باتت الصين في العقود الأخيرة رقمًا صعبًا في الفضاء العالمي، بسطوة تشمل عديد المجالات، من الاقتصاد إلى السياسة، وبنفوذ متنامٍ غير ملامح المشهد العالمي بشكل عميق، وخلف هذا البريق الساطع المصاحب لصعود المارد الصيني يتوارى سجل فظيع من انتهاكات الحريات العامة والتضييق على الحقوق المدنية والسياسية، فحسب العرف الصيني فإن تحقيق التنمية الاقتصادية وتبوء مراتب الصدارة عالميًا ليس حكرًا على الديمقراطيات الغربية، بل يمكن للدول الشمولية كسب رهانها، ما دامت قادرة على تعبئة واستثمار مواردها بشكل فعال.استطاعت بفضلها إعادة تعريف مفهوم فلسفة التنمية بصياغة نموذجها الخاص، حيث لا مكان للديمقراطية التعددية وحرية التعبد والتعبير، فذلك ترف لا تسمح به السلطة المركزية التي ترى أن أولوياتها هي ضبط الفضاء العام، وعبر التحكم في دينامية تحولاته، بما فيها العقائد والأفكار، ضمانًا لوحدة النسيج القومي المتشابك عرقيًا ودينيًا. وفي هذا المقال نستعرض كيف غيرت الصين عبر تاريخها المعاصر فلسفة الدين لتتماشى مع توجهاتها السلطوية.


الشيوعية: طريق الإلحاد

واجهت الصين طيلة القرن العشرين مخاضًا عسيرًا تجلى في تردي أوضاعها الاقتصادية والسياسية وعجزها الشديد عن مواجهة تحدياتها الجسام، والتي تفاقمت مع تكالب القوى الاستعمارية عليها، وصلت ذروتها مع احتلال اليابان لإقليمها الشمالي «منشوريا» إبان الحرب الكونية الثانية، فأسهم ذلك في إحياء الحس القومي وإذكاء حماس الكفاح والنضال ضد الوجود الاستعماري والتشرذم السياسي.مع انتهاء الحرب الكونية واندحار الاحتلال الياباني، انفرط عقد الحلف الهش بين رفاق النضال، بين الحزب الحاكم «الكومينتاتغ» والحزب «الشيوعي» بزعامة «ماوتسي تونغ»؛ فانكشف خلاف أيديولوجي عميق كان متواريًا، وعجل ذلك باندلاع حرب أهلية حسمها رفاق ماو بفضل شعبيتهم الجارفة، وتمرسهم حرب العصابات خلال المسيرة الطويلة التي جابوا فيها أرجاء البلاد فرارًا من ملاحقات قوات الحزب الحاكم، معلنين قيام جمهورية الصين الشعبية سنة 1949.بنجاح الثورة الشيوعية في الصين انطلقت عملية الهندسة العميقة لهياكل الدولة ومؤسساتها، وفق تعاليم الماركسية اللينينية المعادية للقومية والإمبريالية وللإقطاعية وللعقائد الدينية، التي تشكل عائقًا و مثبطًا للحماس الجماهيري نحو المجتمع الشيوعي، الذي تتحقق فيه المساواة وتزول فيه الفوارق الطبقية والقومية، فتم إعلان حرب بلا هوادة على البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخاصة الدين الذي اعتبر رمزًا للإقطاعية والرجعية وعائقًا أمام الثورة، وبالتالي لابد من القضاء عليه بصفة نهائية واجتثاث دوره من الحياة العامة، فأصبحت كل الرموز الدينية و المعابد ورجال الدين هدفًا مشروعًا لحملات التصفية والقمع، وتحركت آلة الدعاية الجبارة لترويج الفكر الإلحادي المعادي للدين.أيقن الشيوعيون بزعامة ماو أن التحديث واللحاق بالغرب وتقليص الفجوة الحضارية معه، تفرض تعبئة كل الموارد المتاحة وأهمها العنصر البشري، وأن سبيل ذلك يكمن في تطبيق مبادئ الاشتراكية والتخطيط المركزي، ولا يمكن لهذا أن يتم إلا بإعادة تشكيل الوعي الجماعي، وملء الفراغ الروحي، وشحذ الحماس الثوري بصياغة عقيدة جديدة للشعب الصيني، فكانت الثورة الثفافية هي المحطة الفارقة في ذلك.


