نعني بالخطاب النضالي؛ «الرؤى والمشاريع الرافضة للواقع، الساعية لتغييره جذرياً، والمرتكزة على استخدام، بل وتكرار استخدام، كلمات: الثورة، والنضال، وحتمية الثورة، وحتمية انتصار الثورة، إلخ» حتى غدت هذه الكلمات معه، كلمات مبهمة، بلا دلالة محددة.

ولعل أساس جاذبية هذا الخطاب، وهي الطوباوية (الحلم بالمدينة المثالية التي تنتهي معها كل المشكلات) الجميلة التي تغشاه، هي أساس ومبتدأ الخلل فيه، والداعي للحاجة إلى تمحيصه ونقده؛ فالسيناريوهات الحالمة، بطبيعتها الغير العملية، والغير قابلة للتطبيق، تعجزنا عن تحقيقها، مما ينتهي بالمتعلقين بها إلى الإحباط واليأس، ومن ثمّ اعتزال الواقع.

وهكذا، ما كان في مبتدئه دعاوى لتغيير الواقع، وقلبه رأساً على عقب، صار قيوداً «ذهبية»؛ فهي جميلة وجذابة، ولكن بعدها عن الواقع وعدم امكان تطبيقها، يحيلها مكبلاً وعائقاً عن العمل وإحداث الأثر فيه.

بل هي –قبل ذلك– معيقة عن إحداث التغيير في الواقع؛ لطبيعتها غير العلمية، حيث أنها قولبة للواقع في قوالب جاهزة، و إسباغ طابع سوريالي ومسرحي عليه، يجعلنا أبعد ما نكون عن فهم الواقع كما هو، بعيداً عن الشعارات والقوالب الجاهزة، هذا الفهم الذي هو الأساس لإحداث التغيير في الواقع.

بل أنه كثيراً ما تكون هذه الشعارات حيلاً و سبيلاً للهروب الى الأمام، حيث يترك الواقع بكل تفاصيله وتحدياته و مشكلاته الراهنة، وننشغل بالشعارات الفارغة، التي لا تعدو كونها إفتراضات ماورائية. يستوي في ذلك «الثورة» عند اليساريين، و«الخلافة» عند الإسلاميين.


الذاكرة التاريخية: أحد أعمدة هذا الخطاب

التي يستند لها ويُكثر العودة والارتكاز عليها في أمثلته ومقارباته؛ حيث يتصف هذا الخطاب بطابع نوستالجي (الحنين الى الماضي)[1]، كما الحال مع كل مجموعة تميل إلى التمثل بزمن بطولي أسطوري يضفي طابعاً شرعياً على نضالها. تشمل هذه الذكريات: ذكريات القمع، وروايات الاحتلال والنضال، وقصص المعارضة، وأساطير الأمجاد الماضية والمستقبلية، وكلمات الألغاز والرموز المستمدة من تاريخ المقاومة والتمردات.

كل هذه الروايات وغيرها، المشتركة في كل الثقافات تقريباً، والتي يتم اقتراحها وصياغتها في قالب الماضي الصالح للاستعمال، الذي يتحدى الحاضر و يمد يده إلى المستقبل [2].

نقدنا للذاكرة التاريخية ليس بالإشارة إلى كونها مشتركة بين ثقافات مختلفة من أزمنة مختلفة، بل هو في إعادة دراسة واستقراء لثورات القرن العشرين وتمرداته

ليس نقد الذاكرة التاريخية الذي نرمي إليه هو فقط بالإشارة إلى كونها مشتركة بين ثقافات مختلفة من أزمنة مختلفة، بل إن نقدنا هو في إعادة دراسة واستقراء لثورات القرن العشرين وتمرداته (والتي هي بالعادة ما يكوّن مادة هذه الذاكرة)، حيث أن الناظر فيها يرى فيها بدايةً صراعات طبيعية مثل سائر الصراعات السياسية عبر التاريخ، ولكن الأوهام الأيديولوجية ألبستها صورة مخترعة، تحت مسمى «ثورة» (ونعني هنا الثورة تحديداً من المنظور الماركسي، والمرتبط ضرورةً بتحرير البروليتاريا).

ثم إنه علينا أن نربط هذه «الثورات» وهذا «النضال» بسياقها، وهو سياق الصراع بين الأقطاب في حقبة الحرب الباردة؛ حيث كانت دائماً هذه الثورات مدعومة من دول خارجية أخرى (حتى الثورة البلشفية كانت مدعومة من الحكومة الألمانية، المتنازعة مع القيصرية الروسية [3])، مما يمكننا من القول بأن «الثورات» هي شكل من أشكال الحروب والصراعات غير المباشرة بين الدول، بحيث تكون واجهتها و أدواتها هم «المناضلون» الثوريون.

