عادة ما نُجابه أخبار الفساد في الحكومات العربية بالدول النامية، فجميع تفاصيلها تكون مكشوفة للعلن على عكس طابع الفساد في الدول الديمقراطية المتقدمةK بحيث يكون أكثر خفاءً وعمقًا ومنظم بحرفيّة تامة.لكنّ السنوات الأخيرة كانت تكشف لنا العديد من مناحي الفساد في الدول المتقدمة، فإسرائيل التي كانت تُسوق نفسها بأنها فوق مستوى الشبهات، لم تتمكن مؤخرًا من إخفاء حالات الفساد التي ظهرت جليّة في الأوساط السياسية والعسكرية، وبحسب مؤشر مدركات الفساد العالمي (CPI) لعام 2016 فقد جاءت في المرتبة الـ 28 عالميًا بـ 64 نقطة.ويبدو أن استشراء الفساد في إسرائيل ينم عن أزمة حقيقية من شأنها أن تُطفئ وهج الديمقراطية التي تتمتع بها على مستوى العالم، فإسرائيل التي لم تترك وسيلة لفرض هيمنتها على الإقليم وتثبيت يهوديتها أمام العالم إلا اتخذتها سبيلًا كانت تتخلى في كل مرة عن شيء من ديمقراطيتها لصالح العنصرية.


تاريخ طويل من الفساد

تتحدث تقارير إعلامية إسرائيلية عن أن قائمة الفساد لدى السياسيين ورجال الدولة طويلة ولم تستثنِ أحدًا، إذ طالت رئيسها الأسبق «موشيه كتساف» ورئيس الوزراء السابق «إيهود أولمرت» الذي واجه في العام 2008 فضيحة فساد مالي واشتُبه في تمويله حملات انتخابية في التسعينيات بطرق غير قانونية، أقر بها في وقتٍ لاحق واعترف أيضًا بأنه تلقى مبالغ مالية كبيرة بشكل غير قانوني من رجل الأعمال الأمريكي «موريس تالانسكي» على مدى فترة طويلة عندما كان رئيسًا لبلدية القدس.

كما لم ينجُ «أرئيل شارون» رئيس الحكومة السابق من تهم الفساد حتى أنّها طالت ابنه «عمري شارون» عضو الكنيست السابق، حيث واجه في العام 1998 حين كان وزيرًا للخارجية الإسرائيلية اتهامًا بتلقي رشوة عبر نجله «جلعاد» من مقاول إسرائيلي يسعى لبناء منتجع سياحي في إحدى الجزر اليونانية. وطالت الفضيحة شارون ونجليه جلعاد وعمري، لاتهامهما بالحصول على قرض بقيمة 1.5 مليون دولار، من رجل أعمال كضمان لدفع تبرعات غير مشروعة في حملة شارون، غير أن الأخير نفى التهم الموجهة إليه وادعى أن نجليه دبرا أمر نفقات الانتخابات التمهيدية، ما اضطر «عمري» تاليًا إلى الاستقالة والخضوع لحكم السجن تسعة أشهر.

ولم تنته قضايا الفساد لدى السياسيين الإسرائيليين، فبعد أولمرت تربع «عيزرا وايزمان» رئيس الدولة الأسبق على عرش الفساد وواجه في العام 2000 اتهاما بارتكابه جرائم فساد ورشوة وتهرب ضريبي، وقيل إنّه تلقى نصف مليون دولار من رجل أعمال فرنسي عندما كان عضوًا في الكنيست الإسرائيلي ووزيرًا في الحكومة، وتاليًا اعترف «وايزمان» باستلام المبلغ لكنّه ادعى أن قبوله لم يكن بدافع الرشوة، وإنما كهدية من صديق قديم، ونفى قطعيًا ارتكابه أي مخالفة مالية آنذاك. ورغم ذلك انتهى أمر الاتهامات بتقديم استقالته.

