القافلة في بغداد

في أكتوبر 2010، كان العرض الرسمي للفيلم الأمريكى «لعبة عادلة Fair Game» الذي يحكي عن فاليرى، عميلة الـ CIA التي كانت تحاول-زعمًا- إثبات عدم امتلاك العراق لأي برامج خاصة بأسلحة الدمار الشامل. ولم يكن هذا الأمر إلا حلقة من حلقات البروباجاندا الأمريكية التي بدأها أوباما منذ وصوله لسدة الحكم لتبرئة الإدارة الأمريكية من حرب العراق، ومحاولة إظهارها كقاتل يطلب الصفح من المقتول.

ببساطة سينمائية، تخرج البروباجاندا الأمريكية لتبرير احتلال العراق وتشريد وقتل وتعذيب الملايين، وتصوير الأمر على أنه مجرد لعبة متكافئة وعادلة؛ وهو ليس بسلوك طارئ على طبيعة عمل الإدارة الأمريكية لوجود أول رئيس أسود في تاريخها مثلًا. فكم من الأفلام والدعايا التي خرجت من تلك الأبواق بعد الهزيمة المذلة في حرب فيتنام لوضعها في سياق درامي مناهض للحرب وأشكالها، إلا أنها لم ولن تغير من سياسة الإدارة الأمريكية، ومن خلفها الطبقة الحاكمة العالمية، للعدول عن فرض سياسات السوق الحرة، سواء عن طريق سياسات صندوق النقد الدولي، أو عن طريق القوة العسكرية، على أي من بلدان العالم الثالث.

العديد من الأسئلة قد طرحت في دوائر حزبي الطبقة الحاكمة في أمريكا عن مدى الاستفادة التي قد جاءت من حرب العراق، أو عن أخطاء إدارة بوش في اتخاذ قرار الحرب؛ وهو الأمر الذي ظل يؤكد عليه أوباما طيلة فترتي حكمه. لكن كل هذا لم يستطع الإجابة على هذا السؤال: هل كانت لعبة عادلة ومتكافئة حقًا؟


الديكتاتور : Made In U.S.A

مع صعود الإسلاميين وقيام ديكتاتورية ولاية الفقيه بعد الإطاحة بنظام ديكتاتورية الشاه بسبب الثورة في إيران، صارت أمريكا هي «الشيطان الأكبر» على حد وصف آية الله الخميني. وزادت حدة التوترات خاصة مع حادثة السفارة الأمريكية الشهيرة في طهران.

بدأت الإدارة الأمريكية في إعداد وصناعة ديكتاتورها الجديد في المنطقة، ولم يكن هنالك أصلح من صدام ونظامه البعثى للقيام بهذا الأمر، وذلك بسبب العلاقة السابقة بينه وبين الإدارة الأمريكية والمخابرات البريطانية MI6، وتدبير انقلاب 8 فبراير 1963 للإطاحة بعبد الكريم قاسم والنظام الشيوعي الجديد فى العراق، ثم انقلاب يوليو 1968 الذي أوصل حزب البعث إلى سدة الحكم «على قطار وكالة المخابرات المركزية CIA» وفق تعبير صالح السعدي، أحد قادة حزب البعث وقتها.

وسواء في فترة حكم أحمد حسن البكر، أو صدام فيما بعد، تبنى النظام البعثي خطابًا قوميًا في مواجهة المعارضة العراقية، وعمل على تصوير الأمر باعتبار أن النظام البعثي العراقي هو الوحيد القادر على قيادة المنطقة؛ خاصة مع تقهقر الدور المصري بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيونى. وعلى الرغم من هذا الخطاب «الحنجوري»، إلا أن النظام البعثي -كبقية أنظمة المنطقة- أثبت أنه كان متعاونًا بشكل كبير مع أطراف الطبقة الحاكمة العالمية على حساب الشعوب في المنطقة و العالم بأسره، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية.

