في الغالب، تعيش الآن ذلك المشهد المُتكرر، الذي يظهر فيه البطل مُمسكًا بجهاز التحكم في التلفاز، يضغط على زر تحويل القنوات دون أمل تارة، وينتقل ليُمسك بهاتفه باحثًا عن أي جديد تارات أُخرى. من أمامه طبق شبه فارغ، يحتوي على بقايا حبات الذرة، التي لم ترتقِ لأن تُصبح «فشارًا». يَعُم الصمت الأرجاء من حولك، ومن حولنا، وتَمُر الأيام تباعًا بلا تمييز.

دعني أؤكد لك أن الأمر لم يعد مُزحة بعد الآن. سيمر السبت ومعه الأحد ولن يكون بهما أي ما يُميزهما عن غيرهما من الأيام، لن يكونا ممتازين، وستقترب من ليالي الثلاثاء ومنتصف الأسبوع، ولن تشعر بقشعريرة تنتابك لأجل ذاك اقتراب، لن تشعر بشيء أبدًا. ولا أحد يعلم إلى أي مدى سيدوم ذلك اللا شعور.

تخيَّل أن الكون لا طعم له أو لون، أو أن التليفزيون من غير «سبيستون».
إحدى الأغاني الدعائية لقناة الأطفال العربية «سبيستون».

لم يعِش أغلبنا مراحل ما بعد الحروب الكُبرى، تلك التي تترك الأراضي كلها بآثار حُطام تعاني منها أكثر من دولة وأكثر من مواطن في آن واحد، وحالات خوف وريبة تنتاب الجميع. ربما حالات تخص الدول العربية لمدد قصيرة، وغير العربية لأوقات أقصر، لكن حالة من الخوف العام التي تضرب العالم أجمع في الوقت نفسه، ربما يفعلها ضيفنا «كورونا» للمرة الأولى في أعمارنا.

ما يجعلك تشعر الآن بالوحدة والوحشة أكثر من غيرك، أنك تعاني الخوف نفسه ككل أقرانك في ذلك الكون، لكن لأسباب مُختلفة، أسباب ربما لو أعلنتها على من حولك لن تُوصف إلا بالتافه الذي لا يعتقد إلا في الأمور الثانوية، ككرة القدم.

ولن أخفيك سرًا، تظل تلك اللعبة، ما دامت مُحتفظة بوصفها كلُعبة، أمرًا ثانويًا إذا ما قورن بالصحة العامة للبشر وببقائهم، لكن شيئًا ما بداخلك لا يسمح بذلك التسفيه، وبداخلي أيضًا، وربما بداخل الشخص نفسه الذي نعتك بالتافه منذ قليل، لكنها أمور لا تُطلق في العلن.

تقتلنا الوحدة مثل الفيروس

على إثر انتشار ذلك الوباء، فُرض الحظر في إيطاليا، وفي الغالب ستتبعها إسبانيا في غضون أيام، حظر يتخطى الحدود الصحية ووصل إلى حظر تجولٍ كامل، ما يعني انقطاع التجمعات بشكلٍ نهائي في تلك المناطق، وقد ناشدت المنظمة الصحية جميع أفراد العالم المتبقين أن يبتعدوا عن بعضهم بعضًا، في أي تجمعاتٍ مهما كانت أحجامها أو أسبابها، وبالطبع انصاعت تجمعات كرة القدم لتلك المناشدات.

كرة القدم، كورونا، توقف كرة القدم، توقف النشاط الكروي،
توزيع شعبية الرياضات حول العالم وظهور سطوة كرة القدم باللون الأزرق

يعتقد عُلماء الاجتماع في مبدأ متأصل: بأن المزيد من الروابط التي يقوم بها الأفراد داخل مجتمعاتهم تجعلهم أفضل حالًا عاطفيًا واجتماعيًا وجسديًا واقتصاديًا. بالقطع، تتضاءل قيم تلك المبادئ في ظل الأزمات الصحية العالمية كالتي نحياها الآن.

