عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، بدأ العالم يستشعر انقسام القوى العالمية المهيمنة إلى قطبين تمثّلا في الولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت إلى مظلة تمثل التوجه الغربي الرأسمالي المنفتح على الحريات؛ وعلى الجانب الآخر من العالم كان الاتحاد السوفيتي بعقيدة فكرية يسارية شيوعية تحمل أمل «المساواة والتقدمية» للدول المستضعفة التي عانت آثار الاستعمار الأبيض سابقاً، وفي ظل هذا الاستقطاب العالمي لم يكن هناك بديل عن منافسة بطيئة، شرسة، غير علنية شهدت حروباً باردة على أصعدة عسكرية واستخباراتية واقتصادية، والأهم من ذلك: صعيد التكنولوجيا.

كان التفوق التكنولوجي الألماني النازي –بخاصة على الصعيد العسكري والصناعي- في الحرب العالمية الثانية درساً لا يُنسى لقوى العالم، فأدركت كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي أن السباق في مضمار التفوق التكنولوجي هو ما سيكون الضامن الأقوى للتفوق العالمي والهيمنة المنشودة؛ فبدأت أولى المنافسات بين القوتين العظميين آنذاك في ما يعرف باسم سباق ريادة الفضاء الذي افتتحه الاتحاد السوفيتي بالخطوة المدوية بإطلاق أول الأقمار الصناعية «سبوتنيك»  أواخر عام 1957 خارج المجال الجوى الأرضي؛ وكانت خطوة أشعلت روحاً تنافسية غير مسبوقة بداخل الأمريكان للقفز إلى الخطوة التالية؛ إلى أن جاءت الخطوة الأمريكية التي أكدت التفوق الأمريكي بعد 12 عاماً وتحديداً عام 1969 عندما وضع الأمريكان أول بَشري على سطح القمر.

الدولار على عرش الرأسمالية العالمية

بنظرة على بدايات القرن العشرين، وتحديداً مع اشتعال جذوة الحرب العالمية الأولى بين أباطرة الاستعمار في العالم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا وإلى جوارهم اليابان؛ في مواجهة ألمانيا والاتحاد النمساوي المجري وإلى جوارهما الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط، وكانت للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وليدة آنذاك موقفاً محايداً رافضاً للانضمام للحرب العظمى المشتعلة على الساحة الأوروبية.

ومع تطورات الحرب الطاحنة، اضطرت بريطانيا وفرنسا للتخطيط لجرّ الأمريكان إلى الحرب كقوة عسكرية قد تقلب دفة الصراع لصالحهم؛ وفي الوقت نفسه الاستفادة من الهيمنة الصاعدة للدولار الأمريكي كعملة مغطاة باحتياطي ذهبي قوي، وبالفعل خطت أمريكا إلى المعركة بعد أن حسبت مكاسبها الكبرى من وراء هذه الحرب؛ التي تمثلت في تنشيط العملة الأمريكية كعملة قوية في تلك الأوقات، بل كان الدولار وقتها هو العملة الوحيدة تقريباً التي نشط عليها الإقبال لتبادل المواد الخام اللازمة للصناعات الأساسية والعسكرية التي تدفقت على أوروبا.

وكما توقعت الأقطاب الغربية الأوروبية؛ قلب التدخل الأمريكي دفة الحرب لصالحهم، ولكن كانت فاتورة الحرب باهظة بدرجة كبيرة؛ جعلت دولاً كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا واليابان مدينة لأمريكا بأرقام مخيفة، وهي الديون التي حاولت أوروبا الضغط على أمريكا من أجل إسقاطها؛ ولكن عندما رضخت أمريكا لرغبة أصدقائها الغربيين؛ شهدت فترة من الكساد الكبير الذي كان الدافع وراء انعزال أمريكا عن الصراعات الأوروبية– بخاصة مع اشتعال الأوضاع مرة أخرى في أوروبا منذرة بحرب عالمية ثانية- والاهتمام بتدعيم الدولار وتغطيته باحتياطي الذهب مرة أخرى.

وكما ذكرنا في مقال سابق، تحولت اتفاقية بريتون وودز عام 1944 إلى نقطة فاصلة في ارتفاع الطلب على الدولار الأمريكي، واعتماده كعملة تبادل تجاري رئيسي بين دول العالم؛ وهنا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تشق طريقها نحو السيطرة الاقتصادية التدريجية العالمية؛ بينما على الصعيد الداخلي شهد العالم أجمع ميلاد نظام جديد تحت مظلة الرأسمالية.. نظام غير أشكال الحياة الاقتصادية تحت مظلة النظام الرأسمالي في أمريكا، والآن العالم أجمع.

