منذ ظهور فيروس كورونا الجديد والأسئلة تتصاعد هنا وهناك دون أن تجد الإجابات الوافية، فتارة تتجه الآراء أنها حرب بيولوجية لإعادة تقسيم خارطة العالم، وتارة تستسلم الآفاق إلى الإثباتات العلمية التي تؤكد أن الفيروس لا دخل للإنسان في وجوده. وما بين هذا وذاك دارت حرب الشائعات لتضع الصين تحت مقصلة الاتهام: فهل هي مدانة حقًا، أم ضحية عادات شعب أجبر حكومته أن تقف داخل قفص الإدانة؟

الصين والسارس

الصين كانت دومًا مستنقعًا للأمراض ومصدرًا للأوبئة. فما أشبه اليوم بالبارحة حين أعلنت في 14 مارس/آذار 2003 عن ظهور مرض جديد يُصيب الجهاز التنفسي، أُطِلقَ عليه فيما بعد «السارس». أصاب هذ المرض أكثر من ثمانية آلاف إنسان، وأودى بحياة 774 آخرين. ومنذ ذلك اليوم دارت الشكوك حول الصين، ومدى تسببها في تلك الكارثة. حيث انتشرت الشائعات بحدوث تسريب من أحد مراكز الأبحاث البيولوجية في بكين. وما هي إلا أيام لتتأكد تلك الشائعات حين قامت الحكومة الصينية بمحاكمة خمسة مسئولين في المركز الصيني لمكافحة الأمراض بتهمة الإهمال.

ولم تكن تلك هي الحالة الوحيدة لوقوع مثل تلك الحوادث، فبعدها بشهور أدى تسريب آخر إلى مقتل شخص من بين عشرة أشخاص أصابهم السارس.

ونتيجة لتلك الحوادث المتتالية قررت الحكومة الصينية اتخاذ المزيد من الإجراءات لضمان عدم تكرار مثل تلك الأزمات مستقبلاً. وبالفعل تبنت الصين خطة مُمنهجة لبناء عدد من المعامل والمراكز ذات مستوى حماية من الدرجة الرابعة (BSL4) لإجراء الأبحاث على الفيروسات والبكتيريا المعروفة بشدة خطورتها مثل الكورونا المُسبِّبة للسارس وغيرها.

وفي 2015 تم تأسيس أول مركز (BSL4)، وهو مختبر ووهان الوطني للسلامة البيولوجية Wuhan National Biosafety Laboratory التابع لمعهد ووهان للفيروسات (WHIOV)، وهو المعهد الذي يشهد له المجتمع العلمي بأنه قد ساهم بشكل مؤثر في دراسة العديد من الأوبئة التي ضربت مناطق جغرافية مختلفة مثل فيروس (H5N1) وفيروس (JEV) -المُسبِّب لالتهاب الدماغ الياباني- وحُمى الضنك والجمرة الخبيثة. ولكن عندما نتحدث عن «مختبر ووهان الوطني» فالأمر مختلف. ففي تصريحات رسمية لمجلة Nature، أقر المدير «يوان زيمين» أن ذلك المختبر قد أُنشِئ خصيصًا لدراسة فيروسات الكورونا شديدة الخطورة، والتي لا يمكن دراستها في أي مكان آخر بالصين.

وبعد عامين من اختبارات ضمان السلامة للتأكيد على مدى أمان المختبر، تم الافتتاح الرسمي في يناير/كانون الثاني 2017 لتكون أولى أبحاثه على فيروسات تحتاج فقط إلى مستوى حماية من الدرجة الثالثة (BSL3) مثل المسببة لحمى القرم-الكونغو النزفية (CCHF). وبالرغم من عدم إبرام المختبر لأبحاث على فيروسات الكورونا والتي أُنشئ خصيصًا من أجلها، حذّر مجموعة من الخبراء وعلى رأسهم «تيم تريفان» مستشار السلامة البيولوجية بجامعة الميريلاند أن الإجراءات التي تتخذها الصين لتقييد الحيوانات المستخدمة في إجراء أبحاثها لهي أقل صرامة من مثيلتها في أمريكا والعديد من الدول الغربية. كما أردف أن البيئة التي تعمّها الحرية والشفافية لهي ضرورية لإجراء مثل تلك الأبحاث، وهذا تمامًا نقيض لثقافة الصين الشيوعية. وعلى إثر هذا المنطق، حذّر تريفان وغيره من احتمالية تسرب أحد فيروسات الكورونا المُسبِّبة للسارس.