وبعيداً عن رومانسية الأممية الشيوعية ومقولات «تصدير الثورة»، لقد كان الاتحاد السوفيتي، الذي عادة ما يتعلق به أصحاب الخطاب الثوري والنضالي، في طليعة القوى الخارجية، فلم يكن السلوك السوفيتي تجاه «حلفائه» و«الأحزاب المتآخية معه» أقل استغلالاً من الإمبريالية الغربية تجاه البلدان غير الأوروبية.

هذا فيما يتعلق بالسياق، أما عن طبيعة التغيير نفسه، فقد كانت جلّ التغييرات السياسية المسماة ثورات عبارة عن انقلاب في أنظمة الحكم، تمت على أيدي أشخاص من أصحاب السلطة والنفوذ من داخل بُنية السلطة نفسها[4]. لقد كانت أقرب إلى إعادة توزيع الأدوار داخل بيت السلطة المتمثل بالنخب السياسية المتنفذة.

وفي أحيان أخرى، كثيراً ما كانت هذه الثورات هي في حقيقتها مشاكل وصراعات اثنية لا مطالب اجتماعية وعمالية. حيث كان التهديد الإثني أكثر دفعاً للجموع إلى الخيار الثوري من حالة الاستغلال الطبقي وعدم العدالة في توزيع الثروات، ونجد هذا متحققاً في حالات الاستقلال القومي أو التحرر من الاستعمار التي جاءت تحت مسمى ثورات [5].


عالم ما بعد الحرب الباردة

استطاعت الدولة الحديثة احتواء الثورات وتقويضها من وجهين؛ العدالة الاجتماعية، والدمقرطة

أما المحور الثاني للنقد فهو من الواقع الراهن، من عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث أن طبيعة الدولة الراهنة استطاعت احتواء الثورة وتقويضها من وجهين: العدالة الإجتماعية، و«الدمقرطة»، وإن تفاوتت الدول في مدى تطبيق كل منهما. أما عن تطبيق سياسات العدالة الإجتماعية، فتخبرنا شهادة القرن العشرين بأن العالم لم يكن بالبساطة التي حدثنا عنها ماركس، وأن الثورات لا تحصل لتضارب القوى الدنيا مع القوى العليا، وأن الإتصال بين الفقر والثورة ليس مباشراً.

فلقد سعت الأنظمة الرأسمالية -وما زالت- إلى إجهاض أي حراك ثوري داخل حدود سلطتها، وحرصت كل الحرص على عدم استثارة الكتل والجموع الخاضعة لها، وتجنب الوصول إلى «الوضع الثوري». وكان ذلك من خلال مبادرتها إلى تحسين أوضاع العمال كسبيل لاحتوائهم، منعاً لانخراطهم في «ثورة اجتماعية»، وكان ذلك من خلال سُبل مختلفة، كالضمان الإجتماعي، والنقابات المهنية، والتأمين الصحي. مما انتهى إلى تحقيق العدالة الإجتماعية في عدد من الدول الرأسمالية، في إطار دولة الرعاية الإجتماعية [6]. حيث كان «الاقتصاد المختلط» (الكينزي) هو التوليف النهائي لجدلية النقيضين: الرأسمالية والاشتراكية.

وأما عن «الدمقرطة» (Democratization)، فهي وإن لم تكن حقيقية وتامة، إلا أن السياسات الليبرالية الإصلاحية قد استطاعت احتواء السياسات الثورية بفعالية أكبر مما هو عليه الحال في الأنظمة الإستبدادية (الشمولية)، التي عادةً ما كانت تقوم «الثورات» عليها؛ حيث أنها، باحتكارها السلطة في ظل حكومات الحزب الواحد، لم تكن تترك خياراً للجموع سوى اللجوء إلى التغيير العنيف.

أما في الحالة الليبرالية، والتي أخذت تسود تدريجياً في عالم ما بعد الحرب الباردة، فقد أدت التعددية والإشراك الجزئي في الحكم، بالإضافة إلى استخدام الليونة المؤسساتية والسماح بدرجة محدودة من التغيير، وقطع الصلات بين الطبقات الوسطى والقوى الشعبية، إلى احتواء السياسات الثورية وتلافي إمكانية حدوث ثورة اجتماعية كبيرة وعنيفة. وجعل بإمكاننا القول بأن «الديموقراطية» قد خلقت عائقا أمام الثورات التي تتبع الأسلوب القديم على الأقل.


الثورة على من؟

وأما المحور الثالث للنقد، فسنجعله تحت عنوان: «الثورة على من؟»، وهو أيضاً من عالم ما بعد الحرب الباردة. ففي ظل سياسات الانفتاح النيوليبرالية وتراجع سلطة الدولة في عصر العولمة (نتيجة لـ: الخصخصة، الشركات متعددة الجنسيات، المؤسسات دولية: النقد الدولي، دمج الأسواق المحلية بالسوق العالمي…) تراجعت سلطة الدولة حتى لم تعد هدفاً يستحق العناء [7]، مما يقوّض منطق النشاط الثوري وحياته.