الأنظمة المركزية: أطواق تلتف حول الأعناق

في أعقاب النشاط الاقتصادي والصناعي الكبير الذي شهدته أمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الرأسمالية تتخذ أشكالاً عديدة في حياة الأمريكيين الذين اعتبروا أنفسهم يعيشون في مظلة أفضل نظام اقتصادي في العالم، وبدأت المؤسسات المالية الأمريكية تشهد انتعاشة كبيرة في قطاعي الصناعة والزراعة.

وبدأت المؤسسات المالية والمصارف الأمريكية في التفكير في حلول مبتكرة للحصول على مزيد من الأرباح والاستحواذ على مزيد من النقود السائلة لتقليل التضخم من جانب؛ ومن جانب آخر رفع نسب الأرباح من نشاط القطاع المصرفي، فبدأت عمليات الإقراض تتسع للأشخاص والشركات، وهنا كان على المؤسسات المالية الأمريكية ابتكار نظم جديدة لتيسير العمليات المصرفية؛ فولد ما يعرف بنظام التسجيل الائتماني Credit Score System الذي بموجبه تحدد البنوك إذا ما كانت ستتيح لعملائها عمليات الاستدانة أو الإقراض بناء على التزاماتهم تجاه تسديد الدين بفوائده.

وتحول هذا النظام الذي ابتكره المهندس والرياضياتي بيل فير و إيرل إيزاك إلى النظام المالي الأول والمعتمد من قبل أغلب البنوك والمؤسسات المالية، وبهذا ضمن القطاع المصرفي الأمريكي عبودية المواطن الأمريكي الذي سيكون مضطراً لتسديد دينه بفوائده، والتخلي عن أي أرباح مقابل الحصول على قروض وعمليات شراء ائتمانية جديدة تغلق عليه دائرة التبعية الكاملة للقطاعات المصرفية؛ وإلا سيسجل نقاطاً ائتمانية ضعيفة تخرجه من دوائر الدعم المالي تماماً.

وبعد أن انتشرت بطاقات الشراء بالدين (بطاقات الائتمان) وتسهيل الحصول عليها بكل سهولة، تكشّف ببطء الوجه القبيح للرأسمالية التي جعلت كل ما يحتاجه المرء رهن بطاقة بلاستيكية بريئة في مظهرها، تتحول أوقات السداد إلى وحش آلي بارد لا يرحم ولا يعرف الشفقة في حال تعثر الأشخاص في السداد؛ ولم يلبث نظام التسجيل الائتماني داخل أمريكا وحدها كثيراً، فانتشر النظام المصرفي الرأسمالي في أبرز دول العالم مثل ألمانيا وكندا وأستراليا وإسبانيا واليابان وغيرها.

وتحولت الكتلة الأكبر من البشر على ظهر الكوكب إلى مجموعة من المدينين، تدور حياتهم ما بين وظائفهم بمختلف درجاتها، وتسديد ديون أموال لم تلمسها أيديهم، وبهذا ضمنت الرأسمالية أطواقاً عبودية جديدة حول أعناق البشر طالما هناك اعتمادية على الاستدانة، والالتزام بفوائد الديون خوفاً من الطرد من «جنة الإقراض» التي تبقيهم في حياة شبه مستقرة، أو بالكاد فوق خط الفقر أحياناً. ولكن في مطلع عام 2008، وتزامناً مع ذروة انهيارات أسواق المال وفي دوائر محدودة للغاية من قطاعات التكنولوجيا والمال..ظهر اسم «بيتكوين»، الذي لم يلتفت العالم له آنذاك، ولكنه كان يحمل معه ميلاداً لشبح جديد سوف يستوطن خزانة الأنظمة الرأسمالية والمركزية إلى اليوم.

هل تهدد العملات المشفرة الأنظمة المالية المركزية فعلاً؟

من دون خوض في تعقيدات تقنية حول ماهية العملة المشفرة، هي ببساطة عبارة عن قيمة رقمية تتكون من حفنة من البيانات المشفرة التي لا يمكن خرقها أو تغييرها أو تعديل صيغتها تحت أي ظروف، نظراً لاعتمادها على تقنية تسمى سلسلة الكتل Block Chain والتي تشبه دفتراً محمياً ومحصناً لتسجيل عمليات انتقال البيانات من طرف إلى آخر، ولا يعتمد في بادل بياناته إلا على طرفي العملية التبادلية فقط.

