لعلّ للوهلة الأُولى لمن يقرأ عن وجود دولة تخلو من الأعداء، له أن يتصوّر نموذجين، وهما الأوقع والأكثر تأثيرا، فأَحدُهما هو دولة تقهر وتستحوذ خلال بيروقراطية لا رادع لها، وآخر هو لا دولة ولا تستحقُّ المُعاداة في ذاتها!

أمّا ما نتتوّق للبحث عنه هُو مفهوم الدولة التشاركية التي تسعى نحو «اللّامركزية» وتمكين الفرد غير مُباليةٍ بنقص في سُلطتها أو قُوّتها، فهي بالفعل مدعومة بقُوى الدفع من أسفل، أي المُجتمع وأبناء الْوَطَن.

لذا فهي عملية مُزدوجة ينتج عنها بناء تشاركي قوي وليس إضعافا من قوة الدولة كما يُمكن أن يعتقد البعض.

فإذا تطلّعنا لإيجاد دولة بمفهومها السابق فإنه مما لا شك فيه لن تَنْجُم إلا عن حياة مدنية غَنية تقوم على علاقات قوية بين جماعات صغيرة واعية كما هو الحال وفق نظرية ‏«روبرت وثنو – أستاذ علم الاجتماع» عن دور الجماعات الصغيره في تشييد ديموقراطية حديثة.

ويقصد بالجماعات الصغيرة أنهم القليلون عددا يسهرون سويا لمصالح مُشتركة، فقد وجد أنّ 40 ٪‏ من الأمريكيين -75 مليونا – تنمو داخل الجماعات الصغيرة والروابط التي تخلقها هذه الجماعات لا تكون هشة قط، فالكل يساعد الكل، وليسوا بأفراد مُنعزلين يريد كل منهم أن ينجو بنفسه، فوجود الجماعات الصغيرة يعطي انعكاسا عن حياة مدنية غنية.

وهو ما لا يختلف عن دراسة «بيتر هول» عن المملكة المتحدة في فترة ما بعد منتصف القرن العشرين – 1950- والتي أوضحت أنّ النشاط في القطاع التطوعي اختلف عن نظائره السابقة، فهناك أكثر من 160.000 ألف جماعة إحسان مُسجلة رسميا في بريطانيا عام 1991، وينخرط أكثر من 20٪‏ من السكان في العمل التطوعي خلال العام.

ولقد أسهم كاتبان أساسيان في صوغ المفهوم الحديث للمُجتمع المدني: غرامشي وتوكفيل.

بالنسبة لغرامشي، فالمجتمع المدني هو مجموعة من المؤسسات المُتجذرة في المُجتمع، حيث تتحقق الهيمنة الثقافية والسياسية، لهذا السبب ينبغي أن ينخرط فيها المناضلون. أما بالنسبة لتوكفيل، فالمجتمع المدني هو مجموعة الجمعيات المستقلة التي تعمل كحاجز بوجه طغيان الأغلبية، وتساهم في التربية المدنية للمواطنين، وتراقب عمل الدولة.

المجتمع المدني الصحيح هو الذي يحمي الفرد من القوة الطاغية التي يملكها الفرد، ودور المُجتمع المدني لا يمكن أن يكون أُحادي الاتجاه، فهو في المقابل لا يخلو من دعم الدولة.

ولعلّنا نستخلص من ذلك أنّ المجتمع المدني الصحيح هو الذي يحمي الفرد من القوة الطاغية التي يملكها الفرد، ودور المُجتمع المدني لا يمكن أن يكون أُحادي الاتجاه، فهو في المقابل لا يخلو من دعم الدولة ومؤسساتها لتسهيل الخدمة وتعظيم الفائدة، أي يقابل المجتمع من أعلى هو الكفاءة الإدارية لمن يمْلك السُلطة.

وربّما من أبرز التجارب التي صوّرت التلاحم المباشر هو ما حدث في السويد في ثمانينيات القرن الماضي، حيث دعت الحكومة المواطنين للانخراط على نحو مُباشر في صياغة السياسة المتصلة بالطاقة، على أن تُقيم الحكومة والنقابات والأحزاب وقوى المُجتمع دورات تدريب ليوم واحد في مجال الطاقة، ويتمكّن الحضور من تقديم توصيات رسمية مباشرة للحكومة، ولقد شارك في هذه العملية سبعون ألفا، وساهموا بشكل حاسم في صياغة السياسة.

