لم تكن الحملات التي شنها الغرب الأوروبي على مصر والشام خلال القرنين السادس والسابع الهجريين – فيما عرف بالحروب الصليبية – مجرد حملات عسكرية، وإنما كانت فوق ذلك صدامًا حضاريًا شاملًا بين أمتين مختلفتين تمامًا في الدين واللغة والمدنية. وقد شغف مؤرخو المسلمين المعاصرون لهذه الحركة بتسجيل كثير من التفاصيل المتعلقة بهؤلاء الغزاة ومعتقداتهم وعاداتهم، وتتبعوها بدأب كبير. وفي هذا المقال نتتبع بعض ما دونوه عن المرأة الفرنجية/الصليبية، ودورها في هذه الحملات، والصورة التي انطبعت في أذهان المسلمين عنها.


فرنجيات في الإمارات الشامية

تعد مذكرات الأمير «أسامة بن منقذ الكناني» (584 هـ) التي سماها «الاعتبار»، وثيقة هامة، تمثل رؤية إسلامية معاصرة للمجتمع الفرنجي في الشام، وفي ثنايا هذه المذكرات يعرض ابن منقذ من خلال مشاهداته وتجاربه لعدة ملاحظات متعلقة بالمرأة الفرنجية وخصائصها ومكانتها في المجتمع الفرنجي، منها:

1. عدم الغيرة على النساء

ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته، يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طولت عليه خلّاها مع المتحدث ومضى!

يذكر ابن منقذ من مشاهداته في نابلس أن فرنجيًا وجد رجلًا مع امرأته على فراشها، فكان بالغ تهديده أن قال: «وحق ديني إن عدت، فعلت كذا؛ تخاصمت أنا وأنت!» ويعقب ابن منقذ متهكمًا: «فكان هذا نكيره ومبلغ غيرته!»، كما يذكر الأمير صورًا أخرى من اختلاط النساء مع الرجال في الحمامات العامة، وكشف عوراتهن أمام الرجال.

2. اعتقادات الفرنج في النساء

تعجب ابن منقذ من نظرة المجتمع الفرنجي للنساء، فيذكر أن إحدى الفرنجيات أُصيبت بـ«النشاف» – نوع من البله – فكان تشخيص الطبيب الفرنجي: «هذه امرأة في رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها»؛ فحلقوه، وعادت تأكل من مأكلهم: الثوم والخردل، فزاد بها «النشاف»، فقال: «الشيطان قد دخل من رأسها»؛ فشق رأسها صليبًا، وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكّه بالملح! فماتت من وقتها.

3. جنس ملعون لا يألفون لغير جنسهم

في إحدى المعارك الصغيرة مع الفرنج، سبى المسلمون عدة من نسائهم، فصارت إحداهن لصاحب قلعة «جعبر» وولدت له ولدًا، هو من تولى الحكم عقب وفاة والده بعد ذلك بسنين. يقول ابن منقذ عن هذه الأم الفرنجية: «صارت هي الآمرة الناهية، وذات يوم واعدت قومًا، وتدلت من القلعة بحبل، ومضى بها أولئك إلى «سرّوج» وهي إذ ذاك للفرنج، فتزوجت بإسكاف وابنها صاحب قلعة جعبر!»[1]

لم يكن ابن منقذ وحده من سجّل الاختلافات بين المرأة المسلمة ونظيرتها الفرنجية، فـ«ابن الأثير» يشير في كتابه «الكامل في التاريخ» إلى الاختلاف في رسوم وشرائط الزواج، فيذكر عن «الكندهري» أحد كبراء الفرنج أنه: «تزوج بالملكة ودخل بها وهي حامل، وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح».