هذا الوصف شديد الاختزال لعمليات تداول العملات المشفرة جعل من عملية وجود قيمة مادية لأي شيء عملية مغلقة بين طرفين، غير خاضعة لوجود الطرف الأبرز في كل المعاملات المالية: المصارف، وتحديداً المركزية منها بصفتها السلطات الأساسية والرقابية التي تخضع لها كل المعاملات المالية في الدول.

فعندما ظهرت العملة المشفرة «بيتكوين» على يد الشخص المجهول الأكثر غموضاً إلى اليوم، «ساتوشي ناكاموتو»، لم تكن ذات أهمية تذكر، وكان يقتصر انتشارها على هواة التقنية وبعض المتخصصين في التداول الرقمي، ولكن مع ظهور الوسيط الأبرز بين «بيتكوين» والعملات الفعلية – الدولار أبرزها- وهي منصة «إيثريوم» التي أتاحت تداولها على نطاق أوسع، شهدت العملات المشفرة وعلى رأسها «بيتكوين» ارتفاعات فلكية في غضون 8 سنوات فقط، فبلغ ثمن «بيتكوين» من  754 دولاراً إلى 47.680 دولاراً عام 2022، وهو الارتفاع الذي لم تشهده أي من العملات التقليدية في التاريخ الحديث.

وبينما شغلت «بيتكوين» وأصدقاؤها من العملات المشفرة كل خبراء المال والاقتصاد في العالم، ارتفعت على جانب آخر التحليلات والأبحاث التي تحاول تحليل وتفنيد أثر هذا الدخيل الافتراضي على عوالم المال، ونادت عديد من المنصات وخبراء الاقتصاد بعدم تبني هذه العملة الافتراضية أو الاستثمار فيها نظراً لعدم وجود آلية تنظيمية حاكمة لها، وظهرت تحليلات أخرى تخبر بعدم وجود خطورة للعملات المشفرة على الأنظمة المالية الحالية التي يهيمن عليها الدولار وتحكمها العمليات المصرفية التقليدية، ودلل البعض على ذلك بتذبذب سوق العملة المشفرة وانهياراته المتتالية بين أعوام 2020 و2022، وبحسب مدونة موقع صندوق النقد الدولي حول الاستثمارات في قطاع العملات المشفرة مثل «بيتكوين» أنه:

هذه الخسائر أن العملات المُشَفَّرة تشهد بالفعل فترة خطرة، فقد خسرت تريليونات الدولارات بالقيمة السوقية. وقد أوضح تحليل جديد أجراه بنك التسويات الدولية في نوفمبر أن قيمة «بيتكوين»، وهي أكبر هذه العملات، انخفضت بنحو الثلثين من مستوى الذروة الذي بلغته في أواخر 2021، كما أن نحو ثلاثة أرباع المستثمرين قد خسروا أموالًا استثمروها فيها.

ولكن المثير للتأمل، أن عنوان التحليل ذاته من جانب صندوق النقد الدولي كان هو «عدوى العملات المُشَفَّرة تؤكد لماذا يجب على الأجهزة التنظيمية العالمية التحرك بسرعة لوقف مخاطرها»، وجاء فيه ما نصه:

لا تشكل الأصول المُشَفَّرة، بما فيها العملات الرقمية المستقرة، أي مخاطر على النظام المالي العالمي بعد، ولكن هناك بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تواجه آثارًا ملموسة بالفعل. فتوجد في بعض هذه البلدان حيازات كبيرة من الأصول المُشَفَّرة في قطاع التجزئة، فضلًا على استبدال العملة من خلال الأصول المُشَفَّرة، وفي مقدمتها العملات الرقمية المستقرة المقومة بالدولار. ويشهد بعضها تحولًا إلى العملات المُشَفَّرة – عند إحلال هذه الأصول محل العملة والأصول المحلية، والالتفاف على قيود الصرف وضوابط رأس المال.
ومن المحتمل أن يتسبب هذا الإحلال في خروج التدفقات الرأسمالية، وفقدان السيادة النقدية، وأن يفرض مخاطر على الاستقرار المالي، مما يخلق تحديات جديدة أمام صناع السياسات. ويتعين على السلطات أن تعالج الأسباب الجذرية وراء التحول إلى العملات المُشَفَّرة، من خلال رفع مستوى الثقة في سياساتها الاقتصادية المحلية وعملاتها وأجهزتها المصرفية. وتتعرض الاقتصادات المتقدمة كذلك لمخاطر على استقرارها المالي من العملات المُشَفَّرة، نظرًا لما أقدمت عليه المؤسسات الاستثمارية من زيادة حيازتها من العملات الرقمية المستقرة، حيث جذبتها معدلات العائد الأعلى في ظل بيئة كانت تتسم بانخفاض أسعار الفائدة. ومن ثم، فنحن نرى أنه من المهم أن تسرع السلطات التنظيمية بإدارة المخاطر الناجمة عن العملات المُشَفَّرة، دون خنق الابتكار.