والانخراط المباشر ليس تراجُعا سياسيا، ولا يحل محل الآليات الاعتيادية، بل هو سياسة مُكمّلة، فالتجاهل لن يوّلد إلّا القُوة، وهو ما تحدث عنه «هركستروتر» رئيس شركة شل العالمية بعد أن خطّطت لتخزين البترول بإغراق الخزانات بالمحيط، وتجاهلهم جماعات البيئة والمستهلكين.

لِيُعلن اتجاهاً جديدا نحو المسئولية المُشتركة فيقول في خطابه: «لقد أبطأنا بعض الشيء في فهم أن هذه الجماعات تكتسب سطوة، وقدّرنا هذه التغيرات على مدى يقلل من حجمها، وفشلنا في أن نُدخل هذه الجماعات الجديدة في حوار بنّاء».

وإذا أردنا أن نستوضح القول فإن الطريق لمن يسعى لدولة ديموقراطية حديثة تؤمن بالحرية الفردية، وتُرسّخ للعمل الجماعي، في وجود كفاءة إدارية على قدر من المسئولية، هو الطريق الأمثل لنصل إلى ما يمكن أن نسميه «دولة بلا أعداء»، والطريق غيرُ قَائِم على حيّز الدولة فحسب.

بل يصل إلى الأعماق منها إلى المدن، فالمناطق الصغيرة كما هي الصحوة المدنية في شمال شرق البرازيل -منطقة سيرا- حيث تعاون المُجتمع مُمثلا في جماعات من صغار رجال الأعمال بجانب المُصلحين من المؤسسات الحكومية، وإعلان الاهتمام بالتنمية المحلية أكثر من الحفاظ على الحد الأدنى للأجور.

فتم تنفيذ مخططات توطين لبعض المشروعات بتلك المنطقة، وإيجاد فرص عمل والدفع بحد أدنى، وإقامة مراكز الرعاية لليوم الواحد لا تديرها الحكومة بل متطوعون يحصلون على أجر عند حد أدنى مع مشاركة السيدات بالحياكة وغيرها من الأعمال، فترتب على ذلك أن نما اقتصاد منطقة سيرا في الفترة من 1987 حتى 1994 بمعدل 4٪‏ في مقابل معدل نمو يبلغ 1.4% في البرازيل ككل.

أمّا على الجانب العربي فلا يغفل أحدٌ ما أدركته دولة تونس أيضا، ولا ننسى دور المُجتمع الذي مرّ بمراحل تاريخية مُختلفة ليصل إلى ما هو عليه، فبعد حصول تونس على استقلالها في 20 مارس عام 1956، شَكَّل الاتحاد العام التونسي للشغل مع حزب الدستور الجديد ونقابة أرباب العمل والاتحاد الوطني للفلاحين التونسيين جبهة وطنية خاضت الانتخابات التأسيسية في 1956 والتشريعية في 1959.

كما ألغت الجمعية التأسيسية حكم البايات الملكي وأقامت نظاما جمهوريا من النوع الرئاسي. وبذلك اتخذ نظام بورقيبة منذ 1956 وحتى 1970 طابع التحالف بين حزبه (الدستور الجديد) وقادة أبرز منظمات المجتمع المدني التونسي.

وبمرور العقدين السابع والثامن من القرن الفائت اشتدّت سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، نتيجة الاحتكار الذي يمارسه الحزب الواحد. ولم يعد بإمكان الحزب / الدولة الاستمرار ، أو النمو الاقتصادي.

وضاعف التوترات بروز مُعارضة واسعة من مجموعات الشباب المُؤمنة بالمُثل اليسارية، والمتشكلة داخل الحركة الطلابية بسبعينيات القرن الماضي، وأصبحت منظمات مثل النقابة الوطنية للمحامين، والاتحاد العام لطلبة تونس… إلخ.

كما وُلدت في هذه الفترة مُنظّمتان أُخريان احتّلتا مكانا واسعا في مقاومة النظام التسلطي، وهما: الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات، وكانت مُهمتهما الرئيسية هي الدفاع عن الحريات الجماعية والفردية.