استخدام الديكتاتور: الحرب العراقية الإيرانية

كانت مشكلة «شط العرب» -النفطية بالأساس- بين العراق وإيران هي بداية حرب الثمان سنوات المستعرة، وتم تصوير صدام ونظامه البعثي وجيشه المسلح من قبل الاتحاد السوفيتي في جميع وسائل «البروباجاندا الأمريكية» على أنه الحليف المناصر لأمريكا في معركتها ضد الشر الإيراني.

بالطبع لم تكن مصافحة دونالد رامسفيلد لصدام حسين أثناء زيارته لبغداد فى 20 ديسمبر 1983 إلا إشارة عن مدى التعاون والتنسيق بين الطرفين وقت الحرب؛ وهو الأمر الذي يمكن التأكد منه بسهولة من تصريحات رامسفيلد أثناء تلك الزيارة بأن «أي مس بثروات العراق يعد هزيمة استراتيجية للغرب»، وأن «واشنطن كانت جاهزة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين». وهو الأمر الذي أجاب عليه رامسفيلد في سبتمبر 2002 بأن شيئًا مثيرًا للاهتمام كونه كان في بغداد وقتها، وواقع الأمر أنه كان «يحذر صدام من استعمال الأسلحة الكيميائية»!

لكن واقع الأمر ينفض الغبار عن أكاذيب رامسفيلد والإدارة الأمريكية. فإدارتا ريجان وبوش الأب كانتا تقومان بتمويل ومساعدة صدام على مستوى التسليح وعلى المستوى الاستخباراتي بشكل كبير طيلة سنوات الحرب. فعلى سبيل المثال، لم تكن الإدارة الأمريكية تشير للعراق في أي إدانة تتعلق باستخادم الأسلحة البيولوجية والكيمائية؛ لكنها أطلقت ذلك بشكل عام دون الإشارة لأي طرف كان. فالعراق وقتها سُمح له بلعب دور «مفيد» في الشرق الأوسط وفقًا لنظرة المصالح للإدارة الأمريكية.

وبينما كانت شركة «إكسون موبيل Exxon Mobil» تبدأ اسثماراتها النفطية في العراق وقت الحرب، كان الـ CIA يرسل لصدام صورًا وتقارير عن تحركات الإيرانيين العسكرية، بالإضافة للملف السري الذي أعدته الوكالة عن «برنامج العراق للأسلحة الكيميائية». ويمكن الرجوع هنا لتحقيق مجلة فورين بوليسي Foreign Policy الذي نشر في 26 أغسطس 2013، للاطلاع على حقيقة حجم التعاون الذي حدث مع صدام، وإعطائه الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة الكيميائية.

ولم يكن أعضاء إدارة بوش الابن بعيدين عن كواليس الحرب العراقية-الإيرانية. فكولن باول عندما كان مستشارًا للأمن القومي، أوصى ريجان بإعطاء الإذن لصدام باستخدام الأسلحة الكيميائية وقنابل الغاز السامة. بالإضافة إلى ديك تشيني الذي كان يمثل الجمهوريين في الكونجرس وقتها، وقد منع مرور قانون تطبيق العقوبات على العراق؛ ما اعتبره صدام تفويضًا كاملًا باستخدام كافة الأسلحة الكيميائية القادمة من أمريكا وفرنسا ضد الأكراد والإيرانيين.

كل ما سبق لا ينفي بالطبع مكيافيلية المشهد الأمريكي وقتها في عقد كبار تجار السلاح من أمريكا وأوروبا، وحتى الصين، صفقات مماثلة مع الخميني ونظامه وقت الحرب مع العراق. فنظام الخمينى الذي كان يرى في أمريكا «الشيطان الأكبر»، لم يكن يجد غضاضة في مواجهة جاره بسلاح عدوه «المفترض»، كما برز في فضيحة «Iran-Contra Affair» أو «إيران جيت» ما بين أغسطس 1985 وأكتوبر 1986. وهي صفقات تسليح سرية لإيران بمعدات حربية وصواريخ قادمة من أمريكا والكيان الصهيونى!

