في ظل تسارع انتشار الجائحة للكرة الأرضية، دولة تلو أخرى، تتسابق دول العالم في الجهود لاحتواء فيروس «كوفيد-19» التاجي، كلٌ حسب معدلات الإصابة وحسب إستراتيجية المواجهة التي تتبناها، وقد كشف بعضها عن خطط لتصميم وهندسة مراكز طبية طارئة لمقاومة تفشي المرض، وهذه قراءة في مثالين بينهما آلاف الأميال لمستشفى طوارئ بُني في وقت قياسي، لكل مثال منهما من نقاط التصميم ما يمكن أن يُستفاد به في المستقبل المنظور.

مركز «أكسيل» للمؤتمرات / مستشفى نايتنغيل (لندن – بريطانيا).

نشر موقع «الغارديان» بتاريخ 7 إبريل/نيسان 2020 مقالاً بعنوان «كيف تبني مستشفى في تسعة أيام؟» يتحدث كاتبه «أوليفر وينرايت» عن انبهار البريطانيين بإنجاز رائع تم في تسعة أيام فقط، بتحويل منشأة قائمة إلى مستشفى مجهز مستعد لاستقبال مصابي الكورونا، بكل ما تضم بالطبع من معامل وعنابر العناية الفائقة وأقسام أخرى لازمة لمواجهة الجائحة العالمية.

ثم تساءل في متن المقال إن كان الفضل في هذا الإنجاز يعود إلى «نوع جديد من الهندسة المعمارية».

والحقيقة أن هندسة الطوارئ ومعاييرها ليست جديدة تمامًا، بل تُدَرس من سنوات على أنها: «الهندسة التي تُعنَى بمواجهة كوارث تطرأ على المجتمعات بغير توقع»، ويقَدم حولها الرسائل البحثية والدراسات، أما الجديد هذه المرة فهو عالمية الجائحة، والأخبار المنهمرة على مدار الساعة حول كل ما يمت لها بصلة.

ويلجأ المجتمع في النكبات إلى هندسة الطوارئ في حالتين في الغالب، الأولى: توفير إيواء عاجل أو مؤقت لضحايا الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير وما شابه، ويتميز تصميها عندئذ بحل معياري مؤقت يُلبي احتياجات الإنسان الأساسية، أي ملجأ معماري للحماية مع تركيز أقل على التصميم الداخلي.

أما مقال الغارديان فيتعلق بالحالة الثانية الأكثر تعقيدًا، إذ تهدف إلى توفير وحدات طوارئ كمستشفيات مؤقتة، توفر ليس فقط الحماية والاحتياجات الأساسية بل أيضًا تجهيزات طبية معقمة ووحدات عناية فائقة.

وقد تكرر استخدام هذه الحلول قبل الآن في عدة مناسبات، أشهرها ربما جائحتي السارس عام 2002 وكانت في الصين كذلك، ووباء الإيبولا الذي يظهر في بلدان وسط أفريقيا من وقت لآخر منذ عام 1976.

ويمكن القول بشكل موجز إن المعيار الأساسي لهندسة الطوارئ هو تصميم وحدات نمطية تساعد على سرعة الإنتاج والتركيب، سواءً في الهيكل المعماري أو المحتوى الداخلي، على أن تكون لها القدرة على التكيف، فيمكن دمجها بطرق مختلفة حسب الحاجة، وفي مساحات وبأشكال وأبعاد هندسية مختلفة كذلك.

ومن النماذج الشهيرة على سبيل المثال وليس الحصر، نموذج (Kukil Han) لوحدة قياسية لمستشفى متنقل: وهي حاوية صممها المعماري الكوري الجنوبي «كوليل هان»، يمكن توسيعها إلى هيكل طبي بثلاثة أضعاف حجمها الأصلي، وتحمل الأسرة واللوازم، ولها قابلية الجمع إلى وحدات أخرى لإنشاء مستشفى صغير، والخلية الواحدة تتكون من عنبرين يتوسطهما ممر انتظار ومقر للطاقم الطبي كما في الصورة:

نموذج (Kukil Han) لوحدة قياسية لمستشفى متنقل.

صمّم هان نموذجه ليتكيف مع عدة سيناريوهات للطوارئ، وبإستراتيجية «اذهب إلى أي مكان» لتقديم المساعدة الطبية، إذ يمكن نشر هذا المستشفى باستخدام الهليكوبتر إلى أي مكان في غضون ساعات.

ولقد تابع أغلبنا من الحجر المنزلي على مدار الشهرين الفائتين نوعين من هندسة الطوارئ، أحدهما في آسيا والثاني في أوروبا، أثار كلاهما الإعجاب، رغم ما يصحب الموضوع من ألم، وذلك لما يحملانه من أمل في قدرة الإنسان على مواجهة الجائحة:

1- مستشفى «هووشينشان» – الصين

وهو مثال على بناء مستشفى ميداني من الصفر، ففي الثاني من فبراير/شباط من هذا العام فاجأت الصين العالم مرة ثانية، بعد أن فاجأته في الأولى بالفيروس قبل شهور، وذلك عندما كشفت عن اكتمال مستشفى ضخم بولاية ووهان -بؤرة الفيروس- واستقبال أول مريض، بعد عشرة أيام فقط من بدء الإنشاءات.

