فجأة وبدون مقدمات، يجد القارئ نفسه محتجزًا في مكان مغلق بلا أبواب ولا نوافذ ولا فتحات تهوية، لكن الهواء يتجدد بطريقة ما.

غرفة واسعة نظيفة، خزائن، ثلاجة، تليفزيون، ساعة رقمية، مشغل أقراص، لوحات على الجدران، بعض التماثيل الصغيرة، إضاءة مريحة، حمام نظيف، تليفون معطل، أما المرايا فلا وجود لها على الإطلاق. كميات وفيرة من الطعام، وزجاجات نبيذ، والمزيد من السجائر والكتب، واللافت أن كل ما يستهلكونه يعود إلى مكانه.

لقد تراجعت فكرة الموت جوعًا، كما تراجعت قبلها فكرة الموت اختناقًا، ولم يجدوا طائلًا من البحث عن تفسيرات لأشياء لا تقبل التفسير، فتقبلوا الواقع كما هو على مرارته كلعبة ليس أمامهم إلا أن يلعبوها. لم تخلُ حياتهم من بعض المفاجآت المبهجة.

حدث مرة أن استيقظنا فوجدنا مساحة الغرفة قد اتسعت، تضاعفت المساحة أكثر من عشر مرات وكان في الوسط حوض للسباحة.. سميناه يوم المسبح وصرنا نؤرخ به: حدث كذا قبل يوم المسبح وكذا بعده وهكذا.

هم أربعة رجال يتكور كل منهم داخل قوقعته. ولكأن النص يذكّر القارئ بكافكا وتحديدًا المسخ، حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح وجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة، ولكن غريغور سامسا كان مندوبًا تجاريًا متجولًا ذاكرته تعمل كأي إنسان آخر وقد انتهى به المطاف مكنوسًا بمكنسة الخادمة.

يذكر إبراهيم محمود في كتابه «الاغتراب الكافكاوي»:

إن المرء هو مغترب كيف كان اختياره. فالخضوع للقوانين غير الأخلاقية يعني طلاق كل ما هو إنساني فيه، وعدم الخضوع يعني الفناء، وهذا ما حدث مع غريغور سامسا. كيف صار مسخًا؟ لأنه حاول الخروج عن القانون الذي يقتل فيه إنسانيته في مجتمع مرعب.

ويعاني غريغور من الاغتراب على مستويات عدة؛ اغتراب عن العمل والأسرة والمجتمع والجسد وحتى عن نفسه. ولكن الأمر هنا في «زجاج مطحون» مختلف تمامًا. أربعة من الرجال المتحولين عديمي الحيلة في ذلك المكان الغامض الذي تتوافر فيه جميع وسائل الحياة والرفاهية وسرعان ما يكتشف القارئ أن الأربعة ليسوا إلا شخصًا واحدًا إنما في مراحله العمرية المختلفة؛ إنهم إسلام أبو شكير ذاته، يتحول أرقامًا، عشريني وثلاثيني وأربعيني وخمسيني. الزمن ينمو قليلًا فيصبح العشريني ثلاثينيًا والثلاثيني أربعينيًا وهكذا. لكن سرعان ما يبدأ الزمن بالتناقص أو التآكل، فيموت العشريني أولًا الذي أصبح ثلاثينيًا فالمراحل العمرية تنقرض تباعًا. إسلام أبو شكير الخمسيني هو الراوي وهو الوحيد الذي ظل ينتظر موتًا لم يصله.

لن أدخل في مغالطة إطلاق الأحكام والمسميات، وهل نحن أمام نص روائي أم هي قصة قصيرة أو نوفيلا؟ فالنص متكامل الأركان والبنيان، يصنفه البعض كنص عبثي أو تجريبي، وقد يقول آخرون إنها رواية الفانتازيا الواقعية، أما أنا فلا أميل إلى التصنيف فالنص أدبي بامتياز يعبر عن حالة تمسني شخصيًا ولكأنني أنا هو إسلام أبو شكير المُحتجَز، أعاني الاغتراب ذاته في ظل حرب طاحنة، حيث لا أفق ولا نور في نهاية النفق.

الحرب في النص وفي الواقع لا نعيشها حقيقة، ولكن انعكاساتها هي التي تصلنا، لم يعد يعنينا شيء من الماضي ولا مستقبل لنا.

كان واضحًا أنها حرب شرسة ومكلفة، معركة حياة أو موت.. أجواء الحرب تفرض نفسها علينا.