على الرغم من شعارات مثل «ضرب إيران بالقنبلة النووية» و«طهران تحتجز أمريكا» التي قد انتشرت في جميع صحف وقنوات البروباجاندا الأمريكية بعد احتجاز 52 رهينة من موظفى السفارة الأمريكية في طهران لمدة عام، إلا أن معادلة «المال مقابل السلاح» أقوى تأثيرًا في صناعة قرار بحرب هنا، أو إيقاف أخرى هناك، من جميع مسارح البروباجاندا الأمريكية، بداية من هوليوود، انتهاء بـ CNN و Fox News.

مغامرة «بنك الاعتماد والتجارة الدولي»

وبعيدًا عن ساحات الحرب، كان التعاون الاقتصادى بين الإدارة الأمريكية وصدام يمضي بخطوات متسارعة في الخفاء. فكان صدام أحد أبرز القوى الاقتصادية الـ «Offshore» [الأوف شور هو عملية نقل الأعمال الاقتصادية من دولة إلى دولة]؛ وليس هناك أدل على هذا الأمر أكثر من مغامرة «بنك الاعتماد و التجارة الدولى» الذي أنشئ منذ عام 1972، واستمر إلى العام 1991، وكانت تتدفق على هذا البنك التمويلات الطائلة من كيانات البترودولار: آل سعود، والشيخ زايد بن سلطان حاكم أبو ظبى.

ذلك البنك الذي كان يعد ملاذًا كبيرًا للاقتصادات الموازية وقت الحرب أو السلم من مخدرات أو سلاح، وتعامل مع صدام حسين بشكل منتظم بداية من العام 1980 في تسهيل تدفق التمويلات الأمريكية والسعودية له؛ ما جعل لصدام مركز ثقل كبير في عالم مافيا الأوف شور.

وبالإضافة لصدام، كان هذا البنك ممرًا آمنًا لعمليات تجارة الهيروين والسلاح في الثمانينات، وأبرزها ما تم في منتصف الثمانينات بين إيران وأفغانستان من جهة، وأمريكا من جهة أخرى، التي كان الشيخ زايد حاكم أبو ظبى وسيطًا بها. ولم تكن الادارة الأمريكية بعيدة عن التحكم في هذا الأمر، فقد تمت شراكة متينة بين البنك و بين الـ CIA، ما أعطاه غطاءً سياسيًا مخيفًا للبعض؛ فضلا عن تمويلات البنك الضخمة لحزب المحافظين البريطاني في الثمانينات، التي كانت تترأس حكومته مارجرت تاتشر وقتذاك.

التخلص من الديكتاتور: غزو الكويت

بعد حادثة الطائرة الايرانية المتجهة إلى دبي التي استهدفتها القوات الأمريكية، ومقتل 290 مدنيًا من ركاب الطائرة، وقعت إيران اتفاق وقف إطلاق النار في 8 أغسطس 1988، ليسدل الستار عن حرب دموية ومستعرة استمرت لثمانية أعوام، مخلفة وراءها أكثر من مليون قتيل وتدمير البنى التحية وانهيار اقتصاد البلدين بشكل كبير.

وما كان الأمر سوى بداية النهاية لصدام ونظام حزبه البعثي على يد من دعموه في وقت الحرب. فبعد العام 1988، بدأت الإشارة إلى استخدام صدام للأسلحة الكميائية والبيولوجية السامة، وبشكل خاص المجزرة التي ارتكبت في بلدة «حلبجة» ضد أكراد العراق، ونتج عنها أكثر من 5000 قتيل.

إلا أن فتح هذا الباب على مصراعيه كان سيكشف الكثير للعالم أجمع؛ خاصة مع علم الإدارة الأمريكية باستخدام الأسلحة الكيميائية وإعطائها الضوء الأخضر له. فما كان من بوش الأب إلا أن منع «قانون أعمال الابادة الجماعية» لعام 1988، الذي أقره الكونجرس، بحملة مضادة شنها هو وحلفاؤه فى الكونجرس لغلق باب الحرب العراقية-الإيرانية.