كان عدد القتلى قد قارب الـ 700 والمصابين 40 ألفًا على مستوى العالم قبل نهاية يناير، ومع استمرار صعود أرقام ووهان، شرعت في المشروع الضخم ليخفف الضغط على نظام الرعاية الصحية المثقل، وليمكن المستشفيات العامة من الاستمرار فيما تقوم به من رعاية المرضى العاديين وإبقائهم بعيدًا عن مصابي الفيروس، فسُمح للمرضى الذين تأكدت إصابتهم بالفيروس فقط بالدخول إلى مستشفى الطوارئ هذا.

بدأ العمل في تسوية الأرض ووضع طبقات الحصى في 23 يناير/كانون الثاني بفريق عمل في طور التكون، حتى بلغ 7 آلاف شخص وقت ذروته، يعملون على ثلاث نوبات، ليكتمل مستشفى من طابقين على مساحة 60 ألف مترٍ مُربع في عشرة أيام، شاملة تجهيزات تستوعب ألف سرير و30 وحدة للعناية المركزة وغرف المعدات الطبية وأجنحة الحجر الصحي… إلى آخر الأقسام المعروفة، إلا أنه مع العمالة والجهد الكثيفين فإن حجم وسرعة البناء لم يكن ليتم لولا الوحدات سابقة التجهيز وبنية الصين التحتية الهائلة في التصنيع.

موقع «هووشينشان» عند البدء وأثناء التنفيذ.

وكما أن مستشفيات الطوارئ المؤقتة تشترك في المواصفات مع تلك الدائمة إلى حد كبير، إلا أن لمواجهة فيروس معين تؤخذ اعتبارات إضافية في الحسبان، كما نقرأ في تصميم وتنفيذ مستشفى «هووشينشان» الميداني:

  • رغم أن متوسط أجر العامل الشهري عادة هو تسعة آلاف يوان، إلا أنه تقاضى في المشروع عشرة آلاف يوان عن 8 أيام عمل فقط، وذلك أخذًا في الاعتبار فترة عزل منزلي بلا عمل لأسبوعين بعد اكتمال الإنشاء.
  • وحدات المستشفى مرفوعة على أعمدة لعزلها عن الأرض احتياطًا من التلوث، كما أن كل وحدة تضم سريرين لا أكثر لضمان التباعد القياسي.
  • صُممت للمستشفى أنظمة تهوية خاصة، كما صُمم ضغط الهواء داخل الغرف سالبًا لمنع الكائنات الدقيقة من الانتقال جوًا إلي الخارج.
  • صُممت الغرف بخزائن مزدوجة الجوانب تربطها بالممرات، مما يتيح لموظفي المستشفى توصيل الإمدادات دون دخول غرف المرضى.
  • أغلب المواد المستخدمة تتحمل المواد الكيميائية التي تستعمل بكثافة لدواعي النظافة والتعقيم.
  • لم توصل شبكة المياه ولا الصرف إلى بنية تحتية مجاورة، بل إلى شبكات مستقلة.
  • تم تسليم المستشفى إلى إدارة الجيش الصيني، كما رُبِط بنظام فيديو مراقب من قبل مركز الجيش في بكين.
  • كانت خبرات مواجهة الأوبئة المتراكمة ذات نفع كبير، فقد تم تصميم المستشفى على غرار مستشفى (Xiaotangshan) الذي تم بناؤه في بكين في ستة أيام لمواجهة السارس عام 2003، فعلي سبيل المثال كان تجميع أو تقسيم عنابر المرضى على أساس مستوى الخطر الذي يشكلونه، كما قال «كواه» كبير الأطباء الذي ساهم في مواجهة سارس من قبل:
إذا لم تبدأ في فصل الأشخاص، فسيكون لديك شاب صغير يبلغ من العمر 20 عامًا مع فيروس تاجي جديد، بجانب رجل يبلغ من العمر 65 عامًا يحتاج إلى فحص قلبه.
  • وعلى نسق مستشفيات الإيبولا، صُمم المستشفى ليكون به حاجزان، واحد «قذر» والآخر «نظيف»، ويكون هذا الأخير جهة الطاقم الذي لم يُصَب، بينما المشتبه أو المُتأكد من إصابته فعلى الحاجز الآخر، أُخذ في الاعتبار مسافة لا تقل عن المتر ونصف بين تلك الحواجز، لتجنب انتقال الفيروس، وتظهر الصور الجوية للمنشأة التي تناقلتها المواقع، عنابر مستطيلة طويلة تتصل بالمحور المركزي، ثم مجموعة ثانية أصغر من الهياكل منفصلة عنه، لنفس السبب.
  • وُضعت أيضًا مناطق التطهير كفاصل بين الأجنحة ومركز القيادة والتشغيل، وذلك لخفض المخاطر على مقدمي الرعاية الصحية.
  • كان يلزم تحديد حركة المرضى داخل المستشفى وفي الوقت نفسه مراعاة حاجتهم إلى التحرك خاصة إلى المراحيض على سبيل المثال، فكان من الضروري التفكير في المساحة بين المرضى والممرات والمرافق وإقامة الحواجز بينهم، وكذلك وضع علامات الحركة واضحة على المداخل والمخارج.