أمّا الآن وبعد ستة أعوام على ثورة ١٤ يناير فقد حظي المُجتمع بالدور الأهم والفاعل الرئيسي نحو الاستقرار والتقدّم، كما أسهم أكثر من ستة آلاف مواطن، و300 منظمة من المجتمع المدني، و320 ممثلا عن الجامعات بآرائهم في حوار حول الدستور على مستوى البلاد، وتم إقرار الدستور بأغلبية 200 من أعضاء الجمعية التأسيسية الوطنية البالغ إجمالي عددهم 216 عضوا.

كذلك تعيين وزير في الحكومة مكلّف بـ«الصلة بالمؤسسات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان»، لِيُظهر كيف أصبح المجتمع المدني فاعلا أساسيا في الحقل السياسي التونسي.

بالرغم من أن الدستور المصري يكفل حرية تنظيم الجمعيات، إلا أن الدولة لاتكف يدها عن كم الأفواه وصد أي دعم ممكن أو محاولات للتنمية والارتقاء بوعي المجتمع

وإلى الجانب من ذلك، ضغطت جماعات المجتمع المدني أيضا وأسهمت في وضع قوانين جديدة مهمة تتعلق بحق التجمع والحصول على المعلومات، كما شاركت جماعات المجتمع المدني مع منظمات التنمية في مشاريع تطوير مهارات العمل لدى الشباب، وتحسين تقديم الخدمات في المناطق المتأخرة تنمويا، مما يشكل إسهاما آخر في تحقيق الاستقرار الاجتماعي.

إلى أن انتهت تونس بعد أربعة أعوام من ثورة الياسمين لتحصد جائزة نوبل للسلام في ديسمبر عام 2015 وتسليمها لرباعي الحوار التونسي المُشكّل من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والحرف (نقابة أرباب العمل )، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ونقابة المحامين.

وذلك «لمساهمتهم في الانتقال الديموقراطي في تونس منذ ثورة 2011، وبكل تأكيد تكريما لشعب تونس الشقيق».

كل هذه النماذج وأكثر إنما تدل على نُضج في العقل الجَمعي للشعوب وقياداتهم السياسية ونُخَبِهم على مر العقود الأخيرة، وانعكاسا على حالنا فقد تم تعديل قوانين الجمعيات الأهلية من قِبل البرلمان المصري وإرسال المُذكرة النهائية لرئاسة الجمهورية، ليخرج إلينا في صورة قانون من المُرتقب أن يؤثر على 47 ألف مُنظمة محلّية و100 مُنظمة أجنبية وفقاً لتقارير هيومان رايتس ووتش.

بالرغم من أن الدستور المصري في مادته الخامسة والسبعين يكفل حرية تنظيم الجمعيات، وغيرها من المواثيق والعهود التي وقعت عليها مصر، منها المادة الثانية والعشرين من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة العاشرة من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.

كل هذا ولا تكفُّ يد الدولة عن كم الأفواه وصدّ أي دعم ممكن أو محاولات للتنمية والارتقاء بوعي المجتمع.

أبسطُها وعلى سبيل المثال لا الحصر مكتبات الكرامة التي تم إغلاقها ابتداءً من ديسمبر العام الماضي، والتي كانت تدعم ما يقرب الـ 40 ألف مستفيد، وكذلك مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، والأكثر مرارة ما تتعرض له آية حجازي وزوجها وزملائهما المتطوعين جرّاء إنشائهم جمعية لرعاية أطفال الشوارع والأطفال المهملين تحت اسم «بلادي» وغيرهم.

ولعلّ الختام الأمثل يكون لأنتوني جيدنز، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بلندن، الذي يقول: «لا يُمكن للدولة أن تتحوّل إلى مُجتمع مدني؛ فإذا حرصت الدولة على أن تتواجد في كل مكان فلن يكون لها وجود في أي مكان».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. كتاب الطريق الثالث – لأنتنوي جيدنز – باب المُجتمع المدني
  2. Tunisian civil society: from revolutionaries to peace keepers
  3. Egypt: Draft Law Bans Independent Civil Society Groups