مع تطور الفرد يتقدم المجتمع، وحين يتطور البشر في المجتمعات يرتقي الوعي الجمعي، ويصبح أكثر تماسكًا وتناغمًا، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشذيب المجتمع من الميول والسلوك السلبي. إذن هي حركة مجتمعية واعية متفاعلة مع ذاتها في الآخر، ومع الآخر في ذاتها، في حركة مستمرة لتراكم معرفي يحقق مزيدًا من الوعي. هذا المسار المتواصل ما هو إلا مساهمة الفرد في صياغة المفاهيم المجتمعية، ودفع ركب التطور والتقدم. فإن كانت إرادة الفرد تأخذه نحو سلسلة متداخلة من الأسئلة، فإن عدم الحصول على الإجابات التي يريدها قد تقف عائقًا أمام تطوره، رغم أن الإنسان كان عبر التاريخ قادرًا على إعادة صياغة القيمة الوسطية في أنماط تتناسب مع مستوى الوعي ودرجة الحرية المجتمعية.

السؤال الذي لا يغيب عن كتّابنا ونقادنا ومفكرينا: لماذا فشل مشروعنا الإصلاحي؟ ولماذا لا نستطيع تحقيق تقدم وتطور اقتصادي وحضاري؟ من كثر ترديد هذا السؤال بتنا نشك في عقولنا. إنه السؤال المقلق لجميع العرب، في ضوء الارتباط الجدلي العميق بين تطور الفرد وبين توفير مناخات ثقافية تسهم في تطوير الملكات الفردية. إذ كلما ارتقى الفرد ازدهر المجتمع، وكلما انتعشت الثقافة تحرر العقل الفردي وتنامى الوعي الجمعي، ويظل للأسئلة بريقها المعرفي الذي لا يخفت.


أسئلة حرجة

في الأوقات الحرجة نطرح الأسئلة المربكة. قد يتساءل أحدنا: هل يزندق الأدباء والمثقفون؟ الإجابة هي: نعم، إن بعضهم يفعلون.

فإن كان العوز ذريعة تدفع الفقير والمحتاج إلى أن يتحول لسانًا للحاكم وللسلطة السياسية أو الدينية، تراه ينفث في أذن الحاكم ما يريد سماعه، ويبرر تصرفات وأفعال ومواقف الحاكم ونظامه، فما هو دافع أولئك الذين يتبوأون مناصب، ويديرون تجارةً وأعمالًا، ويحملون شهادات جامعية عليا، ومثقفين معروفين، لأن يسلكوا درب النفاق والمكر إن لم تكن زندقة. فإن استثنينا بعض المثقفين الذين تستغلهم الأنظمة السياسية كأبواق لها يلمعون قبحها، فالنفاق والزندقة بين بقية المثقفين يكمنان في السعي نحو الحصول على منفعة، بسبب الحسد والغيرة أو بسبب الشعور بالنقص تجاه الآخر.

إن النفاق لا يشبه الكذب بل يعيش معه ويقتات منه، والزندقة لا تشبه النفاق بل تعيش معه وتتغذى منه بحبل سري.

إن النفاق بحد ذاته هو عرض مرضي وطفح جلدي لحالة من النقص متجذرة في الكينونة البشرية، يظهر ويختفي هذا العرض لارتباطه بمقدار الثقة والمستوى التعليمي والفكري والمعرفي والإبداعي، ولعدم قدرة مثقف على الوصول إلى مكانة أدبية أو علمية تمكن الآخرون من الوصول إليها. أحيانًا تجد النفاق والزندقة عند مثقفين كبار ومرموقين، لكن إحساس الـ«أنا» لديهم مرتفع بصورة مرضية تجعلهم لا يرغبون في أن يصل أحد غيرهم للمكانة ذاتها خشية من المنافسة، وهو سلوك يعبر عن حالة نقصان كامنة.

إن النفاق والكذب والزندقة مكونات محمولة طبيعية قائمة وخامدة في اللا وعي البشري، قد تظل في حالة من السبات، وقد تستيقظ في لحظة مثل تنين ينفث سموم المكر والتدليس والمداهنة، إنما شعر الإنسان أن لا درب آخر يسلكه للدفاع عن النقص الذي يستشعره، أو لتحقيق غاية ذاتية.