الكورونا ومعهد ووهان

في نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2019، أعلنت الصين إصابة عدد من سكان مدينة ووهان بمقاطعة هوبي -التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات من مختبر ووهان الوطني للسلامة- بأعراض غير مألوفة لالتهاب رئوي حاد. ومع تزايد الحالات وانتشارها على مستوى العالم لتصيب أكثر من 200 دولة، نشأت حرب من الادعاءات أطلقتها عدد من الدول تجاه الصين. وكانت التهمة رغم اختلاف مصادرها تُقر بأن الكورونا سلاح من أسلحة الصين البيولوجية.

ولعل مقال الديلي ميل البريطانية -الذي نُشِرَ بتاريخ 23 يناير/كانون الثاني 2020 بقلم ناتالي راهال- هو أول من أطلق إصبع الاتهام نحو الصين ومختبر ووهان الوطني. وردًا على ذلك المقال، خرجت الصين بتصريحات تنفي تورط المختبر بتلك الحادثة، وأن الأمر برمته يعود إلى سوق يقع بالمدينة يبيع لحم الخفافيش وبعض الحيوانات البرية الأخرى، التي تم إرجاع الأمر إليها بأنها المصدر الأوّلي لنقل الفيروس للإنسان. واستندوا في ذلك إلى عمل العلماء بمعهد ووهان الوطني، حيث قاموا بتحليل الحمض الأميني للفيروس والذي أثبت أن 96% من جينات فيروس الكورونا الجديد يتشابه مع فيروس الكورونا الموجود بالخفافيش، وتم تسميته رسميًا في 7 يناير/كانون الثاني بفيروس كوفيد-19.

ولكن وبالرغم من نفي الحكومة لتلك الادعاءات، استمرت الاتهامات تتوالى من الغرب خاصة من قبل الموالين لليمين في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي 24 يناير/كانون الثاني نشر مجموعة من الأطباء العاملين بمستشفى ووهان جينينتان بحثًا علميًا في دورية «ذا لانسيت ميديكال»، يُقر بأن لا علاقة بين الكورونا والسوق في ووهان، وذلك بعد دراسة أول 41 حالة تم الإعلان عنها.

لم يمض على نشر تلك المقالة إلا يومان حتى خرج «داني شوهام» –الحاصل على الدكتوراه في علوم الأحياء الدقيقة والمحلل العسكري السابق لدى المخابرات العسكرية الإسرائيلية– بحوار مع صحيفة الواشنطن تايمز (المعروفة بميولها اليمينية)، حيث أقر فيه أن فيروسات الكورونا المسببة للسارس يتم استخدامها بشكل أساسي في أبحاث الصين الخاصة بالأسلحة البيولوجية. وقد يكون معهد ووهان متورطًا بإجراء تلك الأبحاث بالشراكة مع جيش التحرير الصيني. كما أكد أن الأمر قد يكون حدث عن طريق الخطأ نتيجة تسريب حدث بشكل ما أو نُقِلت العدوى من خلال أحد العاملين بالمعمل إلى الخارج.

ومما زاد الأمر ضراوة التصريحات التي خرج بها الرئيس الصيني يوم الجمعة الموافق 21 فبراير/شباط، والتي وجّه فيها الحكومة بالقيام بمزيد من الإجراءات لمحاولة احتواء الأزمة، والحرص على عدم تكراره في المستقبل. كما وجّه بضرورة زيادة الإجراءات الخاصة بالسلامة الحيوية لدى المختبرات والمراكز. وفي اليوم التالي أصدرت وزارة الصحة والتكنولوجيا توجيهات تحت عنوان «تعليمات حول تعزيز إدارة الأمن البيولوجي في مختبرات علم الأحياء الدقيقة التي تتعامل مع الفيروسات المتقدمة مثل الفيروسات التاجية الجديدة».

وخلال الأيام الأولى لتفشي المرض بالصين، تم إرسال قوات الجيش الصيني إلى ووهان لتطويق المدينة وفرض الحجر الصحي على المواطنين، ومن بين هؤلاء المُرسلين هو الجنرال تشين. وفقًا لصحيفة PLA Daily، فإن تشين يُعد من رواد الباحثين في الصين في مجال الفيروسات شديدة الخطورة مثل السارس والجمرة الخبيثة والإيبولا، ولعل تلك الزيارة إلى ووهان لم تكن الأولى من نوعها.

وفي الآونة الأخيرة تداولت الأوساط الإعلامية اسم هوانغ كثيرًا. ولمن لا يعرف، فـ هوانغ كانت طالبة بمعهد ووهان الوطني أُذيع بأنها ماتت جراء إصابتها بنفس الفيروس، وقد تكون هي الوسيط الذي أخرج الفيروس خارج المعهد. وفي تصريحات رسمية أكد رئيس المعهد أنه منذ تخرج هوانغ عام 2015، والمعهد لا يعلم عنها شيئًا.