وليس أخيرًا ما يجري حاليًا من تحقيقات مع «بنيامين نتنياهو» رئيس الحكومة الحالي الذي واجه غرف التحقيق لأكثر من 4 مرات خلال الأشهر القليلة الفائتة، ما يُشير إلى أن قضايا الفساد السلطوي في إسرائيل باتت ظاهرة يُخشى استمرارها لما لها من تأثير على استقرار الحكومة، خاصة إذا قرر المستشار القانوني للحكومة تقديم لائحة اتهام ضد رئيسها ما يعني حلها فورًا.


لماذا استشرى الفساد في إسرائيل؟

يرى أكاديميون وخبراء في الشأن الإسرائيلي أن الفساد المستشري في إسرائيل عائد إلى نوعين من المُسببات؛ الأولى جوهرية والأخرى فعلية ملموسة أظهرتها التطورات الحزبية على الساحة السياسية في الآونة الأخيرة.

وبرأي «برهوم جرايسي» فإن التغيرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، الذي بات ينزع إلى المادية، أوجدت فوارق بين الشرائح المجتمعية رافقها فساد في القيم والأخلاق استشرت بشكل كبير في الآونة الأخيرة على عكس ما كان سابقًا. وأضاف لـ «إضاءات» أن حالة الوهن التي بات عليها جهاز فرض القانون في إسرائيل سواء الشرطة أو النيابة العامة أو حتى المستشار القانوني للحكومة شكلت سببًا قويًا في استشراء الفساد، خاصة أن الحكومة الإسرائيلية نفسها رغبت في ضعف تلك الأجهزة بعدم صرف الميزانيات المناسبة لعملها. واستطرد قائلًا: «إن ضعف جهاز فرض القانون من شأنه أن يُغير القواعد الأخلاقية ويُفجر الفساد في كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضًا».

وفي ظل حجم الفساد الذي ينخر دولة الاحتلال الإسرائيلي من رأس الهرم إلى القاعدة فإن «جرايسي» يؤكد تعثر بل انهيار ديمقراطيتها التي تتغنى بها، ويُشير إلى أنّه «لا يمكن أن توجد ديمقراطية في ظل الممارسات الاستيطانية التي تُمارسها وكذلك عمليات القتل الجماعي والتطهير العرقي الذي تتخذه سبيلًا لإثبات يهوديتها مقابل إنهاء الوجود الفلسطيني تاريخًا وحضارة ووجودًا إنسانيًا». وقال: «إن سُلطةً احتلالية تُمارس كل هذا القمع لا يُمكن أن تكون ديمقراطية أو نزيهة».


هل تؤدي اتهامات الفساد التي يواجهها نتنياهو إلى إنهائه سياسيًا؟

وعلى الرغم من تتابع جولات التحقيق في القضايا التي يُتهم فيها «بنيامين نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيلي بالفساد، فإن قرارًا حتى الآن لم يُتخذ بمعاقبته وفقًا لمقتضيات قانون الدولة الديمقراطية، فالشرطة التي أخضعته للتحقيق خمس مرات مازالت لم توصِ حتى الآن بتقديم لائحة اتهام ضده.

وبحسب «أنطوان شلحت»، الخبير في الشأن الإسرائيلي، فإن تقديم لائحة اتهام ضد نتنياهو من عدمه لا يُلزمه بالاستقالة من منصبه، وقال في اتصالٍ هاتفي مع «مراسل إضاءات»: «إن القانون الإسرائيلي يمنحه حق البقاء في منصبه والدفاع عن نفسه حتى صدور قرار المحكمة».

و يواجه نتنياهو غرف التحقيق في ثلاث قضايا هي الأبرز من بين ملفات الفساد الـ 11 التي يُشار إليه فيها، وتُعد القضية 2000 الأخطر وتُشير إلى اتفاقه مع ناشر صحيفة يديعوت أحرنوت «أرنون موزيس» للحصول على تغطية صحفية إيجابية مقابل التضييق على صحيفة «إسرائيل اليوم» المنافسة، وهو ما يُشكل إثباتًا للتحقيق معه، وفقًا لمكتب المدعي العام في شرطة الاحتلال.