ملكات وأميرات

أولى مؤرخو المسلمين اهتمامًا خاصًا بأميرات المجتمع الفرنجي، لا سيما وقد أتاح لهن قانون الإقطاع الأوروبي الوصول إلى مواقع سياسية ذات نفوذ كبير في الإمارات الفرنجية، ولعل أشهر هاته الأميرات هي الأميرة «سبيلا»، الوريث الشرعي لتاج مملكة بيت المقدس بعد وفاة ابنها «بلدوين الخامس» عام 582هـ، وحكم زوجها «جي دي لوزجنان» نيابة عنها، وأعقب انتقال التاج بهذا الشكل إلى اختلاف كلمة الفرنج في الشام. يقول ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»:

ثم إن هذه الملكة هويت رجلًا من الفرنج، الذين قدموا الشام من الغرب اسمه (كي)، فتزوجته ونقلت الُملك إليه، وجعلت التاج على رأسه، وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والإسبتارية والداوية والبارونية، وأعلمتهم أنها قد ردت الملك إليه، وأشهدتهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له». ويعقب ابن الأثير على نتائج هذا الإجراء: «فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم، واستنقاذ بيت المقدس منهم.

وقد أطلق «صلاح الدين» سراح هذه الملكة بعد فتح بيت المقدس. فيقول ابن الأثير:

وأطلق ملكة القدس التي كان زوجها أسره صلاح الدين، ونيابة عنها كان يقوم بالملك، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المصير إلى زوجها، وكان حينئذ محبوسًا بقلعة نابلس، فأذن لها، فأتته وأقامت عنده. [الكامل 10/ 36]

لم تكن الملكة «سبيلا» وحدها هي من أطلق صلاح الدين سراحها، فـ«العماد الكاتب» يتحدث عن «الإبرنساسة أم هنفري»، ابنة «فيليب» وزوجة «الإبرنس» الذي سُفك دمه في حطين، وهي صاحبة قلعتي الكرك والشوبك، ويتحدث أيضًا عن ملكة رومية متعبدة مترهبة.. عاذت بالسلطان فأعاذها، ومنّ عليها وعلى كل من معها بالإفراج، وأذِن في إخراج كل ما لها في الأكياس والأخراج، وأبقى على مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها، وكرائم خزائنها، فخرجت بجميع مالها وحالها، ونسائها ورجالها، وأسفاطها وأعدالها، والصناديق بأقفالها.

نالت كذلك «سبيل»، خليلة «بوهيموند الثالث» أمير أنطاكية، اهتمامًا خاصًا في المدونات الإسلامية، وذلك لميلها لجانب المسلمين، واتصالها بصلاح الدين الأيوبي. فينقل «أبو شامة المقدسي» في كتابه «الروضتين» عن العماد الكاتب:

وكانت امرأة إبرنس أنطاكية تُعرف بـ دام سبيل
في موالاة السلطان، عينًا له على العدو، تهادنه وتناصحه، وتطلعه على أسرارهم، والسلطان يكرمها لذلك، ويهدي لها أنفس الهدايا.

وقد نفعها ذلك عند صلاح الدين، فعندما وقعت أختها وزوجها وأولادهم في أَسر المسلمين:

تتبعهم السلطان، وخلصهم من الأسر، وأنعم عليهم، وجهزهم، وسيرهم إلى أنطاكية، ﻷجل امرأة الإبرنس، فشكرته على ذلك، ودامت مودتها ونفعها للمسلمين.

في ساحة المعركة

إذا كان أسامة بن منقذ قد رأى الفرنج «بهائم فيهم فضيلة الشجاعة» كما ذكر في مذكراته، فقد أبدى المسلمون إعجابًا بشجاعة نساء الفرنج ومشاركتهن في ساحات المعارك. وقد اتسع نطاق مشاركة النساء في ساحات القتال، لا سيما بعد فتح بيت المقدس، كما يقول ابن الأثير: «فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا وحشدوا حتى النساء، فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزن الأقران».