سيكولوجيا النفاق

إن شيوع النفاق والزندقة يرتبطان بالفلسفة السياسية التي يتبناها الحاكم وكيفية حكمه، ونوعية الأدوات التي يعتمدها نظام السلطة في إدارة شؤون البشر، والتحديات التي تواجهها السلطة السياسية. وفي الواقع العربي نجد ثلاثة نماذج من المثقفين؛ فئة المسالمين الذين ينظرون للسلطة على أنها مصدر أذية والابتعاد عنها أسلم، وفئة المعارضين الذين يقفون في وجه السلطة السياسية وينتقدون أداءها ويكشفون عيوب القصور، ويطالبون بحقوقهم وحقوق العباد. أما الفئة الثالثة فهم الزناديق المنافقون الذين يظهرون للسلطة عكس ما يكتمون، ويدلسون طمعًا في سلطة أو مال أو جاه، أو تجنبًا لأذية يتوقعون حدوثها من السلطة.

ومن المنافقين من يبالغ في التمجيد لدرجة تجعل من الزعيم الحاكم الديكتاتوري شخصية كاريزمية استثنائية، يجب على الناس طاعتها والقبول بها والتسليم بأقواله وأفعاله. ونجد أمثال هؤلاء الزنادقة في كل مكان على امتداد خارطة العالم العربي، ومفاصل الدول. تجدهم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، يكونون رؤساء تحرير صحف، ومديري تحرير فضائيات وإذاعات، وكتّاب مقالات.

كانت نتيجة انتشار سيكولوجيا النفاق في بعض الدول العربية ظهور مثقفين مدّاحين، ومعارضين، وأُجراء ثقافة، مما جعل معظمهم يسقطون في مصيدة الاغتراب عن ذواتهم وعن الثقافة وعن الوطن. فكانت مهمة المداحين تنميق وتحسين الوجه القبيح للسلطة، وتقديم تبريرات للناس بعبارات مفخمة عن التجاوزات والاعتداءات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين. وأُجراء الثقافة تتسم علاقتهم بالسلطة بالحيادية واللون الرمادي، فهي مصدر رزق ومعيشة للبعض، وحالة شائكة مربكة للبعض الآخر. أما المثقفون المعارضون إما تقوقعوا على ذواتهم لدرجة الانتحار الإبداعي، أو تركوا الأوطان وهاجروا إلى بلاد أخرى.


المثقفون زنادقة العصر

«الزندقة» حسب التعريف الوارد في موسوعة الأديان هي لفظ فارسي معرّب، وقد كانت تطلق في البداية على من يؤمن بالكتاب المقدس لدى الفرس «الزندافست»، ثم ما لبثت التسمية أن انتشرت منذ العصر العباسي الأول، وأطلقت على كل إنسان يتشكك في الدين، أو يجحد شيئًا مما ورد فيه، أو يتهاون في أداء عباداته أو يهزأ بها، أو يتجرأ على المعاصي والمنكرات ويعلن بها، أو يؤمن ببعض عقائد الكفر، ويسرف في العبث والمجون.

زنادقة هذا العصر يختلفون عن زنادقة العصور الإسلامية السالفة، فأولئك كانوا يكتمون الديانة المانوية ويظهرون الإسلام. أما زنادقة هذا العصر فإنهم يظهرون الإيمان بالديمقراطية والحريات الأساسية للبشر، وينادون بالحق في الاختلاف، لكنهم يكتمون ضيقًا من كل مخالف لأفكارهم، ويتحولون إلى أشد أعداء الحريات إن اقتربت من مصالحهم، ولديهم استعداد لوأد الديمقراطية إن تعارضت مع مفاهيمهم، يتشدقون بالدفاع عن حقوق الشعوب ومصالح الجماهير، لكن في حدود عدم تعارض هذه الشعارات مع مصالحهم الأنانية، لأنهم في لحظة واحدة ينقلبون ضد الجماهير وينحازون للطغاة.