إن تراجع الدولة الوطنية، وهو الأمر الذي تنطوي عليه العولمة ضمنياً، يجب أن يتضمن فقدان الثقة بالثورة كمحرك للنزاع على السلطة؛ نظراً لصعوبة تحديد هوية المواجَه؛ حيث أن عدم وجود العدو الواضح ينتهي الى ضياع البوصلة وعدم القدرة على الحشد. من هو الطرف الذي ستُحشد هذه الثورة ضده؟ من هو العدو اليوم؟ هل هو البنك الدولي، أم مؤتمر دافوس، أم صندوق النقد الدولي؟ لقد كانت الثورات في الماضي متعلقة بـ«الدولة – الأمة» وبالطبقات الإجتماعية المحلية، ولكن الحال تغير اليوم، في القرن الحادي و العشرين، في حقبة العولمة.


التداول المفاجئ والعنيف للسلطة

إن تراجع الدولة الوطنية، وهو الأمر الذي تنطوي عليه العولمة ضمنياً، يجب أن يتضمن فقدان الثقة بالثورة كمحرك للنزاع على السلطة
يرتبط الطرح التقليدي للثورة بالتأكيد علي الاستيلاء «العنيف» على سلطة الدولة عبر التمردات الطبقية

أما المحور الرابع فيتعلق بطبيعة الأطروحة التقليدية للثورة، والتي تعرف الثورة بأنها «الاستبدال المفاجئ والعنيف والجذري لمجموعة حاكمة في كيان سياسي معيّن بمجموعة أخرى كانت مستبعدة سابقاً»، وهو تعريف متأثر بالنموذجين الفرنسي والروسي، وأهم ميزة له هو التأكيد على الاستيلاء «العنيف» على سلطة الدولة عبر التمردات الطبقية (التي سيقوم بها العمال الذين لن يخسروا سوى قيودهم، بحسب ماركس).

ولكن اليوم، ومع نهاية القرن العشرين الطويل، المليء بالتجارب، تجد عامّة الناس رافضة للعنف، عازفة عنه كسبيل للتغيير، وغير مستعدة لتحمل كلفته، فقراءهم قبل الأغنياء. وهنا تبدو «النضالات الدفاعية» المتمثلة في العمل النقابي والنشاط العمالي، والعمل ضمن جماعات الضغط، والحملات ذات المطالب المشروعة والمحددة، كبديل أكثر عملية وتقبلاً؛ حيث ينطوي هذا النموذج على مطالب واضحة في صيغة برامج دقيقة محددة، وهي مطالب مشروعة، لا يجادل فيها أحد؛ لكونها مبنية على أساس حقوقي، لا أيديولوجي.

وبدلاً من العقيدة المشتركة (التي تتطلبها الأطروحة التقليدية)، فإن الرابط هنا هو الحاجات اليومية والضرورات العملية داخل الاقتصاد العالمي، والمطالبة المتزايدة بالعدالة الإجتماعية والمساواة من قبل الناس الذين لم تعكس حياتهم «اليومية» أياً من الاثنين.

خلاصة القول: نهاية الثورات ليست نهاية التاريخ.. ليس انحطاط النموذج الثوري أمراً ينبغي أن يشل حركة المطالبين بالعدالة الإجتماعية.. بل ما يجب هو تغيير شكل الثورة، وقبل ذلك: وعي الواقع كما هو، لا كما نريد، ثم تغييره بالأدوات الأكثر تأثيراً، لا الأعلى صوتاً.


[1] بل و أحياناً يصل الى نوع من «الماضوبة» التي تتسم بها الخطابات السلفية، والمتمثلة في استحضار نماذج تاريخية من الماضي ومحاولة عيشها. وأحياناً يصل حتى إلى ضرب من الحالة الطقوسية (قبعة جيفارا مثلا).[2] بل إننا نجد قريب من هذا في ثقافات عديدة في الأزمنة القديمة: قصص، روايات، أخبار، أساطير حول «الغريب الآتي من الشمال/الجنوب/الشرق/الغرب»، إضافة الى روايات حول عودة الابن الضال، الذي سيقود الشعب الى أرض الميعاد.[3] وإن كنا لا نذهب في هذا القول –كما في الطرح المؤامراتي – إلى نفي وجود أي اضرطابات داخلية، بل إن هذه الاضطرابات هي التي تستند عليها القوى الخارجية في تدخلها.[4] كما صنع الضباط الأحرار في ثورة 23 يوليو/تموز، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لتضخم المؤسسة العسكرية وتغلغلها في المجتمع المصري مع انتصاف القرن العشرين.[5] كما في ثورات ربيع الأمم عام 1948 في السياق الأوروبي، أو الثورة العربية (1916) في السياق العربي.[6] وإن كان تطبيق السياسات النيوليبرالية قد مثل نكسة كبيرة، وتراجعا عن دولة الرعاية الإجتماعية.[7] وهذا التراجع لـ «الدولة-الأمة» غير مقتصر على الدول النامية، بل حتى في الدول المتقدمة، أصبحت الشركات ذات سيادة عالية، ومشاركا رئيسيا في صنع القرار وتوجيه سياسات الدولة.