الحروب الصليبية: لما غلب الشعر سيوف الخليفة

وأكلت النسور الجثث

في مشهد أزلي يربط بين حاضر أليم وماض يشبهه، كان «الحروب الصليبية» هو النص الشعري النثري الذي ربط به الشاعر تميم البرغوثي بين الزمنين في ألمهما وتكرر حوادثهما بنفس الشكل المؤسي، وكانت البداية هذه المرة بعدما دخل الصليبيون أو الإفرنج كما كان يطلق عليهم أهل القدس، فاستباحوا أهلها وسفكوا فيها الدم أنهارًا وقُتل أهلها جميعًا إلا اليسير منهم، وهم من هربوا إلى دمشق ومعهم مصحف الخليفة عثمان بعدما بلغ الدم في المدينة الركب.

بهذا يستفتح تميم قوله بأن الجثث قد أكلتها النسور، ثم راحت تلقي بخواتم أصحابها على مدن الإسلام الكبرى علها تكون تنبيهًا لتلك الأمة الغافلة:

ولا من مجيب!

وبرغم تلك الحوادث وتحرك الفقيه زين الدين الهروي من دمشق قاصدًا رأس الأمر في بغداد الخليفة العباسي أحمد المستظهر بالله، فإن الحجب التي تحجب الخليفة عن رعيته كثيفة لم يستطع الفقيه أن يبلغها، ولا أن يصعد سلمها العالي إلا عندما أفطر في رمضان على رءوس الأشهاد ليذكر الناس بأن إسقاط تكليف الصيام أهون عند الله من إسقاط تكليف الجهاد علهم يفيقون أو يستجيبون، ولكن كما أخبر تميم:

الشاعر الأعمى

هنا يظهر تميم تلك الشخصية الخيالية التي تربط العصرين، وتسرد ألم الزمنين، وهي شخصية الشاعر الضرير الحلبي جمال الدين الحسن بن الحسن، الذي كان موجودًا وقت حوصرت أنطاكية قبل أن تقتحم من الإفرنج، وهو الذي أول ما رأى الخليفة الباكي في موكبه تهكم عليه بشعره القوي الذي ربما كان أقوى من كل مهابة الموكب:

وبرغم الحرس والحجاب فإن الخليفة في ذلك الموقف أظهر السماحة كي يراها الناس ولم يرد عليه، ولكن تطورت الحوادث بين الخليفة والشاعر، فيظهر أن الشاعر كان يدعي العمى بعد الذي رآه من اختلاف الأمراء عند أسوار أنطاكية، ومن افتخار بعضهم على بعض، حتى تحول نصرهم إلى هزيمة واجتاح الفرنجة أنطاكية وباقي الشام:

العجب ليس من الزمن ولكن من أهله

على ذلك يمضي تميم مستعرضًا الزمن وتغير الحال ومشابهة اليوم بالأمس. فهو على لسان الشاعر الحلبي يكمل في شرح منهجه في اعتزال ذلك العصر الذي انعكست فيه الآية فصارت تلك الأمة لا تغضب لحرمتها، فهي غضبت لحرمة الصيام ولم تغضب لدمائها ولا مقدساتها ولا وحدتها، بل إن أقصى ما فعله خليفتها المغلوب على أمره هو أن أظهر البكاء، ويكأن حالهم واحد، حاكم ومحكومين.

ويتساءل أبو الحسن الحلبي عن أولئك الناس المتعجبين من إظهاره أنه أعمى فهو في نظرهم كمن جعل الآل – وهو السراب – كما الماء الواضح الرائق، فيرد عليهم متهكمًا:

هنا يذكر الشاعر أنطاكية التي حوصر في قلعتها مع قائدها الشجاع شمس الدين ياغيسيان، والذي أرسل كل استغاثته لجميع الأمراء في الموصل وحلب ودمشق وإلى بغداد نفسها وإلى السلطان السلجوقي حاكم الخلافة الفعلي، وبرغم الشجاعة التي أبدتها الحامية في صد جموع الصليبيين فإنه لم يأت ينجدها أحد طوال ثلاثة أشهر كاملة عاشت خلالها الحامية جحيم الحصار والجوع والعطش:

ولا من مجيب!

وبرغم التجلد على القتال لم يأت المدد، وبرغم قرب المسافة بين أنطاكية ومن ينجدها وانقطاع الأرض بين الإفرنج وبلادهم، وها هي أخيرًا تأتي جيوش الخليفة وسلطانه السلجوقي لتنجد أنطاكية على رأسها كربوقا أتابك الموصل الذي حشد الجيوش ليهاجم العدو الغازي.

وكما جاءت النجدة ذهبت أدراج الرياح، فقد اختلف الأمراء وتحول نصرهم إلى هزيمة ساحقة وسقطت على أثرها أنطاكية مفتاح الشام أمام الغزاة، وفتح الطريق لغزو الشام ومدنه كحبات عقد منثور:

أين الخليفة؟

ويستمر تميم على لسان الشاعر الحسن الحلبي في لوم وتقريع ذلك الخليفة الغافل، وفي شخصه كل تلك الأمة النائمة التي سمحت لعدوها بانتهاك حرمها، فهو يسرد لهم الأحداث التي رآها في الشام بعدما خرج من أنطاكية، ودخول الصليبين المرعب لتلك المدن واستباحتهم لحرمتها، بل لقد استباحوا حرم الإنسانية نفسها بأكلهم الأطفال أحياء:

وإن خليفة تلك الأمة المفتخر دائمًا بنسبته إلى الرسول غافل، فلا عجب من غفلة السلطان وغفلة الأتابكة. فها هو فخر الملك رضوان بن تتش حاكم حلب لم يتعرض للصليبيين ولو بخنجر، وفوق كل ذلك رفع الصليب فوق مسجدها الجامع الكبير لكي يظهر لهم كامل الولاء والخضوع فيبتعدوا عن مدينته ويبقى هو بذلك على كرسي الحكم الأثير.

أما دمشق واسطة عقد الشام وعاصمتها فلم يتعب حاكمها شمس الملوك دقاق بن تتش نفسه في مجرد رفع سيف على الغزاة بل اكتفى بابتعادهم عنه صوب بيت المقدس. فيا ليت شعري كأن داء الخليفة والسلطان من داء الأتابكة والحكام، وكأن ألقاب الملك الفخمة ما هي إلا وسيلة لملء الفراغ التي تركته عزيمتهم وغيرتهم، ولم تنجح خيانتهم ولا طغيانهم في أن يحلوا محله:

دخول الحملة الصليبية الأولى للقدس

أين موطن الداء؟

عند هذا أوقف الشاعر الحلبي إنشاده بالشعر، فهو لم يتحمل ذكر كل ذلك أمام هذا الخليفة الغافل وتلك الأمة النائمة فالخلل فيهم، والعلة في الناس لا الزمان الذين انقلبت عندهم الموازيين فصاروا لا يعرفون حقًا، ولا ينكرون باطلًا، فالخلاف عندهم في القشور، أما الأصول فبعيدة بعد الشمس في السماء، وهم يوم دخول الإفرنج إلى القدس كانوا في خلاف على أهمية دعاء القنوت في الفجر وهو ما سفكوا فيه دم بعض، فكأنما طُبع على قلوبهم بالغفلة فلا يذكرون ولا يفهمون.

هنا صمت تميم عن الكلام، وأوصل رسالته التي فيها ما أشبه الليلة بالبارحة، ولكن هل تحتاج السماء حقا في زمننا إلى النسور كي تمطر بأسماء المسلمين؟