تكمن الغرابة في تلك الأزمة أن للجميع الحق في البكاء على تفرقهم وضياع تجمعاتهم باختلافاتها، لكن لا يحق لنا، نحن عُشاق هذه اللعبة، التندر على جلساتنا والاشتياق إليها والبحث عن كُرة القدم في أي مكان في العالم ولو في الدوري الأسترالي أو التركي حتى.

باختلاف التوزيع الديموغرافي للأفراد، سواء كان قائمًا على الجنسيات أو الأديان أو الاحتياجات الأساسية.. إلخ، تمتلك كرة القدم أكبر موطن يتشارك فيه الأفراد الشغف نفسه بالأحداث نفسها، يُرددون رُبما نفس المصطلحات باختلاف لغاتهم جميعًا، ما يجعلها هي اللغة الأم للفئة الأكبر من بين سكان العالم.

حسب عالميْ النفس «ماثيو نيكلسون» و«روسيل هوي»، في كتابهما الصادر عام 2008 بعنوان «الرياضة ورأس المال الاجتماعي»، فإن تكوين علاقات بحد ذاته ليس كافيًا لأن يشعر الأفراد بتحسن على كل الأحوال، لكن جودة تلك الروابط ذات أهمية حاسمة.

ويعتقد كلاهما أن جودة هذه العلاقات تتحدد عن طريق تاريخ طويل من التفاعلات يعيشها المجموعة معًا. يمكن خلق تلك التجمعات في الأسرة وفي العمل وفي الدين أيضًا، لكن حسب ما يؤكده «نيكلسون» و«روسيل»، فإن الرياضة هي البيئة الأكثر خصوبة من أجل خلق تلك الحالة من الدوافع الاجتماعية، وتحديدًا كرة القدم.

إن عُدنا لكأس العالم من عام 2014 مثلًا، والذي أُقيم بالبرازيل، والتي يتسع تعدادها السُكاني إلى 200 مليون نسمة، مختلفي العقائد والمستويات الاجتماعية، أكدت وكالة «رويترز» أن الأمم المُتعبة، كالأرجنتين والبرازيل وإسبانيا، قد وجدوا فرحة نادرة بسبب إنجازات فرقهم ومنتخباتهم في كأس العالم.

وتُشير الإحصاءات التي عقبت البطولة، إلى أن خسارة منتخب البرازيل أمام المنتخب الألماني في دور ما قبل النهائي، قد تسبب في خسائر اجتماعية مختلفة على سبيل الأفراد والجماعات الصغيرة، مثل التقاعد الذي قرره العديد من الوظائف المتنوعة، وحالات طلاق منتشرة باتساع الدولة.

العقول المرتبطة باللعبة

يؤكد علماء النفس الاجتماعي أن تلك الهزيمة أزاحت جزءًا من هوية البرازيليين في أنفسهم، وشعورهم بذاتهم بات أضعف. ذلك بالرغم من أن تلك البطولة كان متوقعًا لها فشل جماهيري ونقص في المتابعة محليًا، لسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد آنذاك، لكن عند بدء البطولة اختفت كل تلك الادعاءات.

يمكن لتلك البطولة الشهيرة، بإحصائياتها ونتائجها، أن تشرح جزءًا من السؤال الذي يصعب شرحه، ولم نشعر قط أننا بحاجة للإجابة عليه بتلك القوة من قبل، وهو الاستفهام الراغب في فهم مدى تعلقنا بتلك اللعبة، بالدرجة التي تدفعنا للنظر إلى توقف نشاطها بكونه كارثة شخصية، في ظل أزمة وباء عالمي تضرب العالم أجمع.

لقد استقر العلماء الذين حاولوا التركيز على سبب حب الناس لكرة القدم بذلك الشكل، وعلى رأسهم العالم الأمريكي «دانيال وان» والذي هو من غير مُحبي كرة القدم على الإطلاق ولم يتعلق بها ذات مرة، على 8 دوافع مختلفة، تربط البشر بهذه اللعبة ارتباطًا بتلك الصلة.

تعتبر أهم هذه الدوافع فيما قد توفره كرة القدم من خانة للهروب من متاعب العالم الحقيقي الذي يحياها أفراد المجتمعات أجمع لأسباب حضارية مختلفة، وذلك لأن هذه اللعبة توفر الإحساس بالانتماء والارتباط نحو عالم مُختلف وأوسع نطاقًا.

