رغم حداثة نظرية التلقي كإحدى النظريات في النقد الأدبي، إلا أن التلقي كمفهوم كان موجودًا منذ وُجد العمل الأدبي نفسه، فعملية الإبداع لها ثلاثة أركان، هي: المبدع والمتلقي والنص، والمتلقي يشارك المبدع في عملية الإبداع بتقبله عمله أو عدم تقبله، كما أن المتلقي هو من يمنح النص الأدبي الذيوع والانتشار والخلود، بتقبله الحسن، وهو من يحكم على النص بالموت في بطون الكتب إذا لم يتقبله.

وقد يستوي التقبل الحسن بغير الحسن في عملية ذيوع النص وانتشاره، فالناس يقبلون على الأعمال المرفوضة إقبالهم على المقبولة، وربما كان إقبالهم عليها أكبر. وليس هناك شاعر عربي ثارت حوله عاصفة من الرفض والقبول مثل أبي الطيب المتنبي، والمكتبة المتنبية – على حد تعبير المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير – أكبر دليل على هذا، وقد قال ابن خلكان: «وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحًا ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره» [1]، وقد ذكر الدكتور حسين الواد عن مصادره أن شروح المتنبي فقط بلغت ستين شرحًا [2]. وقد شارك في هذه المعركة بالصمت عن ذكر المتنبي كل من أبي الفرج الأصفهاني، وأبي عبيد الله المرزباني في الأغاني والموشح.

والأدب لا ينشأ من فراغ، فهناك عوامل تساعد على نشأة الآداب العظيمة، ومن تلك العوامل الزمان والمكان، وكذلك البيئة المحيطة بالمبدع، فإن شاعرًا عظيمًا لن يتكوَّن إلا في زمن الخصب الأدبي والنقدي، وقد وُلد أبو الطيب وعاش حياته كاملة في القرن الرابع الهجري (303هـ – 354هـ)، وهو عصر نهضة أدبية وعملية رغم أنه كان عصر ضعف وتفكك، فقد انحسرت سلطة الخلافة العباسية في بغداد، واستقل كل أمير بإمارته وأعلنها دولة.

وُلد أبو الطيب في الكوفة بكندة ونشأ بالشام ثم ارتحل إلى البادية صغيرًا وصحب الأعراب، ثم عاد بعد سنين بدويًّا، وقد تعلَّم القراءة والكتابة وصحب الوراقين ولازمهم، وكان شديد الفهم سريع الحفظ [3]. ثم جاب المتنبي عدة مدن، واستقر به المقام عند سيف الدولة في حلب، ثم خرج إلى مصر ثم عاد إلى الكوفة، والمتأمل في تلك الأماكن يرى أنها كانت محلًّا للعلم والأدب.

وقد عاصر المتنبي جملة من الكتاب المتخصصين في نقد الشعر، الذين يحملون ثقافة عربية محضة لا تشوبها المؤثرات الخارجية ولا الثقافات الأجنبية، ومن هؤلاء: أبو بكر الصولي (336هـ)، وأبو الفرج الأصفهاني (336هـ)، والحسن بن بشر الآمدي (371ه)، والحاتمي (383ه)، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني (392ه)، كما عاصره قدامة بن جعفر (337هـ)، وكذلك ابن العميد (360هـ)، والصاحب بن عباد (385هـ)، وكان أبو هلال العسكري (395هـ) قريبًا منه كذلك.[4]

النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري

كان القرن الرابع الهجري عصرًا متعدد الثقافات، فقد كانت هناك الثقافة اليونان بجوار الثقافة العربية، وقد أثَّرت تلك الثقافة على النقد الأدبي، فنشطت حركة التأليف النقدي، وصار للنقد كتب ومناهج، وتم تأليف الكتب في النقد، كما قام بعض النقاد بوضع أسس منهجية لنقدهم، ومن هذه الكتب أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي، والموازنة بين الطائيين للآمدي. وقد كان للمتنبي نصيب كبير من هذه الحركة النقدية في حياته، ومن تلك الكتب الرسالة الحاتمية للحاتمي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، والصناعتين لأبي هلال العسكري، والكشف عن مساوئ شعر المتنبي للصاحب بن عباد، وكتاب الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصبهاني (تاريخ بعد 380هـ).

