لم يكنْ الأبناء الوَرَثَة من البيت الأيوبي كالآباء المؤسسين في حفظ البلاد ورعاية مصالح العباد، وقد لخص «القاضي الفاضل» ذلك في مقولته الشهيرة عن هذا البيت:

فإنَّ الآباء منه اتفقوا، فملكوا، وإنَّ الأبناء منهم اختلفوا، فهلكوا، وإذا غَرَب نَجمٌ فما في الحيلة تشريقه، وإذا بدأ خريق ثوبٍ فما يليه إلا تمزيقُه، وهيهات أن يُسَدَّ على قَدَرٍ طريقُه، وقد قُدِّر طروقُه، وإذا كان اللهُ مع خَصْمٍ على خَصْمٍ، فمَنْ كان اللهُ معه فمَنْ يطيقُه.

فقد أضاع الأبناء منهم دُرَّة فتوح «صلاح الدين»، والتي سعى أخوه «العادل أبو بكر» (596-615هـ) جاهدًا للحفاظ عليها، بالدهاء السياسي تارةً، وبالحرب تارةً أخرى، وبعد أن تراوحت فترة حكم العادل بين الحرب والسلم، تخلى لطلائع الحملة الصليبية الخامسة (المعروفة بالحملة الهنغارية) عن مدينة بيسان الفلسطينية سنة 614هـ = 1217م، وفرَّ هاربًا إلى مرج الصُّفَّر قرب دمشق، ثم في آخر جمادى الأولى سنة 615هـ = 1218م استولت هذه الحملة على برج السلسلة بدمياط، وقد كان قفل الديار المصرية وقتئذٍ، فدقَّ العادل بيده على صدره أسفًا وحزنًا، ومات كمدًا.


الملك الكامل: الحاكم الذي تنازل عن بيت المقدس بعد أن حرره صلاح الدين

بعد موت العادل تولَّى ابنه الكامل محمد (الأول) حكم مصر، وسانده أخواه: «المعظم عيسى» صاحب دمشق، و«الأشرف موسى» صاحب البلاد الشرقية (حرَّان، وخِلاط، ومَيَّافارِقين) في التصدي للفرنج. ثم بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهرٍ استطاع الكامل أن يستعيد دمياط، بعد أن تصالح معه الفرنج، لمَّا أعيتهم كل الحيل، فرجعوا بخُفِّي حُنَيْن.

ولم تلبثْ محنة دمياط أن تزول، حتى دخل الإخوة الثلاثة في شقاقٍ وصراع شديد؛ إذ فسدت نياتهم، خاصة بعد بقاء الأشرف بمصر، فظن المعظم أن أخويه قد اتفقا على إبعاده عن حكم دمشق، فأرسل سرًّا إلى «جلال الدين خُوَارزم شاه»؛ ليتقوَّى به على أخويه، ثم أرسل إلى أخيه الرابع «شهاب الدين غازٍ»، نائب الأشرف على البلاد الشرقية، يحثه على عصيان الأشرف، فاستجاب له، فأسرع الأشرف بالعودة إلى مُلكه.

عندئذٍ حثَّ المعظمُ جلالَ الدين على الاستيلاء على مدينة خِلاط بالأناضول؛ كي يتمكن من التفرغ للكامل إنْ قصده من مصر، فكان من نتائج هذه السياسة أن تفكك التحالف بين الكامل والأشرف، فلجأ الأخير إلى المعظم، وصالحه، وسأله أن يطلب من جلال الدين فكّ حصاره على خِلاط، فتمّ له ذلك.

وعلى إثر ذلك، انتقلت المخاوف إلى الكامل، فظن أن المعظم بات يهدد مصرَ في ظل تحالفه مع جلال الدين، لذلك أرسل إلى الإمبراطور «فريدريك الثاني» – صاحب صقلية، والمحروم من الكنيسة – يطلب منه القدوم إلى عكَّا، ويعده أن يعطيه بيت المقدس، وكان فريدريك قد تزوج في سنة 622هـ = 1225م من «إيزابلا»، وريثة ما تبقى من مملكة بيت المقدس، وهذا جعل له الحق في إدارتها، فلما جاءه رسول الكامل تجددت رغبته في أخذ بيت المقدس، وسارع بإيفاد رسوله إلى الكامل في سنة 624هـ = 1227م، فرحب به أيمَّا ترحيبٍ.

وفي ظل تلك الأجواء مات المعظم عيسى فجأةً في أول ذي الحجة سنة 624هـ، ومن المؤكد أن الكامل عندئذٍ ندم ندامةَ الكُسَعِيّ، إذ مات خَصمه العنيد الذي كان وراء استدعائه لفريدريك، ومع ذلك سلَّم له القدس صفوًا عفوًا، بموجب (اتفاقية يافا)، أُبرمت في يافا في 22 شهر ربيع الأول سنة 626هـ = 18 فبراير/شباط 1229م، ومدتها عشر سنوات، ودافع الكامل عن تسليمه بيت المقدس بأن الفرنج لا يمكنهم الامتناع به مع خراب أسواره، وأنه إذا قضى غرضه، واستتبت له الأمور، سوف يطهره منهم، وقال:

وبدلًا من محاولة التفكير في استعادة بيت المقدس اتجه الكامل إلى دمشق؛ لمحاربة حاكمها الأيوبي الجديد، «الناصر داود بن المعظم عيسى»، الرافض لأمر التسليم، حتى إنه جعل «سِبط ابن الجوزي» – أداته الإعلامية – يشنع في مجلس وعظه بجامع دمشق على فعلة الكامل.