وفي نوفمبر من العام 1989، أصدر بوش الأب توجيهًا «سريًا» لفتح الباب لوصول مساعدات للعراق بقيمة مليار دولار كقبلة وداع لصدام. لكن الأسوأ لم يأت بعد. فكانت مهمة دفع صدام إلى دخول حرب مع الكويت تقع على السفيرة الأمريكية فى بغداد، أبريل جلاسبي ووزير الخارجية جيمس بيكر، بتأكيدهم في صيف 1990 لأكثر من مرة أن الإدارة الأمريكية «لن تتدخل، وأن ليس لديها رأي في النزاع الحدودي الدائر بين العراق والكويت.

ذلك على الرغم من التواجد العسكري الأمريكي الدائم في منطقة الخليج بعد الحرب العراقية-الإيرانية، فضلا عن المناورات العسكرية التي كانت تتم في صحراء السعودية والإمارات، ما عدّه صدام تفويضًا من الإدارة الأمريكية باجتياح الكويت. أما في الجانب الآخر من العالم، فكانت عملية «شيطنة صدام» تتم على أكمل وجه في وسائل البروباجاندا الأمريكية، بعد أن كان يتم وصفه في السابق بـ «الصديق الحليف» لأمريكا في معركتها ضد الشر الإيراني.

لم يكن صدام زعيمًا مناهضًا للهيمنة الأمريكية قط، بل على العكس؛ فنظامه كان مثل أنظمة بينوشيه في تشيلي، وسوهارتو في إندونيسيا، وحتى نظام الانقلاب العسكري الذي حدث في تايلاند على يد برايوت تشان أوتشا في 2014، ودعمته الادارة الأمريكية بشكل كبير. لكن ما يختلف في حكاية صدام هو أنه عندما تقابلت مصالح البترودولار مع الإدارة الأمريكية، شرعت الأخيرة في القضاء على دميتها. ولم يكن ثمن صناعة الديكتاتور سوى حياة الشعب العراقي وثروات العراق النفطية وغيرها، لصالح الشركات المتعددة الجنسيات والطبقة الحاكمة العالمية.


العراق وتداعيات الربيع العربي: العودة الثالثة للقافلة

جاءت تصريحات و اعتذارات بلير عن حرب العراق في وقت تواجه فيه منطقة الشرق الأوسط تبعات الثورة المضادة العالمية من تفتيت لجوهر حقيقة ثورات الربيع العربي، سواء عن طريق صناعة الإرهاب المسمى «داعش»، أو بتكريس أنظمة قمعية وعودة مقنعة للأنظمة التى قامت عليها ثورات شعوب المنطقة.

فأي تحرك مناهض لطبقية السوق الحرة أو للإمبريالية الجديدة -ممثلة في الأنظمة الرجعية والعميلة في المنطقة- سواء في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص أو العالم الثالث بشكل عام، يمثل تهديدًا مباشرًا لسياسات هيمنة رأس المال العسكري والسياسي على مستوى العالم بأسره. فليس هنالك مخرج إلا وأد تلك الثورات التس أتت بعد تراكمات من حرب الخليج 1991، ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000، ثم احتلال العراق في 2003، بأي ثمن وبأي طريقة مربحة.

و الأمر هنا ليس افتراض نظرية المؤامرة كما يُقال، ويتخذ كحجة دفاع دعائية لأنظمة الثورة المضادة في عملية تشويه ثورات 2011 الممنهجة، بقدر ما هو دفاع عن المصالح السلطوية الحيوية لتلك الطبقات الحاكمة المحلية والعالمية. وصارت «متلازمة سوريا والعراق» الوسيلة المستخدمة لترهيب الجماهير من تبعات أي تحرك مناهض للقمع والرجعية والعمالة، فمن المتآمر حقًا هنا؟ الجماهير التي تسعى للقضاء على الاستبداد والطبقية؟ أم الأنظمة التي تستخدم الخطاب الطائفى كنظام عائلة الأسد في سوريا؟