شدني العنوان، «زجاج مطحون»، وحرك ذاكرتي فيا للزجاج المطحون! إنه يعود بي إلى «معرج الموت» للكاتب ممدوح عزام، عندما أرادت العمات التخلص من سلمى التي تمردت على الواقع المقيت، وسمحت لنفسها أن تحب وتعشق وتنطلق في تحقيق حلمها، ليعيدها الواقع حبيسة في زريبة الحصان، تتجرع الزجاج المطحون الذي تعدّه عمات يفلين شعرهن من القمل كالقردات، بينما يمزجن الزجاج المطحون بالعجين ويصنعن منه خبزًا ويقدمن وجبة الموت لسلمى التي سرعان ما راحت تبصق دمًا. أما إسلام أبو شكير..

يستيقظ كل صباح ليجد رمادًا شفافًا على المخدة أشبه بزجاج مطحون.. دموع تبخرت، وتركت ملحها فقط.

«زجاج مطحون» نبكيه دموعًا في نص إسلام ونتجرع الموت ونتذكر أصدقاء التهمت الأيام أعمارهم ولم يتركوا ما يدل عليهم حتى قصيدة الثلاثيني -التي كان من الممكن أن تصبح نشيدنا الوطني- اختفت كذلك قبل أن نصوب أخطاءها.

لا يمكن للكتابة أن تكون هدفًا بذاتها لأنها وسيلة من وسائل التعبير، وقد نجح إسلام أبو شكير الكاتب في إمساك ناصية اللغة، مستخدمًا الجمل القصيرة والاختزال والتكثيف، متعمدًا التشكيك بالأحداث، لا رغبة منه بفهم ما يجري لأن ذلك غير ممكن، بل الإذعان لما يجري والتكيف معه والبقاء على قيد الحياة.

قد تمر أيام من الصمت، دون أن يفعلوا شيئًا، لكنهم سيقولون بعد ذلك. سيسألون: أين هو؟ لم لا يكتب لنا؟ ألا يحتاج شيئًا؟ وعندما يطول الصمت أكثر من ذلك، شهرًا.. شهرين.. سنة.. عشر سنوات، فلا شك أن أول ما سيخطر في أذهانهم أنني متّ. .سيقولون: هذا الرجل فارق الحياة. لكنهم لن يستعجلوا، سيشاورون بعضهم قليلًا ثم يقولون: لن نخسر شيئًا، هذا أفضل .. ننتظر ريثما نتأكد، ثم نرسل من يحمل جثته إلى الخارج.. وسينتظرون شهرًا، أو عشر سنوات أو أكثر.. وأنا بدوري سأنتظر، لدى جثتي الكثير من الوقت للانتظار.. وأعدهم أننا لن نتفسخ.. كلانا أنا وجثتي.

في «زجاج مطحون» أجد نفسي داخل نص مختلف يحتجزني، ولا أستطيع الخروج منه، فهل أراد الكاتب أن يصف لنا خطورة الحرب على المغتربين من خلال المغترب السوري تحديدًا؟ ربما. فالحرب والاغتراب معًا جرداه من إنسانيته وحولاه إلى مخلوق متقوقع لم يعد لديه أمل، حياته تتآكل بدل أن تنمو، وهو عديم الإرادة ليس أمامه سوى التأقلم.

ما أثار مخيلتي في النص، وفي فصل الحرب تحديدًا، تلك الذبذبات السرية التي دربوا حواسهم على استقبالها، والتخاطب من خلالها، كانت لغة تخاطر عبقرية،أكثر منها لغة إشارات، وفي الحالات النادرة التي لا يجدون فيها ما يلبي حاجاتهم في معجم تخاطرهم فقد كانوا يلجأون للكتابة.

نجاح باهر لإسلام أبو شكير يسجل له هنا. فالكتابة في النص هي الفعل الحقيقي للتواصل أو التغيير. لقد اكتشف العشريني ذلك عندما أصبح ثلاثينيًا.

منذ ذلك الوقت ونحن نكتب لهم كلما احتجنا شيئًا وكانوا يلبون طلباتنا، ليست الطلبات جميعها بل معظمها..

لا بد لي ختامًا أن أوجه تحية شكر للكاتب إسلام أبو شكير بصفته أحد الذين يكتبون عن اللحظة الراهنة، والمحصلة هي زاد الغد، ثمة أطفال سيكبرون وسيبحثون في خبايا هذه الحرب المجنونة، سيمزقون كتب التاريخ المخادعة التي يتم تزويرها أمام أعيننا، وسيبحرون في عوالم الأدب ومن خلاله سيصلون إلى معرفة ما جرى ويجري، وعند ذلك تبدأ الحياة، حياة لا تحتجز البشر في قواقع داخل جدران مغلقة، تتآكل أعمارهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.