أخذت مشاركة النساء في القتال صورًا متنوعة، فمنهن من قامت بدورها في استنفار الغرب الأوروبي، يقول ابن الأثير: «وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأُخذت بنواحي الإسكندرية».

بعضهن أبحن شرفهن للعُزاب من جند الفرنجة ترفيهًا عنهم! يقول العماد الكاتب:

ووصلت في مركب ثلاث مئة امرأة فرنجية مستحسنة، اجتمعن من الجزائر، وانتدبن للجرائر، واغتربن لإسعاف الغرباء، وقصدن بخروجهن تسبيل أنفسهن للأشقياء، وأنهن لا يمتنعن من العُزبان، ورأين أنهن لا يتقربن بأفضل من هذا القربان، وما عند الفرنج على العزباء إذا أمكنت منها العزب حرج، وما أزكاها عند القسوس إذا كان للعزبان المضيقين من فَرْجها فَرَج.

ومنهن من شاركن في الدفاع عن القلاع والحصون، يقول ابن الأثير وهو ممن شارك في حصار حصن «برزية» عام 584 هـ: «ورأيت أنا من رأس جبل عالٍ يُشرف على القلعة، لكن لا يصل منه شيء إليه، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطَّلَت منجنيق المسلمين».

منهن من شارك في القتال على ظهور الخيل، يقول العماد:

وقد سقط من هاته النسوة الفوارس قتيلات في ساحات المعارك، ففي واحدة من معارك عكا، حاول القاضي «ابن شداد» إحصاء قتلى الفرنج، يقول في كتابه «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»: «واجتهدت أن أعدهم فما قدرت على ذلك لكثرتهم وتفوقهم، وشاهدت منهم امرأتين مقتولتين، وحكى من شاهد منهم أربع نسوة يقاتلن، وأُسر منهن اثنتان».

أما العجائز اللاتي لا يقدرن عن القتال فقمن بالتحريض ورفع الروح المعنوية، يقول العماد: «وأما العجائز فقد امتلأت بهن المراكز، وهن يشددن تارة ويرخين، ويحرضن وينخين، ويقلن: إن الصليب لا يرضى بالإباء، وإنه لا بقاء إلا بالفناء، وإن قبر معبودهم تحت استيلاء الأعداء».


فرنجيات في المجتمعات الإسلامية

وفي الفرنج نساء فوارس، لهن دروع وقوانس، وكن في زي الرجال، ويبرزن في حومة القتال، ويعملن عمل أرباب الحجا، وهن ربات الحجال، لهن بالفرسان أسوة، وفيهن مع لينهن قسوة، وليس لهن سوى السوابغ كسوة.

بعد الانتصارات المتتالية لصلاح الدين وخلفائه، انتشر سبي الفرنج بين المسلمين، ودخلت المرأة الفرنجية المجتمعات الإسلامية من باب الرِقّ. يقول ابن الأثير:

ورأيت بحلب امرأة فرنجية قد جاءت مع سيدها إلى باب، فطرقه سيدها، فخرج صاحب البيت فكلمهما، ثم أخرج امرأة فرنجية، فحين رأتها الأخرى صاحتا واعتنقتا، وهما تصرخان وتبكيان، وسقطتا إلى الأرض، ثم قعدتا تتحدثان، وإذا هما أختان، وكان لهما عدة من الأهل ليس لهما علم بأحد منهم.

مع انتصارات المماليك الكبرى على إمارات الفرنج في الشام؛ دخل سبي الفرنجة بأعداد كبيرة إلى مصر، لدرجة أن بعضهن عمل بالدعارة، فأصدر «الظاهر بيبرس» في عام 661 هـ أمرًا بتطهير الثغر – الإسكندرية – من الخواطي الفرنجيات. ويقول «المقريزي» في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»:

وبلغ من كثرة رقيق الفرنج أن غنائم فتح أنطاكية من كثرتها، قسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله غلام، وتقاسم النساء والبنات والأطفال، وأبيع الصغير باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.