كان يُنظر دائمًا ليهود العالم بكونهم شعبًا واحدًا، وكان لظهور الفكرة الصهيونية أثر بارز في محاولة تذويب الفروق بين الجماعات اليهودية المختلفة؛ من خلال إنكار التمايز الحاصل بينها، وطرح الهوية اليهودية الجامعة عبر مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» و«يهود المنفى» وغيرها.

ولكن انتقال أولئك اليهود المتمايزين ليعيشوا معًا في دولة واحدة، كشف عن الفروق الصارخة بينهم؛ لدرجة أنهم كانوا يُوزَّعون بناء على بلدانهم التي جاؤوا منها، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه «عبد الوهاب المسيري» في وصفه الشخصية اليهودية بأنها «تركيب جيولوجي تراكمي». [1]

ولا يمكن بحال إهمال العامل الديني في قضية الشخصية اليهودية؛ ولكن لا بد من ملاحظة أن ذلك العامل يُعاني أيضًا من «جيولوجيا متراكمة»، وبالتالي لا يمكن النظر للشخصية اليهودية بكونها مستقلة عن الحضارات التي عاشت وبرزت فيها، وإنما بكونها جزءًا منها، ما يعني غياب مركزية التفسير اليهودي عن واقع تلك الجماعات.

الطبقة الأولى

بالرجوع للتاريخ، يمكن أن يُنظر للأقوام العبرانية بكونها المُكوِّن الرئيسي للطبقة الأولى من طبقات الجيولوجيا اليهودية. وقد كان التعريف الأول والرئيسي للعبراني تعريفًا قوميًا دينيًا، مع قدرة غير اليهود (الأغيار) على التهود.

وتكمن أهمية هذه الطبقة ليس في كونها الطبقة الأولى المؤسسة لما يُسمى «التاريخ اليهودي» وحسب، وإنما بكونها الطبقة الأولى التي ظهر معها مصطلح «يهودي»، وذلك حدث- وفقًا للرؤية اليهودية- بعد العودة من «السبي البابلي»؛ نظرًا لتحوّل العبرانيين عن لغتهم العبرانية إلى الآرامية.

وبالإمكان أن يُنظَر لتشتت اليهود خارج فلسطين ومن ثَمَّ تحولهم لجماعات وظيفية منعزلة على ذاتها إثنيًا ودينيًا، بكونها نقطة الانطلاق التاريخية نحو البناء الجيولوجي الذي تحول ليكون تراكميًا في ظل الدولة الصهيونية بعد عام 1948؛ أي أن الشخصية اليهودية إنما تبلورت ضمن أنساق خاصة بثقافات المجتمعات المضيفة.

تكوين المجتمع الإسرائيلي

لقد أدى غياب سلطة مركزية يهودية واحدة وظهور مراكز يهودية متعددة في مدن كالإسكندرية المصرية وبابل العراقية، إلى نهاية الهوية اليهودية الموحدة- على افتراض وجودها تاريخيًا- إضافة لضمور الهوية الإثنية الموحدة، لصالح جماعات متفرقة هنا وهناك؛ بسبب غياب وسائل الاتصال والمواصلات بالدرجة الأولى.

إن القلق الوجودي في الدولة الصهيونية سببه الأول هو فشل الحركة الصهيونية في تكوين مجتمع (إسرائيلي) متماسك وموحد، فإذا أخذنا في الحسبان أن ما يجعل من الشعب شعبًا- في التعريف البسيط على الأقل- هو مجموع العادات والتقاليد واللغة والثقافة والدين والتعايش لمدة طويلة على أرض معينة، إضافة للشعور القومي العام الذي يؤطر ما سبق في وحدة واحدة، فإن بالإمكان إدراك الفشل الذي مُنيت به الصهيونية في كل ذلك، ولا يُستثنى مما سبق سوى اللغة التي استطاعت أن تُحيِي شكلًا منها سُمي «العبرية الحديثة»، مُمثَّلة في «إليعازر بن يهوذا»، بطل ذلك الإحياء.

إن النجاح الذي حققته الصهيونية بإحياء اللغة العبرية لم يكن إلا لأسباب موضوعية وعلمية بحتة تتعلق بآليات اكتساب اللغة الأم، مع أن اللغة العبرية كانت في حد ذاتها الوسيلة الأكثر أهمية في تمكين الروابط القومية بين الجماعات اليهودية، إلا أنها كانت دليلًا على التمزق والتفكك الغالب على علاقة تلك الجماعات مع بعضها البعض، من خلال التنافس بين النطقين السفاردي والإشكنازي، الذي كانت له الغلبة في نهاية المطاف.

بين حركتي «الهكسالاه» و«همزراحي»

وقد بقي اليهود ملتزمون بأن ينظروا لأنفسهم من المنظور الديني البحت؛ بسبب انعزالهم وبعدهم عن الحياة العامة في أوروبا، إلا أنهم تحت وطأة ما عُرف باسم «حركة التنوير» في أوروبا، التي كانت مشحونة بالمفاهيم القومية، ظهرت حركة «الهكسالاه»- وهي كلمة عبرية تعني «التنوير»- على يد الفيلسوف اليهودي الألماني «موسى مندلسون».

لقد كان هدف الحركة أساسًا هو تقريب الثقافات الأوروبية لليهود، الذين تحرروا من جدران الجيتوهات؛ أي أن الهكسالاه كانت محاولة للاندماج في المجتمعات الغربية مع الحفاظ على الخصوصية اليهودية الدينية.