فتجد أن المُشجع الحقيقي يشعر بالحزن حينما يقرأ خبر إصابة لاعب فريقه بهذا الفيروس أو غيره، تمامًا كما يحزن أي شخص عادي لإصابة أحد أقاربه من درجة بعيدة بعض الشيء، وليس في ذلك تهويلًا، لأنه أحد أفراد عالمه الأوسع الذي خلقه بنفسه.

يشرح الكاتب العلمي الشهير «جوناه ليرر» في مدونته «Frontal Cortex» تلك الحالة بجزء من الاستفاضة، حين ربط تصنيف علم النفس الاجتماعي المعروف باسم «Fandom» بالخلايا العصبية المعروفة باسم المرآة. تعمل تلك الخلايا العصبية على خلق صور بعقلك تجعلك تتعاطف مع مجموعة من البشر، تحاكي كل ظروفهم وتتأثر بمعاناتهم.

وفي محاولة لتفسير سبب اختيار مجموعة من اللاعبين على حساب مجموعة أخرى، وهو الدافع وراء تعاطفك مع فريقك المفضل فقط في الملعب وألا تشعر بأي تعاطف مع الخصوم، يؤكد «ليرر» أن العقول لا يوجد بداخلها ما يُميز الرياضة عن غيرها، وأن ما تفعله فقط هو ما قد تعرفه.

وما يعرفه العُلماء عن عقولنا أن الحاجز بين ذاتك -داخل عقلك- وبين العالم الخارجي، أقل قليلًا مما يبدو. وبربط ذلك بالخلايا العصبية المُسماة بالمرآة، فإن العقل يتوه أحيانًا بين ما يحياه جسدك وما يحياه الآخرون، وهو ما يصنع نقطة اتصال فعلية، على المستوى العصبي، بين متابعتك لأداء فريقك وافتخارك به، وبين شعورك بذاتك.

تفسير ما لا يمكن تفسيره

كتب «بيل سيمونز»، وهو واحد من أكثر الكتاب الرياضيين الأمريكيين شهرة، عند خسارة فريقه المفضل لقب دوري كُرة القدم الأمريكية «Super Bowl»، أنه لا يعرف فعلًا لماذا تأثر بتلك الخسارة لهذه الدرجة؟ لا يمكنه إيجاد سبب حقيقي وراء ذلك التعلق، وهي مُعضلة يدخلها كل المُرتبطين بتلك الألعاب.

تسابق العديد من عناصر اللعبة وقت أزمة إيقاف النشاط الرياضي، من أجل الكتابة والتصريح والتعليق بما قد يفيد بأن تلك اللعبة لا ترتقي أبدًا لتصبح أهم قيمة من الأفراد، وهي حقيقة لا يُمكن إنكارها بنفس القدر الذي لا يمكننا به إنكار أهمية تلك اللعبة لهؤلاء الأفراد ذاتهم.

بالنسبة لـ«دانيال وان»، فإن الأمر لا يقتصر على شرح ماهية اللعبة ولا ما يُحيط بها من أموال أو أحداث أو غيره، لأن الإجابة عن التساؤل الخاص بمدى تعلق الأفراد بهذه اللعبة، يكمن تعقيده في تعقيد عقلية الأفراد وليس اللعبة نفسها، ولعل ما جعل ذلك السؤال غير مُفسر حتى هذه الأيام هو أن تفسير عقول البشر وما يدور بداخلها ليس بهذه البساطة.

ما قد يمكن تلخيصه في أن هؤلاء الأفراد حيواتهم غاية في الأهمية، وأن فئة منهم ليست بالقليلة، قد قررت أن تكون كرة القدم تلك هي أهم ما يعيشونه في حيواتهم، لا نسعى ولا هم يسعون لعودة تلك اللعبة وأنشطتها على حساب الحياة ذاتها، لكن على الأقل يمكن المُطالبة باحترام اشتياقهم لهذه التفاعلات البسيطة التي يخلقونها في يومهم.