كأنما كان الأمر حربًا يحاول الكونجرس الأمريكي الانتصار فيها، حربًا ضد الرئيس السابق دونالد ترامب وسياساته، وحربًا بصورةٍ أقل ضراوة ضد المملكة العربية السعودية، والانتصار الأمريكي تجلى في قرار الكونجرس بوقف دعم الولايات المتحدة للحرب السعودية في اليمن، وتجلى بصورة أقل وضوحًا في اعتبار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مسئولًا مباشرًا عن قتل الصحافي المعارض جمال خاشقجي.

القراران السابقان لم يصدرا أمس أو الأسبوع الفائت، بل صدرا في أواخر ديسمبر/ كانون الأول عام 2018. وتلاهما العديد من الخطب الرنانة لأعضاء مجلس الشيوخ حول ضيقهم من دفاع ترامب عن ولي العهد السعودي، واجتمعت أقوالهم على أن القراراين يضعان ترامب في مأزق وعر، إما الموافقة عليهما والوقوف جانب الكونجرس، أو رفضهما والوقوف جانب ولي العهد.

لكن المفاجأة أن القرارين لم يعدوا كونهما أمرًا رمزيًا لا صدى له في أرض الواقع، فقد أكد ترامب شفهيًا، وأكدت السنوات اللاحقة، أن دعم ترامب لم يتوقف. لكن رجل الأعمال دونالد ترامب بالطبع لم يترك الأمر هباءً، بل استطاع أن يكسب من القراراين ورقة ضغط قوية يجبر بها ولي العهد السعودي على دفع مليارات الدولارات.

بعد قرابة ثلاثة أعوام تجدد الأمر، ليس بتصويت لكن بتقرير استخباراتي أعدّته وكالة الاستخبارات الأمريكية يدين ولي العهد السعودي بشكل رسمي. عند الإعلان عن التقرير جاء رد الرئيس الحالي جو بايدن متحفظًا بصورة كبيرة، وحين سُئل هل تواصل مع ولي العهد السعودي أجاب أنه لم يفعل، ولكنّه قد يفعل قريبًا. دون أن يُشير بأي صورة إلى نواياه أو مواقفه المحتملة تجاه ما جاء في التقرير.

لا قطيعة ولا شيكًا على بياض

التوقع المُجمل لرد فعل بايدن، هو نفسه التوقع المُجمل لسياسة بايدن عامة، سياسة الشد والجذب، عدم تقديم شيك على بياض كما فعل ترامب، وفي نفس الوقت عدم الجنوح للتشدد طوال الوقت، بل إعادة ضبط للعلاقات بين البلدين. لذا فإدانة ابن سلمان بالضلوع المباشر في قتل خاشقجي لا تعني نهاية ولي العهد أو تدمير مستقبله السياسي، فلدى الأمير الشاب ما يُقدمه للولايات المتحدة أكثر مما يمكن أن يُقدم غيره.

لكن لأن بايدن هو من يحكم لا ترامب، لذا لن يتم تجاهل الأمر بالكلية، بل يمكن أن يتبع التقرير بعض الملاحقات القضائية باعتبار أن خاشقجي مواطن أمريكي يحمل بطاقة الإقامة في الولايات المتحدة وما يأتي معها من شموله بالحماية القضائية الأمريكية.

ربما في سيناريو متطرف، أو بالأدق سيناريو تمضي الأمور فيه قياسًا على حادثة سابقة، ستصدر مذكرة اعتقال بحق ولي العهد، كما صدرت مذكرة سابقة في حق رئيس بنما الأسبق مانويل نورييجا، فجعلته المذكرة منبوذًا لا يسافر ولا يستقبله أحد، وظل محتجزًا في إحدى الولايات الأمريكية حتى انتهى به الأمر بقضاء 17 عامًا في السجن.

لكن يبدو ذلك السيناريو بعيد التحقق نظرًا لأن الشخص محل الدعوى هذه المرة هو ولي عهد دولة شديدة الثراء، ويمتلك نفوذًا قويًا بشخصه وبدولته، ولديه العديد مما تطمع به الولايات المتحدة. لذا قد تختار إدارة بايدن سيناريو أقل تطرفًا، يحفظ ماء الوجه ويحفظ نفط السعودية في الوقت ذاته، فمثلًا أوقفت صفقة أسلحة وقعتها إدارة ترامب مع السعودية، كما أعلنت إدارة بايدن أنها تعتبر العاهل السعودي هو المُحاور المباشر لبايدن، ولن تكتفي بولي العهد كما فعلت إدارة ترامب.