ولم يمضِ أسبوع على هذا الإنجاز حتى افتتحت الصين مستشفى ميدانيًا ثانيًا (ليشينشان-Leishenshan) باستخدام نفس النموذج، وتم كل من المشروعين بتعبئة ومتابعة شعبية واسعة، إذ بثّت إذاعة الدولة (China Media Group) وحققت مراحل بناء المستشفيين بمجموع 18 مليون مشاهدة لهما معًا.

2. مستشفى «نايتنجيل» – بريطانيا

أما المثال الآخر فهو تحويل مبنى قائم بالفعل إلى استعمال غير الذي بُني من أجله، كما فعلت المملكة المتحدة مع مركز مؤتمرات ExCel شرق لندن، الذي حُولَ إلى مستشفى Nightingale للطوارئ، ليستوعب أربعة آلاف مصاب، إضافة إلى وحدات خارجية جديدة لتشريح وحفظ الجثث على مساحة بحجم ملعبي كرة قدم، في عملية يصفها كاتب المقال الغارديان:

واحدة من أكبر عمليات تعبئة البنية التحتية المؤقتة في وقت السلم، بدءًا من مستودعات الموتى المتنقلة، مرورًا بمراكز إجراء الاختبارات ثم عنابر العناية الفائقة، إنه جهد أولمبي شمل نصب سقالات وإقامة خيام قابلة للنفخ وكبائن محمولة، وإعادة استخدام المباني الحالية في غضون أيام، بل كان يجب البدء في البناء حتى قبل الانتهاء من وضع الرسومات.

ويضيف الكاتب نقلاً عن أحد المهندسين:

إذا طلب منك تصميم مستشفى مثل هذا، فستقول عادةً إنك بحاجة إلى ستة أشهر وفريق كبير من الأفراد المختارين بعناية، وليس مجموعة من الأشخاص يتم جمعهم في عطلة نهاية الأسبوع، لقد تحول الموقع إلى خط إنتاج يعمل على مدار الساعة.

أما «جيمس هيبورن»، أحد مصممي المشروع، فشرح خطة العمل:

كانت الإستراتيجية أن نستخدم أكبر قدر ممكن من بنية المعرض التحتية، ونظرًا لإغلاق العديد من المصانع وشح المستلزمات، استخدمنا الألواح التي تفصل بين أقسام العرض بعد إضافة بعض الصلابة إليها لتصبح أَسرة، ثم مددنا خطوط الكهرباء والمياه والصرف الصحي والغاز الطبي في مجرى طويل أُنشئ في الخلف.

وقد وقع الاختيار على مركز المؤتمرات للطبيعة المرنة لهذا النوع من المباني، وخلوه من حوائط داخلية تعوق عملية التحويل، فالقاعات الكبرى التي تستضيف عادةً معارض المصنوعات أو معارض الأسلحة الدولية وما إلى ذلك، تستضيف اليوم الخدمات الطبية، والصالة المركزية بين قاعات المؤتمرات التي تستضيف أجنحة الشركات أصبحت منطقة للرقابة يرتدي فيها الأطباء ملابسهم الواقية ويحفظون المواد الطبية، في حين أصبحت المقاهي مناطق للراحة التي لا غنى عنها.

حرص المصمم أيضًا أن يتمكن الطبيب من رؤية المرضى على صفوف الأسرة دون عوائق كما ترى في صور وفيديوهات للمستشفى بعد اكتماله، فعلى الأطباء في هذه الظروف الاستثنائية أن يتابعوا عددًا من المرضى أكبر من المعتاد.

أما الجزء المضاف خارج مركز المؤتمرات فيعود إنجازه إلى شركة كبرى في تصنيع الكبائن سابقة التجهيز Portakabin، وتحوي سابقة أعمالها تاريخًا كبيرًا، مثل مستشفى طوارئ في جزر فوكلاند خلال حرب الثمانينيات، ومدرسة ثانوية في تسعة أسابيع بعد حريق برج جرينفيل، فكانت هذه المرة عملاً شبه تقليدي لشركة اعتادت على الاستجابة السريعة، رغم ما شاب هذه المرة من حلول خاصة لتتواءم مع طبيعة مواجهة فيروس كورونا.

الخاتمة

عطفًا على تساؤل وينرايت: هل يمكن أن تقدم هذه التجربة بعض الدروس للمستقبل؟ فقد تمنى أن تؤسس هذه التجربة لهندسة الطوارئ في المستقبل المنظور، خاصة في البلاد التي لم تبلغ ذروة العدوى بعد، ونسأل الله ألا تبلغها، خاصة في بلادنا ومحيطنا العربي، إلا أن التخطيط المُسبق وإعداد السيناريوهات المحتملة قد أثبتا نجاحًا ملحوظًا، وتقليلاً لعدد الضحايا، على الأقل في حالة ووهان حتى الآن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.