وفي مطلع العالم الحالي 2023، كان قد صدر أول تحذير مشترك بين هيئات الرقابة الإدارية والمالية في الولايات المتحدة الذي وجهته للبنوك وقال البيان، إنه قد تميزت أحداث العام الماضي 2022 بتقلبات كبيرة وانكشاف نقاط الضعف في قطاع الأصول المشفرة بخاصة بعد انهيار منصة التداول FTX، الذي تسبب في صدمة كبيرة في قطاع العملات الرقمية المشفرة.

كما قالت الهيئات الرقابية الأمريكية، إن إصدار أو الاحتفاظ بالعملات المشفرة من المرجح أن يكون غير متوافق مع «الممارسات المصرفية الآمنة والسليمة» كما حثت الجهات الرقابية البنوك على اتخاذ خطوات لتجنب انتشار المشكلات في سوق الأصول الرقمية إلى النظام المالي الأوسع، وجاء في التحذير التشديد على أهمية ألا تنتقل المخاطر المتعلقة بقطاع الأصول المشفرة التي لا يمكن تخفيفها أو السيطرة عليها إلى النظام المصرفي التقليدي.

وأتت هذه التحذيرات في خضم التردد الأمريكي من التعامل أو إيجاد حلول تتوافق مع وجود هذا القطاع أو تقنينه، أو حتى ابتكار مُعادل «مركزي» له، وهو الأمر الذي قد يمكن أن نستشف منه قلقاً خفياً أمريكياً، جاء أيضاً متمثلاً في تقرير أصدره مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عام 2021، حذر من الصعود السريع للطلب على العملات وأن هذا الصعود قد يهدد استمرار هيمنة الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية، وقد تقلل العملات المشفرة  – مثل «بيتكوين» إضافة إلى العملات الرقمية المدعومة من الحكومات – الاعتماد على الدولار.

وحتى إذا تركنا كل هذه التحذيرات، ونظرنا إلى أحد أبرز الأبحاث المميزة التي تمحورت حول أبعاد وآثار العملة الرقمية في العالم اليوم، وهو البحث الذي نشرته كلية «ترينتي» بولاية «كونيتيكت» الأمريكية عام 2019 ، والذي يطرح التساؤل المتلخص في عنوانه «هل كان كارل ماركس ليدعم وجود بيتكوين؟»، وتناول تفنيد لظاهرة اللامركزية التي تتمتع بها العملات الرقمية في ظل عالم يوصف اليوم بأنه مُسيطر عليه من الرأسمالية التي حارتها الاشتراكية الماركسية، وجاء في تلخيص البحث المطول إجابة على التساؤل تفيد بأنه، وبشكل كبير كان كارل ماركس ليدعم «بيتكوين» نظراً لطبيعته اللامركزية، وبخاصة أن له طبيعة قد تؤمّن ديمقراطية واستقلالية مالية بعيداً عن التزعّم المؤسسي المالي اليوم.

وإذا ما تأملنا تطور العملة المشفرة في الأعوام العشرة الأخيرة قد نجد أن طبيعتها بالفعل متغايرة ومتواترة مثلها مثل أي نظام مالي تقليدي، لطالما كان هناك عرض وطلب، واستقطاب واستنفار حلوها، ولكن على جانب آخر وبنظرة أشمل، يمكن للعالم بالفعل أن يحسن استخدام العملة الرقمية إذا ما آمن كثير من مستخدميها بأهميتها الفلسفية أكثر من أهميتها الاستثمارية، فإذا تعامل معها الجميع بحذر وباعتمادية جزئية، فالعملات المشفرة لا تزال برغم كل شيء عالماً صغيراً ومحدوداً مقارنة بتاريخ طويل من المعاملات المالية الإنسانية.