لقد ورد في مؤلفات الصوفي أبي المواهب «عبد الوهّاب بن أحمد بن علي الأنصاري» الذي ولد العام 1491 ميلادي في مصر، والمشهور بــ«الشعراني»، تحذير شديد للمظلومين من الوقوع في إثم الدعاء على الحاكم الظالم، ويبرر الشعراني تحذيره بأن الظلم الذي قد يقع على أحد إنما هو في واقع الحال يصدر عنه نفسه، وأن الحاكم الظالم إنما هو مسلط من الله بحسب أعمال البشر، فالحاكم الظالم هنا ما هو إلا سوط يتم جلد الناس به، وإن الذنب ليس طبعًا ذنب السوط، إنما الذنب والجرم يقع على من سقط في الإثم والخطيئة ووقع في المعصية، وبالتالي استحق عقابًا من رب العباد. ومن مقولات الرجل الشهيرة- وقيل إنها مدسوسة عليه- أن العهود قد أخذت عليهم الدوران مع أهل زمانهم وينخدعون لهم، وأن نتلون لهم مثلما يتلونون لنا، وبذلك نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما يدورون.

بعض المثقفين العرب يبدعون في الزندقة والنفاق، ويبدون كأنهم تلاميذ مخلصون لقواعد الشعراني، فهم يظهرون النفاق للحكام ما بقي الحاكم في سلطانه، فإن تم عزله أو مات فلا تعظيم له.


ازدواجية مرضية

لو صادفت مثقفًا شحاذًا أو أحدًا متزلفًا وكذابًا من عامة الناس، فلن يثير هذا بك شيئًا، لأن أمثال هؤلاء موجودون في كل مكان وزمان. لكن أن ترى مثقفًا يستفيض في التنظير عن المبادئ والقيم والأخلاق، ويبهرك في حديثه حول الديمقراطية وجمالها، والحريات العامة وحسنها، ولا ينسى أن يذكرك بأهمية العقل والتفكير الحر الذي غايته هو الإنسان وتحسين ظروف حياته، ثم تتفاجأ أن تقرأ له في مطبوعة ما، من الكذب والنفاق والتدليس والخداع ما يجعل الأرض تحتك تمور، وتفكر في أن تقترح عليه أن يوقع أسفل ما كتبه باسم «عبد الله بن أبي بن سلول»!

كيف نتعلم الحرية من مثقف لم يعرفها يومًا، وعاش حياته عبدًا لمصالحه وتطلعاته؟ وكيف نستلهم التمسك بالقيم والمثل، والثبات على الحق، من إنسان متأرجح لم يعهد يومًا الثبات على موقف؟

في زمن الأراجيل انتشر النفاق والتدليس والمكر والزندقة بين الناس، والأخطر بين المثقفين، فبتنا نرى ونسمع بمناسبة أو بدونها علو صوت قصائد البلاط التي تستجدي رضى الزعيم الفذ، ومقالات التمجيد للحكام، والمنشورات التي تبرز رجاحة عقول الحكام، وحصافة آرائهم، وحرصهم الذي لا يبيتون ليلهم بسببه على الرعية ومصالحها، وأكثر من يعلم أن كل هذا نفاق هم الحكام والزعماء أنفسهم.

إن هذه الظواهر المرضية، والتي ساهم الجميع في انتشارها، خاصة في الوسط الثقافي، حيث بات معظم المثقفين يظنون أن الممر الوحيد كي ينالوا مبتغاهم- أيًا كان- من السلاطين وسواهم، هو قصيدة غزل وتمجيد ومدح، وأن الحقوق لا يتم الحصول عليها إلا بالتملق والتلهوق، حتى أصبح هذا المنهج غير السوي من أدبيات الوظيفة والترقية، وقضاء الحاجات والتودد للمسؤولين، والتقرب من أصحاب الشأن، وصار العباد يبدعون ويتفننون في إتقان النفاق والزندقة والمخادعة، ويتنافسون في ميدانها.

إن شيوع هذه الظواهر في المجتمعات العربية يتسبب في انحدار القيم الأخلاقية، وتشويه المفاهيم المجتمعية، ويؤدي إلى خلط المعايير الإنسانية والفكرية بصورة يصعب معها انتشال البشر من هذا القاع. والخطير أن الناس يتعايشون مع الزندقة ومخرجاتها ومفاعيلها برضى بليد، وصار المثقفون يعتبرون النفاق أمرًا بديهي، ومن ينكرها يخالف الإجماع.


في القسم الثاني من المقال سوف نتطرق للأسباب التي تدفع بعض المثقفين إلى اللجوء لزندقة احترازية مما سيقع، وسوف نجري مقاربة ترتبط بحاجتنا إلى المثقف الحقيقي غير المزيف للخروج من الوضع الراهن وانسداداته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.