، إنهم يرقدون جميعًا تحت التراب.

من الممكن أن ينال الموت منا في أي وقت؛ وكما يُحب «سينيكا» أن يُذَكِّرنا:

لا توجد طريقة تَعلم من خلالها أين يقبع الموت في انتظارك، لذا عليك توقُّع أن الموت سيُدرِكك في أي مكان.

ولكن لا ينبغي لهذا الاعتقاد أن يجعلنا مهمومين بشأن الجانب التعس من الحياة الإنسانية. على النقيض، فإن في استطاعة ذلك الجانب أن يفتح أمامنا الطريق للتسليم التام به، ولإدراك أنه من الأجدر بنا أن نُحسِن استغلال جميع ما تمتلكه أيدينا في الوقت الحاضر.

هذا يختلف عن «مذهب المتعة» [6] المعسول، بل هو مفهوم حلو مر، مفاده أن أي متعة في الحياة سيمتزج بها الموت والانقضاء السريع بشكل دائم وحتمي.

المراجع
  1. Memento Mori: عبارة لاتينية الأصل تعني: «تذكّر إنك ستموت». يُشير هذا التعبير إلى الأعمال الفنية الرمزية التي تُذكّرنا بحتمية الموت. ومن المعروف أن أصل العبارة يعود إلى رواية تقول إن العبيد في الهند القديمة كانوا يرافقون قادتهم المُنتصرين في مواكبهم، ليهمسوا بتلك العبارة في آذانهم، ليذكّروهم بموتهم، وذلك حتى لا تخدعهم انتصاراتهم وثقتهم بأنفسهم، فينسوا أنهم سيرحلون عن الحياة.
  2. يُعرَف ذلك المصطلح في الإنجليزية باسم: Indifferents. والمقصود به مجموعة الأشياء أو الأحداث الخارجية التي تقع خارج نطاق تحكمنا الإنساني. ويجب على الإنسان ألَّا يعبأ بمثل هذه الأشياء أو الرغبات لأنها -في نظر الرواقيين- غير نافعة، بل هي تقف عقبة في طريق الوصول للحكمة والكمال.
  3. هو معروف في الإنجليزية باسم: “A Discourse on Establishing Mindfulness/The Discourse of Four Foundation of Mindfulness”. والاسم الأصلي للكتاب الذي استعانت به الكاتبة هو: Satipatthana Sutta.
  4. On Physiognomy, Michel de Montaigne.
  5. Staring at the Sun: Overcoming the Terror of Death, Irvin D. Yalom.
  6. (مذهب اللذة / المُتعة) Hedonism: مذهب فلسفي يوناني له فروع مُختلفة تُركز في أساسها على السعي وراء المُتعة وتجنب الشعور بالألم.