ولا أحد يدفع حقًا ثمن بقاء تلك الأنظمة سوى من يتعرض للقصف الأمريكي في العراق أو القصف الروسي الأمريكي في سوريا بحجة مواجهة داعش وجبهة النصرة وتخليص العالم من «الإرهاب». والأمر مربح بشكل كبير لتجار السلاح وشركات إعادة الإعمار، وليس أدل على ذلك من وضع خطط إعادة الإعمار في سوريا بشكل رئيسي، والعراق وليبيا واليمن بشكل ثانوي، على رأس جدول أعمال مؤتمر دافوس الاقتصادي الدولي في يناير مطلع العام الحالي.

ومع العمل الحالي على ما يسمى بمعركة «تحرير الموصل» التي من المفترض أن تكون ضربة قاصمة لتنظيم داعش في العراق، تخرج التصريحات «الرسمية» من البنتاجون، وآخرها في 30 أغسطس الماضي، لتؤكد على «تفاؤل» الإدارة الأمريكية بتحرير الموصل قبل نهاية العام الحالي بمشاركة قوات التحالف الدولي ضد «داعش» الذي تتزعمه الإدارة الأمريكية مع كل من قوات الحشد الشعبي والجيش العراقي والبشمركة. إلا أن تغير المشهد على الصعيد الميداني يطرح العديد من التساؤلات عن حقيقة الغاية من «تحرير الموصل» من الإرهاب الأمريكي الصنع، خاصة مع تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية داخل العراق في ظل حكومة حيدر العبادي التى لا تعد سوى دمية يحركها من يشاء كيفما شاء.

لغز داعش

وبالنسبة لتنظيم «داعش»،فالدعم المادي السخى الذى يتلقاه -بشكل سرى- من جانب النظام السعودي وتركيا، أقوى حلفاء الإدارة الأمريكية في المنطقة، يوضح أجندة الثورة المضادة العالمية في عودة مقنعة وتمكين أقوى للنظام السابق كما في مصر، أو التربح من تجارة الحرب على حساب الشعوب كما يحدث من نظام الأسد وحلفائه روسيا وإيران لإطالة أمده في السلطة في ظل تواطؤ معارضة «جنيف» وتحالفها مع الإمبريالية الجديدة، إلى الجرائم التي يرتكبها النظام السعودي في اليمن منذ بداية ما عرف بـ «عاصفة الحزم».

فكل تلك الجرائم التي يشترك فيها أطراف الطبقة الحاكمة العالمية والمحلية هي بعينها الإرهاب الحقيقي، وليست تنظيمات لا تعدوا كونها أداة في يد من يحركها لنشر التطرف وترسيخ أشكال جديدة من القمع وفقًا للمصالح الدولية العليا، بعد أن كانت رياح 2011 قد بدأت في بث مناهضة الإمبريالية الجديدة وموجات تحرر حقيقية واسعة المدى في البداية.

العديد من الفرضيات قد طرحت عن ماهية وجوهر تنظيم داعش وأسباب ظهوره بتلك الكيفية. فبين ما قاله إدوارد سنودن عن تدريب وتجهيز أبو بكر البغدادي والعناصر القيادية في التنظيم على يد خبراء الـ CIA والموساد، وتحت إشراف الجمهوري المحافظ والمؤيد المتعصب للصهيونية، جون ماكين، في مايو 2013 في سوريا، إلى الفرضيات التى تقول أن البغدادي والعناصر القيادية في التنظيم هم في الحقيقة ضباط مخابرات سابقين في فترة حكم نظام صدام البعثي في العراق، وأنه قد تم استخدامهم من قبل كل من الإمبريالية الجديدة، نظام سفاح عائلة الأسد، لوأد الثورة الشعبية التي قد قامت ضده.

وجميع تلك الفرضيات تقبل صحة جانب منها وخطأ الآخر، إلا أن جميعها يوضح حجم التواطؤ المحاك ضد حق شعوب المنطقة في الحرية والخروج من عباءة الأنظمة والطبقات الحاكمة العميلة.