الثورة الثقافية وعبادة الزعيم

من شهادات حول الثورة الثقافية
«فوجو وانباو» 1989

خلال فترة حكم «ماو تسي تونغ» الزعيم الشيوعي شهدت البلاد العديد من المحطات البارزة، ولعل أكثرها جدلًا على الإطلاق تجربة الثورة الثقافية التي استمرت قرابة عقد من الزمن (1969: 1976)، إذ سيطرت على جوانب الحياة لملايين الصينيين، مشكلة مصدرًا للإلهام والإيمان بالوعد الشيوعي،ورغم تطرفها الشديد والصخب العارم الذي تسببت به، والذي كاد يودي بالبلاد في غياهب الحرب الأهلية، إلا أنها أعادت رسم ملامح المجتمع الصيني الحديث وفق تصورات الزعيم المطلق ماو، الذي أحس بتراخي قبضته وضمور شعبيته بعد الفشل الذريع لتجربة القفزة الكبرى للأمام التنموية، واتهامه بالمسؤولية في المجاعات الكبرى المترتبة عنها.حينما أدرك ماوتسي أن زعامته على المحك داخل الحزب، دعا الشباب الصيني إلى تشكيل كتائب حمراء لحماية الثورة الشيوعية، ومطاردة الزعامات البرجوازية الحمراء من كوادر الحزب الشيوعي، والفنانين والمثقفين وأساتذة الجامعات والمدارس المعارضين له، كما أعلن الحرب على المعالم الثقافية الأربعة: الأعراف والثقافة والأفكار الدخيلة والرجعية. [1]في خضم ذلك استبيحت المكتبات والمتاحف وكل دور العبادة وصودرت ممتلكاتها، وتم إتلاف تحف قيمة شملت تماثيل أثرية وكتبًا تراثية، وعزل العديد من موظفي الدولة من مناصبهم، بل ونفيهم إلى الأرياف من أجل إعادة تأهيلهم، ومن ضمنهم كوادر رفيعة من معارضي ماوتسي تونغ داخل الحزب الشيوعي.بتزايد شعبية ماو ونفوذه المطلق خلال أحداث الثورة الثقافية تبلورت منظومة اعتقادية وفكرية جديدة، أضفت هالة من التقديس والتبجيل على الزعيم أشبه ما يكون بعملية التأليه، فبدأت عملية توزيع ونشر كتاباته التي كانت تقدم كهدايا في الحفلات، كما نظمت أناشيد الثورية للتغني بالزعيم الملهم، وتنافست المؤسسات لإعلان ولائها، فقامت الصحف بطباعة كلماته بالخط العريض الأحمر، كما وزعت شاراته الحمراء بالملايين على الصينيين، وانتشرت التماثيل والملصقات واللوحات المعبرة عنه في جميع أرجاء البلاد، حيث اعتاد المواطنون على الاصطفاف في طوابير طويلة والانحناء أمامها تعظيمًا وتكريمًا لمخلص الأمة ورمزها الخالد.[2]هكذا قادت الثورة الثقافية لإحياء ظاهرة عبادة الفرد بعد انحصارها في العالم، وكرست في الآن ذاته نظامًا شموليًا مركزيًا سيطر على كل مناحي الحياة، يمثل خير تجسيد لرواية «جورج أورويل» الشهيرة «1984»، صاحب عبارة: «الأخ الأكبر يراقبك».


عبادة الدولة: الأخ الأكبر يراقبك

أنا مدرس تستطيع القول بأني مدمن كتب، ومع ذلك فقد اشتركت يومًا في تدميرها، ليس لدي تفسير منطقي لهذا الخطأ الفادح.
لو أمكن الطبقة العليا أن تحافظ للأبد على موقعها، فلن يكون ذلك إلا بإشاعة حالة من الجنون الخاضع للسيطرة.
من رواية «1984»