ولا بد لعصر زخر بكل هؤلاء العلماء وبكل تلك الكتب النقدية وما سبقها من كتب نقد وبلاغة أن يُنتِج شاعرًا كبيرًا بحجم أبي الطيب المتنبي، فلم يكن المتنبي وغيره من الشعراء ببعيدين عن تلك الثقافة النقدية، فقد تعلم المتنبي القراءة والكتابة صغيرًا، كما لازم الوراقين، فقد قرأ وهو صغير كتابًا للأصمعي وحفظه من مجرد المطالعة.[5]

ولا شك أنه كان يملك ذاكرة فوتوغرافية مكَّنته من حفظ ثلاثين ورقة من قراءة واحدة، وغيره يحتاج شهرًا لحفظ مثل ذلك الكتاب، كما كان شاعرنا من أعلم أهل العربية بالعربية، ولعل أكبر دليل على هذا إعجاب لغوي كبير في حجم أبي الفتح عثمان بن جني (392هـ) به وملازمته إياه، حتى إنه كان أول من فسَّر ديوانه، وقد فسَّره مرتين، في الفسر الصغير والفسر الكبير.

التلقي في القرن الرابع الهجري

تقوم العملية الأدبية على ثالوث (المبدع، النص، المتلقي)، وتشير نظرية التلقي Reception Theory على الإجمال إلى تحول عام من الاهتمام بالمؤلف والعمل إلى النص والقارئ[6]، وذلك على اعتبار أن قارئ النص يشارك مبدعه في وضع حدود وتفسيرات للنص، تبعًا لثقافة وتكوين القارئ الأدبي، وكل ما كوَّن ذهنه من قراءات، وكل ما أحاط به من بيئة طبيعية وأدبية وعلمية، وكل ما يعتمل في نفسه من مزاج وحس وشعور، وحتى عقده النفسية، وكذلك الخبرات الحسنة أو السيئة التي تخص معرفته وتقبله أو عدم تقبله لمبدع النص، وهذه النظرية تجعل القارئ شريكًا للمبدع في عملية الإبداع، وذلك يأخذنا إلى الفرق بين «التلقي» Rezeption و«الفاعلية» Wirkung، فكلاهما يتعلَّق بما يُحدِثه العمل في شخص ما من أثر، كما لا يبدو من الممكن الفصل التام بينهما.[7]

وهذه الإشكالية والتي تعني أن مفهوم التلقي يتلبَّس بمفهوم الفاعلية، تضعنا أمام حقيقة مهمة، وهي أن التلقي لا يبتعد كثيرًا عن الفاعلية في النص، فالمتلقي مبدع جديد للنص بعد مبدعه الأول، ولعل المتنبي نفسه كان واعيًا بذلك حين كان الناس يسألونه عمَّا خفي من معاني شعره، فيقول لهم اسألوا ابن جني، فقد ورد على الفضل بن العميد وهو بأرجان فحسن موقعه منه، وأنشده:

بادٍ هواكَ صبرتَ أو لم تصبرا *** وبُكاكَ إن لم يجر دمعكُ أو جرى

قيل: سُئل أبو الطيب عن نصب تصبرا، فقال: سلوا الشارح، يعني ابن جني[8]، وفي هذا وعي شديد من المتنبي بأن الشارح وهو (متلقٍ) ممتاز يستطيع أن يضع للناس تفسيرًا، وهذا التفسير يرتضيه المتنبي (المبدع) فهو بتلقيه إنما كانت له الفاعلية في النص.