ومع أن الهكسالاه فشلت في تحقيق مرادها، إلا أنها أدت، إضافة إلى تجديد حالة الأدب العبري، وتحريك اليهود ضد أوضاعهم في الجيتوهات، إلى بداية حركة الإصلاح الديني (اليهودية الإصلاحية) التي ظهرت بكونها طبقة جيولوجية أخرى من الطبقات اليهودية، خصوصًا بعد التصادم الذي وقع بينها وبين الحسيدية (حركة يهودية دينية) واليهود المحافظين في شرق أوروبا.

لقد كان فشل الهكسالاه بوصفها حركة اندماجية، مدعاة للقوميين اليهود لاستغلال الحدث في البرهنة على فشل الحلول الاندماجية، وتوجيه الرأي العام نحو رؤية قومية تُجمِّع أولئك اليهود المشتتين في أوروبا في إطار قومي واحد باسم الشعب اليهودي، في محاولة لاستدعاء المصطلح التوراتي.

بيد أنها استُخدمت في سياق علماني يناقض مبادئ اليهودية التقليدية التي تقول إن «إسرائيل» لا تقوم إلا بعودة المسيح؛ ما يعني أن الصهيونية تنافي اليهودية بكونها حركة علمانية ابتداءً، تخالف البنى الدينية التي يقوم عليها «الشعب» اليهودي وفقًا للتعاليم اليهودية.

ومع أن هذا الصدام بين العلمانية اليهودية وتطوراتها واليهودية التقليدية (الدينية) قد أدى إلى بلورة اليهودية العلمانية، إلا أنه في الوقت ذاته قد أدى لظهور النقيض المتمثل بالصهيونية الدينية؛ في محاولة للتوفيق بين الفكرة الصهيونية العلمانية المجردة التي كانت تستند بطبيعة الحال لمبادئ توراتية، والدين اليهودي دون أن يصل الوضع لتداخل بين القيمتين المتناقضتين، وقد كانت حركة «همزراحي» المعبر الأول عن ذلك.

بين الإثنية والتدين

يمكن النظر للصراع الديني الصهيوني الداخلي كونه تجسيدًا منطقيًا لصراع الشرق مُمثلًا في السفارديم، الذين تبلورت هويتهم الإثنية في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وبين الغرب الذي يُمثله الإشكناز.

ولكن رغم محاولة الصهيونية الترويج للتصنيف الثنائي سفاردي– إشكنازي، بكونه تصنيفًا يهوديًا تاريخيًا أصلًا، فإنه يصعب حصر الجماعات اليهودية في تصنيفين فقط، والأفضل استخدام مصطلحي «يهودي شرقي» و«يهودي غربي»؛ لما في المصطلحين من انفتاح كبير يساعد على أن يُضمن فيه جماعات أخرى متنوعة، كما يرى المسيري.

لقد نُظر دومًا للحركة الصهيونية بوصفها حركة إشكنازية غربية، لدرجة أن «الشعب اليهودي» في بواكير أدبيات الحركة لم يكن يعني شيئًا سوى الإشكناز الذين كانوا غالبًا ما يتحدثون اللغة اليديشية.

ويظهر أثر السيطرة الإشكنازية على الحركة الصهيونية في عدد القيادات التي تحكم الدولة الصهيونية؛ إذ يسيطر الإشكنازيون على مفاصل الدولة بشكل شبه مطلق، بينما يُعامل بقية اليهود من الإثنيات الأخرى بكونهم أدنى درجة.

وفي حقيقة الأمر، فإن حصر الجماعات اليهودية والخلافات بينها جميعًا أمر صعب، إلا أن أهم الجماعات الإثنية اليهودية بعد الإشكناز والسفارديم هم اليهود المستعربون والفلاشا، وجماعات أخرى أقل عددًا وتأثيرًا.

لقد كانت الجماعات اليهودية على الدوام ترفض نظراء لها، لأسباب تتعلق بالخلفية الإثنية؛ فلم يُنظر للفلاشا كونهم يهودًا أبدًا؛ بسبب لونهم ولغتهم المختلفة التي يقرؤون بها كتبهم الدينية، ومن المفارقة هنا أن تخلي الفلاشا عن لغتهم الدينية الخاصة وتبينهم العبرية سيسلخهم عن يهوديتهم بطريقة أو بأخرى؛ لأن نظرة أي جماعة يهودية لنفسها على أنها يهودية نابعة في حقيقة الأمر من نظرتها لنفسها داخل سياق مجتمعها.

إضافة لذلك، فقد أدى بروز جيل «الصابرا» داخل الدولة الصهيونية إلى ظهور طبقة جيولوجية جديدة مستمرة، في مقابل الهجرات اليهودية من شتى أنحاء العالم نحو «أرض الميعاد».

فقد مثّل جيل الصابرا؛ أو الذين وُلدوا وعاشوا ولم يعرفوا إلا الدولة الصهيونية، تحديًا وصدمة للمهاجرين، الذين قدموا على أسس أيديولوجية صهيونية ليبرالية، ومع ذلك بقوا مقولبين ضمن أطر إثنية ودينية، وفي بعض الأحيان، وطنية ضيقة.

والملمح البارز الذي يتضح عند دراسة الجماعات اليهودية وخصائصها هو تداخلها وتشابكها في كثير من الأحيان، خصوصًا على المستوى الديني، لكن ذلك التشابك لا يعني ذوبانًا، وإنما يعني عقبة تقف أمام تعريف موحد للشخصية اليهودية.

المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، «من هو اليهودي؟»، ط3، دار الشروق، القاهرة، 2002.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.