آثار انتشار فيروس «كوفيد-19» المعروف باسم «كورونا المستجد» في الآونة الأخيرة هلع العالم، وغيّر من أنماط الحياة. ويرى كثيرون أن العالم ما بعد هذه اللحظة التاريخية سيكون مختلفًا أيضًا عما قبلها، وأنها ليست مجرد لحظة عابرة.

وقد استدعى انتشار الفيروس القاتل حزمة من القرارات والإجراءات في مختلف دول العالم، ومستوى عاليًا من النشاط والفعالية لمحاولة احتوائه.

ووسط ذلك كله يمكن أن نلاحظ أن انتشار فيروس كورونا وما تبعه من إجراءات وقرارات وتفاعلات للتعامل معه قد أحيا –بشكل مباشر أو غير مباشر- جدلاً حول بعض المفاهيم السياسية. وهو ما نحاول التعرض إليه في هذا المقال.

1- الدولة

لعقود ظلت الدولة هي الفاعل السياسي الرئيسي في العالم سواء على مستوى العلاقات الدولية أو على مستوى النظم السياسية. وحدث تداخل بين مفهوم الدولة بمعناه الواسع وبين السلطة والحكومة ومؤسسات الضبط.

وفي السنوات الأخيرة تزايدت الكتابات حول أفول عصر الدولة وقرب انتهائها كشكل من أشكال تنظيم المجتمعات، وذلك في ضوء التطورات وتزايد قوة الفاعلين من غير الدول على المستوى الدولي والشركات العابرة للجنسيات والمجتمع المدني، في مقابل انسحاب الدولة من بعض وظائفها.

إلا أن أزمة فيروس «كورونا المستجد» جاءت لتعيد الاعتبار لمفهوم «الدولة» وتبرهن على أن ما كانت تنظِّر إليه هذه الكتابات هو أمر بعيد، حيث تصدرت حكومات الدول المشهد وحدها –تقريبًا- وتم استدعاء كل ما تملكه الدولة من صلاحيات لتمارس به أقصى درجات الضبط الممكنة، سواء عبر استدعاء القوات المسلحة وفرض حظر التجوال في بعض الدول أو اتخاذ قرارات اقتصادية واجتماعية لتعويض الخسائر، وكذلك رعاية المرضى وإصدار البيانات حول الوضع الصحي.

فقد أمسكت «الدولة» –وليس القطاع الخاص- بالملف الصحي وتصدرت المشهد، فقد أصدرت القرارات الخاصة بالإجازات للعاملين، وتلك التي تخص العملية التعليمية والأماكن العامة وحتى السفر، وغيرها من القرارات التي مارست بها الحكومات سلطتها وراقبت تنفيذها.

يمكن القول إن الدولة في أنحاء العالم عادت لتمسك بزمام الأمور وبرز مفهوم السيادة في لحظة من أكثر لحظاته وضوحًا. فقرارات مثل حظر التجول الداخلي وحظر الطيران الخارجي لا يمكن اعتبارها سوى أنها تقييد لحرية التحرك والتنقل بفضل سيادة الدولة. كما أن بقية القرارات التي تدخل في إطار الدعم الاقتصادي والاجتماعي لتعويض خسائر الأزمة للأفراد والمؤسسات لا يمكن وصفها سوى بأنها نتيجة حقيقة أن الدولة والحكومة هي الفاعل المسئول عما يحدث داخل حدودها.

كما أن دعوات تأميم القطاع الطبي ووضعه تحت إدارة الدولة لمواجهة انتشار الفيروس هو مؤشر على الدور الرئيس للدولة في مواجهة الأزمة. وقد اتخذت الحكومة الإسبانية بالفعل قراراً بوضع جميع المنشآت المقدمة للخدمات الصحية الخاصة تحت الإدارة العامة.

ومع القول بأهمية وجود دور للمجتمع المدني، ومع الاعتراف أيضًا بدور المنظمات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية، إلا أنه يبدو واضحًا إمساك (الدولة/الحكومة) بخيوط الأزمة واحتكارها لإدارتها واتباع جميع الفاعلين من دونها لها.

2- العولمة

مثّلت أزمة انتشار الفيروس اختبارًا حقيقيًا للعولمة، تلك التي اعتبرت العالم قرية واحدة وأزالت الحدود وحدّت من سطوة السيادة وأطلقت حرية انتقال السلع والأفراد والأفكار ورؤوس الأموال. فكانت حرية انتقال الأفراد هي سبب انتقال الفيروس من بؤرته الأصلية في «ووهان» الصينية إلى بقية دول العالم. وقد كان حظر قيام رحلات الطيران وإغلاق الحدود أمام انتقال الأفراد أحد الإجراءات التي اتخذتها الدول لمواجهة الأزمة بما يتنافى مع ما رسخته العولمة من مكتسبات، ويعيد لمفهوم سيادة الدولة قوته.

وقد دفعت أزمة كورونا والقرارات التي اتخذتها بعض الدول إلى الحديث عن «هشاشة العولمة» فقرارات مثل حظر روسيا وتركيا تصدير الأقنعة والكمامات الطبية، والقرار المصري بحظر تصدير الكحول، وغيرها من القرارات التي اتخذتها الدول المختلفة بحظر تصدير المنتجات الطبية، وهي القرارات التي تعبر عن ضعف العولمة أمام الدولة في هذه الأزمات. وخلافًا للنظام الاقتصادي. وفي الوقت الذي يسير فيه العالم على نظام تقسيم العمل، إذا بأزمة كورونا تكشف أن الدول المنتجة يمكن أن تحتكر إنتاجها ولا تلتزم بتوفير احتياجات العالم، أي أن الدولة تعود فتتخطى على العولمة.