تبدو الصين اليوم حالة فريدة في العالم؛ تتعايش فيها التناقضات العميقة، إذ تشكل مزيجًا غريبًا بين الشرق والغرب، وبين اقتصاد السوق القائم على تحرير الأسواق والمبادلات التجارية والاشتراكية المعتمدة على التخطيط المركزي، وبين الانفتاح الحذر على التحولات السريعة التي يعرفها العالم وشمولية سياسية معادية للحريات العامة ولحراك المجتمع المدني.على الرغم من أفول الماركسية وانحصارها في العالم، تظل الشيوعية بالصين حاضرة بقوة، تتخلل تفاصيل السلوكات الفردية والجماعية للمواطن حتى في شؤونه الدينية والتعبدية، بصرف النظر عن انتمائه القومي، سواء كان من أغلبية الـ«هان» أو من الأقليات مثل «الإيغور» المسلمين، وإذا كان الدستور الصيني يعترف بحرية الاعتقاد والتدين، إلا أنه في المقابل يصر على عدائه للدين بتأكيده على الإلحاد وقراره حرية الملحدين في مهاجمة الأديان ونقدها، وهو ما يتضح من خلال حملات حظر الطقوس الإسلامية في إقليم «شينغيانغ» ذي الأغلبية المسلمة. شرعية السلطة المركزية قائمة على أيديولوجية ملتبسة، العلاقة بين الدين والسياسة، فمناهج التعليم وبرامج وسائل الإعلام تركز على محاربة الفكر الديني وتسفيه الأديان لكونها خرافات من صنع البشر، وفي المقابل تعتبر الشيوعية دينًا سياسيًا بكل رموزه، فإله الدولة الماركسية هو الحزب وأيديولوجيته، قادة الحزب هم الكهنة وشمامسة، وكما لكل معتقد أساطيره، فالصين لديها أسطورة «المسيرة الطويلة»، أيقونات ماو الرمزية وترانيمه وشعاراته الثورية.إله الدولة الشمولية يركز على الطاعة والولاء لتعاليمه، وكما في الأديان الأخرى التي تصر على مسؤولية الأفراد عن أفعالهم في الحياة الدينية، لترغيبهم على الالتزام بمنظومة الأوامر والنواهي وضبط سلوكاتهم، فللدولة الشمولية بالصين منظومة خاصة بها لمحاسبة أفرادها، وحثهم على الإخلاص والولاء لفلسفتها الخاصة وقيمها. ففي مشهد يعيد للذاكرة تلك الدولة الخيالية الشمولية التي تتدخل في أدق تفاصيل الحياة الشخصية التي تنبأ بها جورج أورويل في روايته 1984، تعكف الصين على صياغة نظام ائتماني اجتماعي لتقييم مدى التزام مواطنيها وإخلاصهم لبلادهم، من خلال رصد كل بياناتهم ومعلوماتهم الشخصية المتاحة من أنشطتهم اليومية على شبكة الإتنرنت، ثم معالجتها إلكترونيًا لتصنيف المواطن حسب درجات معينة، ثم إثابته بناء على ذلك، فإما تمتيعه بمزايا تفضيلية، وإما معاقبته بحرمانه من بعض الخدمات الأساسية، كتخفيض سرعة الإنترنت وتقييد تحركاته ومنعه من السفر، ففي السنة الماضية فقط تم حرمان أزيد من 6 ملايين مواطن من السفر للخارج بسبب تدني درجات تقييمهم الاجتماعي. في بلد بتعداد سكاني يناهز المليار و300 مليون نسمة، سيطرح هذا البرنامج العديد من الإشكاليات الأخرى المرتبطة بقدرته المطلقة على تشكيل الرأي العام والوعي الجماعي، ومدى خطورة استخدامها من قبل جهات غير رسمية في حال قرصنته، أو إذا قامت هي نفسها بتسويقه للبلدان السلطوية المنتشرة عبر أصقاع المعمورة.هكذا تقدم الصين حاليًا نموذجًا ثوريًا راديكاليًا لمجتمع ما بعد الحداثة؛ يعيد تعريف مقاربتنا لفلسفة الدين ومقوماته الأساسية، بنهج وتصور جديد، يضفي الأولوية على تقديس كيان الدولة وخدمة مصالحها المطلقة، كسبيل وحيد لخلاص المواطنين والارتقاء داخل النسيج الاجتماعي .

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ريتشارد كيرت كراوس، الثورة الثقافية الصينية، مؤسسة هنداوي، طبعة 2014
  2. ريتشارد كيرت كراوس، الثورة الثقافية الصينية، مؤسسة هنداوي، طبعة 2014