الأمر الآخر المثير للشفقة و السخرية السوداء على أوضاعنا الحالية، هو دخول الكيان الصهيوني في معادلة «محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط» بشكل واضح، بجانب تزايد معدلات الاستيطان في الضفة الغربية بطريقة جنونية. فالعمليات الجوية -سواء الاستطلاعية أو القتالية- فوق الأراضي السورية أو في سيناء بحجة محاربة «داعش» للحفاظ على أمنه القومى لا تلقى إلا غض الطرف عنها، سواء من الأطراف والأنظمة المؤيدة والمتحالفة مع هذا أو المجابهة لذاك، وسط ساحة الحرب الدولية هذه.

فلم تعد نكتة «الممانعة» -رغم استمرارها- تجدي نفعًا زائفًا كما كان في سالف العصر والأوان، وما يتضح اليوم من موجة تطبيع مع الكيان الصهيونى من جانب العديد من دول المنطقة، وبالأخص دول الخليج البترودولارية. فوزير الخارجية «المصرى» يقف بجانب تمثال ثيودور هرتزل مؤسس الفكر الصهيوني دون أي غضاضة منه، من أجل دفع عجلة «السلام الدافئ» للأمام.

كذلك النظام السعودي الذي بدأ فالإعلان عن تطبيعه السري فيما سبق مع الكيان الصهيوني، وإن كان هذا الإعلان يأتي بشكل تدريجي.

كل ما سبق يساعد على تصوير الكيان الصهيوني على أنه «الصديق والحليف» في مواجهة «العدو الأول» له ولشعوب المنطقة، وهو الإرهاب الذي يستخدمه الكيان الصهيوني -ذو الأيدولوجية الدينية المتطرفة والعنصرية- في تسويق دعايته باعتباره «واحة الديمقراطية» وسط منطقة قابعة في الجهل والطبقية والتطرف الديني.

أما بالنسبة لمن يدرك ويعرف حقيقة الأمر -من نخب سياسية وثقافية- من أطماع إمبريالية جديدة لن تعود بالنفع الا على الطبقات الحاكمة العميلة، ويتغاضى عن خطورة هذا الأمر وتبعاته الجيوسياسية الجذرية، فليس له من مفر من حكم الشعب عليه مهما طال أمد الصراع.

قد يقول البعض أني أبالغ بعض الشيء في تقدير الأمور، وأن هناك «أولويات» يجب التصدي لها أولًا، مثل الفكر المتطرف وخلافه، إلا أن الطرف الأخر لديه أولوياته منذ إعلان الحاخام فيشمان فى شهادته أمام لجنة الأمم المتحدة في 9 يوليو 1947 بأن أرض الميعاد أو الدولة اليهودية العنصرية تمتد من فرات العراق إلى نيل مصر.

وكل المشاهد التى صارت اعتيادية اليوم تصب في مصلحة تلك الأولوية بشكل واضح. تلك الأولوية التي لم ولن يكون لها رادع سوى نجاح ثورات شعوب المنطقة مهما طال الزمن. وهي الثورات التي عانت التشويه والتخوين من الطبقات الحاكمة وأنظمتها العميلة منذ أول يوم لها.

المراجع
  1. William R. Clark-Petrodollar Warfare_ Oil, Iraq and the Future of the Dollar-New Society Publishers (2005).
  2. Dirty Wars, by: Jeremy-Scahill
  3. Sheldon Rampton, John Stauber-Weapons of Mass Deception_ The Uses of Propaganda in Bush's War on Iraq (2003).
  4. جيمس بتراس: الثورة العربية والثورة المضادة الأمريكية الصنع
  5. .John Cooley-Alliance Against Babylon_ The US, Israel and Iraq (2005)
  6. مازن شندب: داعش.. ماهيته، نشأته، إرهابه، أهدافه واستراتيجيته
  7. Nicholas Shaxson-Treasure Islands_ Tax Havens and the Men Who Stole The World-Vintage (2012)