فيما تأتي القضية 1000 بمرتبة ثانية من الخطر إذ يُشتبه أن نتنياهو حصل على منافع شخصية وهدايا من رجال أعمال إسرائيليين، أبرزهم «أرنون ميلتشين»، كما يُشار في القضية إلى أنه طلب من رجل الأعمال «ليونارد بلافاتنيك» شراء القناة العاشرة لضمان حصول «ميلتشين» المساهم في الشركة على أرباح من بيع أسهمه، إلا أن ذلك لم يتحقق.

وفي تتابع خطير تأتي القضية الثالثة المعروفة بالملف رقم 3000، وتُشير إلى تورط مقربين ومساعدين من نتنياهو بشبهات فساد في صفقة شراء غواصات من ألمانيا.

اقرأ أيضًا:هل يشعل نتنياهو الحرب أم يذهب بهدوء إلى المحكمة؟

وعلى الرغم من الحصار الخانق الذي يُواجهه «نتنياهو» بفعل الاتهامات وشُبهات الفساد الدائرة حوله، فإن «شلحت» لا يستبعد أن يقوم بمغامرة خارجية جديدة فقط لأجل لفت الأنظار وتحويلها عن مجريات التحقيق، خاصة في ظل تطورات الإقليم الأخيرة، بالإضافة إلى الدعم التام والمتكامل الذي تُقدمه له الولايات المتحدة، لكن تبقى حالة الهدوء المسيطرة على غزة في الآونة الأخيرة مُلجمة لمخططاته إن وجدت –حسب قوله- وتابع بأن الخطوة الأكثر قبولًا والأقل ضررًا لنتنياهو التوجه إلى الانتخابات بشكل مبكر، خاصةً إذا وافقت الأحزاب المؤتلفة في الحكومة.

يُذكر أن آخر انتخابات جرت في إسرائيل كانت عام 2015 بما يعني أن ولاية الحكومة الحالية تنتهي في عام 2019 إذا ما تم التوافق بين أطراف الائتلاف الحكومي الحالي على إبقائه لانتهاء الفترة القانونية للحكومة.

وعلى ما يبدو أن هذا المخرج لن يتهيأ لنتنياهو في الوقت الحالي أو حتى على المدى القريب جدًا، فالمتابع لتصريحات أطراف الائتلاف الحكومي يجد أنهم لا يريدون التوجه لصناديق الاقتراع بشكل مبكر، ومنهم «أفيغدور ليبرمان» وزير الدفاع عن حزب (إسرائيل بيتنا)، و «موشيه كاحلون» وزير المالية عن حزب (كلنا)، حيث أكدا أنهما لن ينضما إلى ائتلاف يشكله زعيم حزب (المعسكر الصهيوني) آفي غاباي المعارض.


الحكومة الحالية تُطيح بالديمقراطية

ويرى الكاتب «مرزوق الحلبي» في مقالة له (الديموقراطية التمثيلية في إسرائيل على مفترق طرق) أن التطورات الأخيرة وقضايا الفساد التي نخرت عضد الحكومة الإسرائيلية الحالية من شأنها أن تُطيح بالديمقراطية الإسرائيلية، خاصة بعد هدم قاعدتها القانونية والدستورية والاستعاضة عنها بمبدأ يهودية الدولة. وقال: «إن ذلك سيتجه بإسرائيل إلى أبرتايد معلن سيكون رد الفعل العالمي عليه مضادًا وسيتسبب في عزل نظام الأبرتايد اليهود».

ونبه بأن رئيس الحكومة الحالي «نتنياهو»يُطبق لعبة سياسية للحصول على التأييد الشعبي في مقابل أجهزة القضاء والشرطة، وبحسب «الحلبي» فإنها تقوم على التشكيك في الإعلام الإسرائيلي وأجهزة القضاء والنيابة واتهام كل معارضيه بملاحقته ما يجعله ضحية ويُكسبه التأييد. ويُؤكد أن ذلك يحدث في أوج محاولات حكومة اليمين بمركّباتها كافة تغيير قوانين اللعبة الدستورية وإلغاء استقلالية الجهاز القضائي وأجهزة الكبح والضبط القائمة في إسرائيل، لمنع أي مساءلة جدية من خلال تعطيل الحريات السياسية العامة وعمل المجتمع المدني وقمع النقد في مواضعه.