فقدم الكامل بجيشه دمشق، وحاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلمت له في أول شعبان سنة 626هـ، فسلّمها لأخيه الأشرف موسى بعد أن تنازل له الأخير عن عدة مدن من بلاده الشرقية، ورحل الناصر داود إلى قلعة الكَرَك يجر أذيال الهزيمة. هذا هو الكامل محمد (الأول)، بدأ حكمه وهو يحاول التخلص من الفرنج في دمياط بأية وسيلةٍ كانت، وأنهاه بتسليم بيت المقدس لهم!


هكذا كان الأول، فكيف كان الثاني؟

إنَّا لم نسمحْ لهم إلا بكنائس وآدر خراب، والحرم وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدي المسلمين على حاله.

أما الكامل محمد (الثاني) – سُمِّي الكامل الأول – فهو ابن شهاب الدين غازي بن العادل، حاكم مدينة مَيَّافارِقين (سلوان الحالية في ديار بكر بتركيا)، ناضل عدوًا آخر في تلك الجبهة، فأعاد للأذهان شجاعة آل شاذي الأُول من الأيوبية والأسدية، فبعد أن سقطت بغداد بأيدي المغول سنة 656هـ = 1258م، اتجهت عساكر المغول، بقيادة «يشموت بن هولاكو»، إلى ميافارقين، وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم؛ إذ بنوا في يومٍ وليلة سورًا عاليًا حولها، وحفروا خندقًا عميقًا، ثم نصبوا عليها المجانيق، وأخذوا يمطرونها بوابلٍ من الحجارة، ظانين أنها لن تصمد أمامهم طويلًا.

فتصدى لهم الكامل محمد بكل ثباتٍ، وقاتل مع عسكره قتالًا شديدًا، وحين رأى المغول حصانة المدينة، وأنه لن يمكنهم أخذها بضربةٍ قاضية، ضربوا عليها الحصار، ومنعوا الناس من الدخول إليها والخروج منها، واستمر الحصار قرابة عامين، قاتل أهلها وصاحبها بشجاعةٍ وعزيمة، حتى فتك الجوع والمرض بهم؛ من شدة الحصار وطوله.

فدخل المغول المدينة أخيرًا، وأسروا الكامل محمدًا بعد أن وجدوه طريح الجوع مع مَنْ بقي من أصحابه، ثم جاءوا به إلى هولاكو في تل باشر (في تركيا الآن)، وهو في طريقه إلى فارس، فقتله بيده، وبعث برأسه ليُطاف به في البلاد، فوصل هذا الرأس دمشق يوم 27 جمادى الأولى سنة 658هـ = 1260م، فطِيف به في حاراتها وأزقتها بالمغاني والطبول، وقد رُفع على رمحٍ قصير، وعُلِّق بشَعره قطعةٌ شبكة، كتبوا اسمه عليها، ثم عُلِّق في نهاية المطاف على باب الفراديس بقلعة دمشق.

وقد رثاه المؤرخ «أبو شامة» في «مذيله»، وشبّهه بـ«الحسين» قائلًا:

ابن غازٍ غزا وجاهد قومًا .. أثخنوا في العراق والمَشرقينظاهرًا غالبًا ومات شهيدًا .. بعد صَبْرٍ عليهم عامين لم يَشِنْه أنْ طِيْفَ بالرأس منه .. فَلَه أُسوةٌ برأسِ الحُسين

وقد ظل هذا الرأس معلقًا على باب الفراديس مدة أربعة أشهر، فلم يُنزلْ إلا في 29 من شهر رمضان سنة 658هـ، أي بعد كسرة المغول في عين جالوت وبيسان، وهروبهم من دمشق، ثم دُفن الرأس داخل باب الفراديس، قرب المكان الذي كان يُقال إن رأس الحسين قد دُفن فيه.

ومع ذلك، فالكامل محمد (الأول) له من المحاسن ما يعد عظيمًا، فبجانب تأسيسه مدينة المنصورة باسم جزيرة الورد سنة 616هـ = 1219م، وسعيه الحثيث لتحرير دمياط سنة 618هـ = 1221م، جعل باب الكعبة المشرفة مفتوحًا أمام الحُجَّاج؛ فقد كان من عادة الحجاج في ذلك الوقت أن يصلوا ركعات في جوف الكعبة، فكان سدنتها من بَني شيبة يستغلون ذلك، فيأخذون مالًا مقابل فتحهم بابها لمن أرادوا أو يغلقونه دونه، فكان الحجاج يتكدسون عند فتح الباب، فرأى الكامل أن يبقي بابها مفتوحًا ليلًا ونهارًا، فأرضى بَني شيبة بمالٍ يعوضهم عما كانوا يأخذونه من الحجاج.

ويرى المؤرخ الألماني «إرنست كانتروسز – Ernst Kantorowicz» في كتابه «Frederick II» أن الكامل الأول كان يسبق عصره الذي عاش فيه؛ إذ غلبت عليه شخصية الحاكم المثقف الإداري، الذي يعنى بالإصلاح ونشر العلم وحرية الفكر وإنشاء المدارس والمعاهد، أكثر من عنايته بالحروب، وكان لا يلجأ إلى السيف إذا استطاع أن يحلَّ مشكلاته بالسياسة والطرق السلمية، ووصفه بأنه صورة شرقية من الإمبراطور فريدريك الثاني، وأن فريدريك كان صورةً غربية منه.

على أية حالٍ، شتَّان بين ذينك الكاملين، وإنْ كانا من أسرةٍ واحدة، فصدق النبي فهو القائل كما جاء في «صحيح مسلم»: «مَنْ بَطَّأ به عملُه، لم يُسْرِعْ به نسبُه».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.