العالم يعيش حالة من الهلع والخوف بسبب انتشار أخبار فيروس كورونا، وصار الإنسان يستشعر إمكانية انقراض البشر بسبب هذه الجائحة. ولكن في ظل هذه المخاوف والهلع، هل يمكن للرأسمالية أن تتكيف مع الأزمة أم أنه انفجار صحي قد ينهي الاقتصاد الرأسمالي؟

يتوقع الاقتصاديون أن الصين -مثلاً- سينخفض معدل نموها حوالي 4.5%، وسيؤثر الفيروس على حوالي 42% من الاقتصاد الصيني. وعلى الصعيد العالمي من المقرر أن يخسر قطاع الطيران 29 مليار دولار، وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي. وقد قامت الولايات المتحدة بتخفيض أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر، وأطلقت برنامجاً بقيمة 700 مليار دولار في محاولة لحماية الاقتصاد من تأثير كورونا. وأكد رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي “جيروم باول” أن الوباء ترك أثراً عميقاً على الاقتصاد.

وعلاوة على ذلك قدمت أوروبا مساعدات بقيمة 750 مليار يورو لمواجهة كورونا، وفي نفس الوقت ضخت بريطانيا 12 مليار جنيه إسترليني لنفس السبب. بينما خصَّص البنك الدولي حوالي 12 مليار دولار، وتعهَّد صندوق النقد الدولي بمبلغ وصل إلى 50 مليار دولار. ورغم كل هذه الجهود فإن الفيروس يحصد الأرواح وينتشر بشكل سريع في العالم، حيث تجاوز عدد المصابين حول العالم 2.276 مليون شخص. فعل تشير هذه الخسائر التي تكبدها الاقتصاد العالمي إلى قرب نهاية الرأسمالية؟

الرأسمالية والمشكلة الاقتصادية

تسبَّبت جائحة كورونا على المستوى الاقتصادي في حدوث خلل في مستوى العرض بسبب الطلب على المواد الصحية مثل الكمامات والمطهرات ومواد التنظيف، إضافة إلى أن الحجر الصحي يُسبَّب هلعاً استهلاكياً، بحيث يقوم المستهلك بشراء كميات كبيرة من السلع التي لا يحتاجها، وبالتالي يحدث نقص في السلع الأساسية، ويفقد مجموعة من المواطنين المواد الأساسية للحياة.

نشرت صحيفة «الفورين بوليسي» مقالاً بعنوان «مستقبل الرأسمالية: ماذا في الداخل؟» وتبدأ المقالة بأن الرأسمالية تواجه أخطاءها وأن الفاتورة لن تكون هينة في كل الأحوال. فبعد تغلب الرأسمالية على منافسيها الأيديولوجيين ظهرت الأزمات، وباتت الرأسمالية تكرر أخطاءها وتقوم بإنتاج نفسها مرة أخرى. ويرى كاتب المقال -وهو يستشهد بـ «أبهجيت بانيرجي» و«إستر دوفلو» اللذين فازا بجائرة نوبل في الاقتصاد الخريف الماضي- أن النمو الذي يقوده اقتصاد السوق على مدى نصف القرن الماضي أنتج المزيد من الفقراء بوتيرة أسرع عن أي وقت مضى، خاصة في الصين والهند، وينصح الحكومات بالتدخل المباشر في النشاط الاقتصادي، وذلك لتحسين حياة البشر.

وفي تحليل منشور على موقع صحيفة «الإيكونوميست» بعنوان «الدولة في زمن الكورونا»، تم تناول تعامل الحكومات مع الأزمة، من حيث تشديد القبضة الأمنية، وفرض القانون الصارم لمنع تفشي الفيروس، ومراقبة العامة وفرض القيود على تحركاتهم، الأمر الذي يصل إلى حد انتهاك الخصوصية، وهل من الممكن أن تستغل الحكومات هذا الظرف لإلغاء الحريات والخصوصية، وما هي فرص استعادة حكومات الدول الديمقراطية لسياساتها الليبرالية الأولى، خاصة في ظل الإعجاب بالنموذج الصيني الذي  أصبح الآن يفرض نفسه باعتباره نموذجاً ناجحاً في السيطرة على انتشار الوباء.

المجتمع الرأسمالي: الفشل الأخلاقي والفشل الصحي

وقد تعرَّض الاقتصاد الرأسمالي في الماضي لعدة أزمات صحية، واستطاع أن ينجو منها؛ بدابةً من الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم عام 1918 وأودت بحياة ما يقارب 50 مليون شخص. وكذلك عام 1976 ظهر مرض نقص المناعة «الإيدز» الذي بدوره أصاب حوالي 36 مليون شخص. وإنفلونزا الخنازير عام 2009 التي أودت بحياة 18 ألف شخص. وقبل عدة سنوات ظهر وباء آخر وهو أيبولا، وذلك في غينيا وليبيا وسيراليون والكونغو، حيث فقد 2200 شخص حياتهم. أما هذا العام فإن فيروس كورونا بات يُهدد العالم وينتشر بشكل سريع. وهذا الفيروس أظهر هشاشة الأنظمة الصحية في الدول المتقدمة على وجه الخصوص، إضافة إلى فشل السلوك والوعي الصحي.