الكرة في ملعب ولي العهد

لذا مهما يكن حجم المكشوف أو المطموس في التقرير الاستخباراتي فلا يجب أن ننتظر منه أن يقلب الطاولة وأن يدفع الولايات المتحدة لقيادة انقلاب على ولي العهد، فالمصالح المشتركة شديدة التشابك سوف تضع العراقيل وتجبر بايدن على إعادة التفكير أكثر من مرة قبل محاولة تنفيذ القانون في حق ولي العهد.

بل سوف تستغل التقرير لتحقيق الفوز في العديد من الملفات التي تُعزز بها أمريكا وجودها في الشرق الأوسط، كما قد تستغله إدارة بايدن لإجبار المملكة على النظر في سجلها الحقوقي المليء بالاعتقالات، ويبدو أن ذلك ناجح، فقد غازلت السعودية بايدين بالإفراج عن ناشطات سعوديات معتقلات منذ شهور، على رأسهن لجين الهذلول.

ما يعني أن ولي العهد يدرك أن عهد ترامب قد ولى وأن عليه أن يُقدم لإدارة بايدن براهين جديدة على كونه يستطيع أن يكون الرجل الذي تريده إدارة بايدن. خصوصًا وقد لعب التقرير الاستخباراتي دوره ببراعة، فالتقرير لم يقدم دليلًا دامغًا يدين ولي العهد، فالمعلومات والأدلة تبدو غائبة بشكل ملحوظ، لكن حتى هذه اللحظة تستند إدانة ابن سلمان على التحليل والاستنتاج والقرائن، ما يعني أنه لم يزل هناك جولة جديدة تلعب فيها التكهنّات دورًا محوريًا، ويُعطي للإدارة الأمريكية حق توجيه الضربة القاضية متى أرادت إذا لم تجد من ولي العهد ما يسرّها.

فقد ألقت الولايات المتحدة الكرة الآن في ملعب ولي العهد، وعليه هو أن يقوم بالخطوة المقبلة، وخطوته هي التي ستحدد رد فعل الولايات المتحدة. ولأن المملكة لا تُفضل القيام بحروبها السياسية بشكل مُعلن، فمن المتوقع أن تستمر الجولة الجديدة لأسابيع في الغرف المغلقة وعبر عشرات الاتصالات الهاتفية.

أوراق اعتماد جديدة

الجانب السعودي لعب على نقطة التكهنّات كثيرًا، وبدأت حملة قوية للتشكيك في مصداقية التقرير. فنرى الصحف السعودية تتحدث عن أن التقرير لم يقدم دليلًا واحدًا مباشرًا وصلبًا يدين ولي العهد. كذلك تحدثت الصحف عن أن التقرير المكون من 4 صفحات، منهم صفحة العنوان وصفحة قصيرة للمصادر في النهاية، تتوسطه صفحتان مليئتان بكلمات مثل، نظن، ونعتقد، ونتوقع، ومن المحتمل.

فيبدو الجانب السعودي مدركًا لموقف القوة التي منحته له الولايات المتحدة، فتلّقف الكرة وفهم الرسالة وسيبدأ المفاوضات في تلك المفاوضات ستركز إدارة بايدن على إعادة التوازن في العلاقات بين البلدين، دون اللجوء إلى تحولات جذرية أو الدخول في أزمات معقدة. ومن الممكن أن يتسع الأمر من مجرد الضغط لحقوق الإنسان إلى الضغط على المملكة لرضوخ لتوجهات بايدن فيما يخص ملفات أكبر وأكثر عالميةً، مثل العلاقات مع إيران وتركيا.

فإدارة بايدن تتجه لإعادة الاتفاق النووي الإيراني، وربما يريد من السعودية تخفيف حدة مواجهتها العسكرية والسياسية مع إيران، كبندٍ يمكن أن يعد به بايدن إيران.

كما أنه من المستبعد للغاية أن تشمل المفاوضات محاكمة ولي العهد، فإنها بالتأكيد من المستبعد أن تشمل الحديث عن إزاحته من ولاية العهد ولو بتوفير مخرج آمن له. تتوافق معظم الصحف العالمية في تلك النقطة، وتتفق جميعها في أن ما سيتغير هو أدوات الضغط التي تستخدمها الولايات المتحدة وكيفية استخدام تلك الأدوات، لكن لن تتغير العلاقة بين البلدين ولن يتغير موقع ولي العهد في السلطة.

فبينما يؤثر التقرير على هيبة ولي العهد دوليًا، وسيؤثر على تعامل الدول الغربية معه، لكنّ الجميع يكره إيران أكثر، وإزاحة ابن سلمان تُقدم هدية مجانية لإيران، وهو ما لن يسمح به أحد. وغاية ما يمكن أن يحدث هو إعلام ولي العهد بنهاية تدليل جاريد كوشنر وترامب له، وأن عليه أن يُقدم أوراق اعتماد جديدة لإدارة بايدن لتُقرر بعدها أتقبله وليًا للعهد أم ترفضه.