وإذا كانت العولمة –كنظام- أحد أسباب انتشار الفيروس، وفي نفس الوقت أحد ضحاياه بالكشف عن نقاط ضعف وقصور هذا النظام العالمي، إلا أن الكيانات المُعولَمة المتخصصة قد برز دورها في هذه الأزمة، فأضحت منظمة الصحة العالمية هي المرشد العالمي والجهة التي تتبعها الدول. وهنا تأتي العولمة لتتقدم بمؤسساتها على الدولة.

3- المركزية

تعد المركزية أحد أنماط إدارة الدولة والتي تعتمد على تجميع وحصر السلطات والصلاحيات الإدارية في يد القيادات العليا للدولة والحكومة المركزية، دون منح الوحدات الإدارية والأقاليم الاستقلالية التي تمكنها من إدارة وتسيير أمورها.

في الوقت التي تبرز فيه الدعوات إلى حظر الانتقال بين المناطق المختلفة داخل الدولة الواحدة وعزل هذه المناطق عن بعضها للحد من احتمالية انتشار الفيروس، يصبح مفهوم المركزية محوريًا في هذا السياق، فلعل ما يعيق مثل تلك القرارات في العديد من الدول هو المركزية الشديدة والاعتماد على العاصمة وارتفاع معدلات السفر الداخلي اليومي من العاصمة وإليها، ليقضي المواطنون حاجاتهم في ظل عدم وجود لا مركزية، توفر لكل منطقة أو محافظة استقلالية، تساعدها على إدارة حياتها ورعاية مواطنيها داخلها بما يحتاجونه من فرص عمل وخدمات، مما يحد من ضرورة انتقال أعداد كبيرة يوميًا إلى عاصمة المحافظة أو عاصمة الدولة.

ويمكن القول إن اتباع نظم إدارة محلية لا مركزية يُقلل من الحاجة إلى الهجرة الداخلية والسفر اليومي لأسباب قضاء الخدمات أو التعليم أو الصحة أو العمل، حيث تصبح كل وحدة محلية أو إقليم أو محافظة مستقلة ذاتيًا ولها مواردها وأنشطتها الاقتصادية وخدماتها المتطورة، مما يقلل من معدلات الانتقال الداخلي التي تكون نتاج لخلل معدلات الإنفاق.

4- المسئولية الاجتماعية

يُعرِّف مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة المسئولية الاجتماعية بأنها «الالتزام المستمر من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقيًا والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية، والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل». ويعبر هذا المفهوم عن واجب منظمات الأعمال تجاه المجتمع وتوقعاته فيما هو أبعد من الأطر القانونية الحاكمة.

ويعد مفهوم المسئولية الاجتماعية من المفاهيم التي ينبغي أن يقوم عليها النظام الرأسمالي، حيث يؤدي الرأسماليون هذه المسئولية تجاه مجتمعهم في ظل ما يعطيه لهم النظام من مزايا عدة في ضوء انسحاب الدولة. وتزداد هذه المسئولية في أوقات الأزمات، فعلى سبيل المثال إذا كانت الدولة تستطيع منح العاملين في قطاعها العام إجازات مدفوعة الأجر لمكافحة انتشار الفيروس ومراعاة البعد الاجتماعي، فيجب على القطاع الخاص مراعاة مسئوليته الاجتماعية، وحذو خطى الدولة في إجراءاتها.

وإذا كان من الممكن تأدية المسئولية الاجتماعية في كل الأحوال في قضايا البيئة والتعليم والصحة والتنمية، فإنها تتزايد وتصبح ضرورة في وقت الأزمات، التي تحتاج إلى تكاتف وتضامن ودعم من أجل تجاوزها. ولعل توجهات بعض رجال الأعمال نحو تسريح العاملين في منشآتهم الخاصة وتصريحاتهم بأهمية عودة العمل لطبيعته مهما كانت تداعيات ذلك على الصحة العامة حتى لا يتوقف الاقتصاد وتزداد الخسائر، تعبر عن عدم الشعور بالمسئولية الاجتماعية والاهتمام المتزايد بالربح على ما عداه من مسئوليات، وهو ما أثار ردود أفعال غاضبة. بيد أن هناك آخرين استشعروا أهمية المسئولية الاجتماعية وقدموا تسهيلات وإعانات وتبرعات للمتضررين.

والخلاصة أن أزمة كورونا وما استتبعته من إجراءات وقرارات قد أعادت الجدل حول بعض المفاهيم السياسية وردت الاعتبار لبعض الأدوار. فمثلت تحديًا مهمًا للعولمة كنظام عالمي وأعادت الاعتبار للدولة بصفتها الفاعل الأهم ذو السيادة على حساب الفاعلين الآخرين، وللحكومات بصفتها صاحبة السيادة والسلطة الحقيقية وقت الأزمات على حساب بقية التنظيمات المجتمعية، كما كشفت عن عدم تطبيق المسئولية الاجتماعية في مجتمعاتنا بالشكل الملائم وعدم احترام طبقة رجال الأعمال لها، بما يهدد المجتمع في حال تزايد مساحات انسحاب الدولة لصالح هذه الطبقة. كما أشارت الأزمة إلى أهمية الاتجاه نحو الإدارة المحلية اللا مركزية وكفاءة توزيع الإنفاق على الوحدات الإدارية المختلفة، وعدالة التنمية ومنح صلاحيات استقلالية تؤدي في الأخير إلى التقليل من الاعتماد على العواصم.

وفي الأخير فإن هذه الجدل حول هذه المفاهيم وترسخها وتحولاتها لا ينتهي، بل يتجدد مع الأزمات التي قد ترسخ أمرًا واقعًا بخصوص هذه المفاهيم أو تُبيِّن خطأ ما تم الاستقرار عليه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.