في سياق فشل المجتمع الرأسمالي، يقول «سلافوي جيجيك» بأن الفيروس كورونا جعلنا نفكر بمجتمع بديل يتخطى حدود الدولة القومية، مجتمع يحقق نفسه في أشكال التعاون والتضامن العالميين، ويشير جيجيك إلى أن «الوباء سيجبرنا في الوقت نفسه على إعادة اختراع جديد لشيوعية تعتمد على الثقة في الشعب والعلم». بهاتين العبارتين يؤكد جيجيك أن الوباء الأخير سيجبر المجتمع البشري في إعادة التفكير على الاقتصاد والنظام الصحي والسياسي. وفي معرض كلامه يشير إلى أن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى إعادة التنظيم حتى لا يبقى تحت رحمة آليات السوق. ويعتقد جيجيك أن كورونا سيخلق شعوراً على الأقل بفشل النظرية الرأسمالية في مجال النظام الصحي والنظام الاجتماعي. وهذا في الحقيقة ليس جديداً، بل إن الرأسمالية تدرك ذلك جيداً، حيث أشار «زيغمونت باومان» من قبل إلى الفشل الأخلاقي للمجتمعات الرأسمالية، ومن قبله أساتذة مدرسة فرانكفورت أمثال «ثيودور أدورنو» وصديقه «ماكس هوركهايمر»، وبالتالي ليس سؤالنا هل فشلت النظرية الرأسمالية في مجال الصحة وخلق مجتمع متوازن؟ بل سؤالنا هو؛ كيف يمكن للرأسمالية أن تستوعب الأزمات الصحية؟

الرأسمالية تتكيف

والرأسمالية في تاريخها تتميز بقدرتها على التكيف والاستمرار في ظل الأزمات، وبالتالي أصبح من البديهي في الاقتصاد أن نسمع عبارة «إن الرأسمالية تحمل في بنيتها ما يكفي لخلق أزمات خانقة، وفي نفس الوقت تعيد الرأسمالية إنتاج نفسها من جديد». الميزة الأولى لاحظها كارل ماركس، إلا أن الثانية ظهرت أثناء الكساد الكبير (1929–1933) بحيث استطاعت الرأسمالية أن تُنظِّم نفسها بشكل مختلف، وعاش الاقتصاد الأمريكي خصوصاً في الفترات التي تلت الكساد الكبير برواج اقتصادي جعل بعض الاقتصاديين يعتقدون نهاية الدورات الاقتصادية، ولم يمكث الاقتصاد الأمريكي إلا أن دخل في دورات جديدة من الأزمات، وكذلك الاقتصاد العالمي.

إن تفشي جائحة كورونا يشير إلى وجود خلل في البنية الصحية للدول، وهذا كافٍ ليس لانهيار اقتصادي فحسب، بل لانقراض البشر جميعاً. وعلى هذا الأساس يُعوِّل العالم على شركات الأدوية والمختبرات الطبية لإيجاد دواء لعلاج الفيروس. وهذه المختبرات تعمل وفق آليات السوق (الطلب/العرض)، وبالتالي فإن الرأسمالية من خلال هذه الآليات اجتاحت أسواق الصحة والأدوية، وبالتالي فإن التنافس بين تلك الشركات والدول على إنتاج الأدوية المضادة لفيروس كورونا دليل واضح على قدرة الرأسمالية على الاستمرار من خلال استثمار الأزمات.

بالإضافة إلى ذلك فإن الدول الرأسمالية قادرة على أن تتخلص من المواطنين المسنين بكونهم (الإنسان الفائض) لأنهم يمثلون عبئاً على الاقتصاد وأنهم غير نافعين.

ومن المؤكد أن الدول ستُنتِج أدوية مضادة لفيروس كورونا، ومن ثَمَّ ستُعزِّز الرأسمالية قبضتها على الاقتصاد العالمي، لأسباب منها:

  1. غياب أيديولوجية اقتصادية أخرى تنافس الرأسمالية.
  2. الرأسمالية الصحية التي تنتج الأدوية تملك من المهارات والكوادر الطبية ما يسمح لها أن تنتج أدوية مضادة لفيروسات فتاكة، بل من المعروف أن تلك الشركات تصنع فيروسات مختبرية وتوزع الأدوية لأغراض اقتصادية.
  3. استطاعت الرأسمالية أن تخلق مجتمعاً مشلولاً ينتظر الحل من الطبقات الرأسمالية، وتلك الطبقات هي التي تحتكر أدوات الإنتاج، ومنها إنتاج الأدوية والتكنولوجيا.
  4. تشكل موجة جديدة للاقتصاد الرأسمالي، وغالباً سيتجه الاقتصاد العالمي خلال هذه الموجة إلى النموذج التكنولوجي والذي من خلاله يتم تقليل التكاليف والاعتماد على الآلة بشكل أكبر، وفي المقابل ترتفع الأرباح.

وأخيراً، ورغم استحالة التنبؤ بالمستقبل، فإن كافة المؤشرات الحالية لا تبشر بنهاية الرأسمالية أبداً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.