وفي القرن الرابع الهجري ركَّز النقَّاد في تلقيهم للنص على معيار الجودة الفنية والعلاقة بين النص والمتلقي والأثر الذي تُتيحه المكونات في النص حينما يتفاعل القارئ معها، فالجودة الفنية كانت معيار النقاد الأول في عصر المتنبي، كما أنهم فطنوا إلى العلاقة بين المتلقي والنص، وقد سلَّطوا الضوء على الأثر الذي ينتج عن مكونات النص حين تفاعل القارئ معها، وعلى الفعل الذي يقوم به في أثناء القراءة، كالقبض على المعاني والدلالات، وبالأثر النفسي والسلوكي الذي تخلفه القراءة وبالانعكاس الجمالي.[9]

وقد انقسم النقاد في القرن الرابع إلى قسيمين؛ الأول يتمسكون بالمعنى، وهم المحافظون أنصار القديم الذين ينتصرون للشكل التقليدي للقصيدة العربية كما ورثوها عن أجدادهم، والقسم الثاني هم من يذهبون إلى تغليب اللفظ.[10]

وقد انقسم الأدباء والمعنيون بالأدب والنقاد في شعر المتنبي وشخصه إلى فريقين، فريق يرى المتنبي شاعرًا عظيمًا، لديه طاقة شعرية لا تحدها حدود، كما يثقون في كلامه، ويثقون في لغته ويقدرونه أيما تقدير، وفريق آخر يرى في المتنبي شاعرًا مغرورًا غريب الثياب، يخرج باللغة عن طورها المألوف لديهم. ويمثل الفريق الأول المنحاز إلى المتنبي اثنان من الكبار، أولهما «أبو الفتح عثمان بن جني»، وهو من كبار العلماء، وقد صحب المتنبي زمنًا، وكان معجبًا بشعره، لا يتلفَّت لما يقوله الآخرون عنه، بل يدافع عنه، حتى إنه استطاع أن يغير رأي أستاذه أبي علي الفارسي في المتنبي[11]، والثاني هو «أبو العلاء المعري» (ت 449 هـ) الشاعر الفيلسوف صاحب اللزوميات.

أما الفريق الآخر فيمثله اثنان من أكبر كارهي المتنبي، الأول هو «الصاحب بن عباد»؛ الذي ألَّف كتابين عن المتنبي أحدهما في كشف مساوئه، والآخر هو «الحاتمي»، وقد ألَّف رسالتين في ذم المتنبي.

ثم استمر هذا الخلاف في شخص ونتاج المتنبي الشعري بعد وفاته حتى يومنا هذا، فأُلفت مكتبة ضخمة حول هذا الشاعر الفذ، وقد شُرح ديوان المتنبي عشرات المرات مكتوبًا في كتب ضخمة، منها الموجود اليوم ومنها المفقود، كما شُرح شفهيًّا في حلقات العلم والأدب في الفسطاط والكوفة وغيرها[12]، ولا زالت إلى اليوم تؤلف الكتب والبحوث والرسائل العلمية في شاعرنا الكبير، وكل هذا دليل على أنه أعظم شعراء العربية على مر العصور.

المراجع
  1. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي، إحسان عباس، دار صادر – بيروت، ط 0، ج 1، ص 121.
  2. انظر المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب تلقي القدماء لشعره، دكتور حسين الواد، دار الغرب الإسلامي، ط 2 2004، ص 34.
  3. انظر مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله المعروف بـ «سبط ابن الجوزي»، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الرسالة العالمية، دمشق – سوريا، ط 1، 2013، ج 17، ص 365.
  4. انظر السابق.
  5. انظر مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 17/365.
  6. نظرية التلقي مقدمة نقدية، روبرت هولب، ترجمة د. عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية 2000، ص26.
  7. السابق، ص25.
  8. الصبح المنبي عن حيثية المتنبي (مطبوع بهامش شرح العكبري)، يوسف البديعي الدمشقي، المطبعة العامرة الشرفية، ط 1، 1308 هـ، ج 1، ص 183-184.
  9. السابق ص 1.
  10. انظر السابق.
  11. انظر الصبح المنبي ج 1/ 210 وما بعدها.
  12. انظر كتاب ديوان المتنبي عند العرب والمستشرقين. دكتور ريجي بلاشير، ترجمة د. أحمد أحمد بدوي، مكتبة نهضة مصر، ط 1.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.