لم تكن تلك التصريحات هي فقط التي خرج بها المعهد منذ بداية الأزمة، فقد حذر رئيس المعهد من الشائعات التي تطاله، وتطال فريق عمله، والتي أعاقت عمل الباحثين في المركز، مما أدى إلى عرقلة الكثير من الأبحاث التي قد تساعد في حل الأزمة الحالية. وأعلن أن ليس هناك ما نخشاه، فنحن وفي خلال أيام استطعنا أن نحصل على التحليل الوراثي للفيروس؛ ليكون متاحًا في 9 يناير/كانون الثاني على قاعدة البيانات الخاصة بالصين، مما أتاح الفرصة لجميع علماء العالم بالاطلاع عليه، والشروع في إجراء أبحاثهم، وذلك لم نكن لنتمكن منه لولا جهود «شي زيهنري».

شي زيهنري -أو كما يُطلَق عليها المرأة الخفاش- أمضت أغلب حياتها داخل كهوف الخفافيش. وبفضل جهودها تم تكوين أكبر قاعدة بيانات خاصة بالخفافيش، وما تحمله من فيروسات. وكانت هي أول من قام بتحليل الفيروس، واكتشاف انتمائه لإحدى السلالات التي تسكن الخفاش. وبعد أيام من انتشار الوباء ازداد معدل البحث عن شيء على جميع المنصات الإلكترونية 2000 مرة، حيث وجدت نفسها محل اتهام بل ذهب البعض بوصفها The Mother of Devil، مما دفعها أن تقسم بحياتها في رسالة على المنصة الصينية للتواصل الاجتماعي WeChat بأن الفيروس لا علاقة له إطلاقًا بمركز ووهان الوطني.

الأبحاث العلمية والحقيقة

وبالرجوع إلى المجتمع العلمي سنجد أن الأبحاث اتفقت على استحالة أن يكون الفيروس مُصنَعًا معمليًا. فمجلة Science Daily أكدت في دراسة نُشِرَت بها أن الفيروس لا يماثل في تكوينه أحد الفيروسات المعروفة قديمًا. لذا فالاتجاه المقارب للحقيقة أن هذا الفيروس مصدره أحد الحيوانات البرية. وكانت تلك أيضًا هي نتيجة الأبحاث التي نشرتها مجلتا Nature وThe Lancet.

ولكن وبالرغم من تلك الأبحاث التي أكدت مرارًا عدم احتمالية أن يكون معهد ووهان الوطني له علاقة بالأمر، فإن هذا لا ينفي احتمالية حدوث خطأ دون عمد. وهذا ما صرح به ريتشارد إبرايت -أستاذ علم الأحياء في جامعة روتجرز في نيو جيرسي- لوكالة الـ BBC، أنه وبالرغم من عدم وجود دليل واحد يثبت تدخل البشر في تكوين الفيروس إلا أنه لا ينفي احتمالية وجود خطأ معملي أدى الى ذلك.

ما استعرضته خلال الأسطر السابقة هو سرد للحرب الإعلامية التي دارت بين الشرق والغرب خلال الأسابيع السابقة، حرب شرسة لم تتورط بها أجهزة الإعلام فقط، بل تخللتها تصريحات رسمية من مسئولين، ولعل ما صرح به السيناتور توم كوتون والمتحدث الرسمي باسم الخارجية الصينية لهو خير مثال على ذلك.

تتجه النظريات حاليًا بأن الجائحة الحالية سببها تغذي بعض فئات الشعب الصيني على الحيوانات البرية مثل الخفافيش. ولكن الصين ليست الدولة الوحيدة التي يتغذى شعبها على مثل تلك الحيوانات، فأغلب دول الشرق الأقصى تتبع تلك التقاليد حتى أن بعضًا منها لم يتوقف عن تداول الخفافيش كسلعة غذائية بعد تفشي الوباء. وإذا تمعّنا قليلاً في منهجية الصين في التعامل مع الأوجه المختلفة لحقوق الإنسان، سنجد أنها ليست بعيدة أن تقوم بمثل تلك الأبحاث، وإعداد مثل تلك الأسلحة. وأعتقد أن سياسة زرع الأعضاء في الصين لهي خير دليل.

أطروحات كثيرة تفرض نفسها على طاولة الاقتراع، لا تعرف إلى أي جهة تميل. أتطوّق نفسها بين أحضان الماضي القريب، وتستعيد ذكريات حادثة 1979 حين أدى تسرب أعداد هائلة من بكتيريا الجمرة الخبيثة إلى مقتل 68 شخصًا، ولم يتم الاعتراف بتورط الأسلحة البيولوجية في الأمر حتى 1992، أم تُسلِّم نفسها إلى سلام داخلي يرغمها على تقبل أنه حدث لم يتدخل الإنسان بمجريات أموره. وحتى تستقر عند رأي واحد لن تنتهي حرب الكورونا ما بين الشرق والغرب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.