في كتابه النقدي «كتب وشخصيات»، يتناول الناقد «سيد قطب» بإنصاف شديد أكثر من 30 أديباً مع بعض مؤلفاتهم وكتبهم في عالم الشعر والقصة والرواية وعلم النفس والبحوث والتراجم والتاريخ.

يقول في إهدائه الكتاب، إلى الملأ من هؤلاء الأدباء والشعراء:

فإذا غضب منهم من غضب، ورضي منهم من رضي، فعذري إلى أولئك، وعذري إلى هؤلاء: أنني لم أقصد إلى إغضاب أو إلى إرضاء. وإنما هي المرآة أرفعها لهم ليروا صفحتي الوجه، الذي لم يروا منه من قبل إلا الصفحة الجميلة… ولكل وجه صفحتان.

ويظهر الناقد بوضوح في هذا الكتاب؛ واسع الاطلاع، شامل الثقافة، متنوع الموضوعات. يقرأ بعناية، وينقد بوعي، فيقرأ في شتى النتاج الأدبي: في الشعر، والرواية، والقصة، والأقصوصة، والبحوث الأدبية، والتاريخية، والاجتماعية والفلسفية، والتراجم، والدراسات، ويتناولها تناول الخبير المُلِّم؛ بل المُطّلع الدارس لكل هذه الفنون. ومن يُطالع كل هذه الفنون يمتاز بالمثابرة والجَلَد.

كما حرص على تناول شخصيات من جميع الأنماط والمستويات والاتجاهات، ومن شتى البلاد الناطقة بالعربية، وإن كانت الغالبية من المصريين، وليس ذلك عن تشيع، ولكنها ظروف النهضة الأدبية، التي جعلت مصر هي السابقة في هذه الفترة من التاريخ كما قال في المقدمة.

وكان مع إنصافه كناقد متمكن؛ مُكتشِف لنبوغ الشباب، ومُبشِر بنجاحهم، ومُسلِط الأضواء على إنتاجهم بكل ود. وكم قدّم لهم النصائح المهمة، ووضع أيديهم على مكامن الضعف ليتجنبوها، وعلى مواضع الداء ليعالجوها. من هؤلاء الكاتب الشاب وقتها الأستاذ «نجيب محفوظ»، والذي أصبح بعد ذلك ملء السمع والبصر.

فحين يتناول الناقد قصة «خان الخليلي» لنجيب محفوظ، يقول:

هذه هي القصة الثالثة للمؤلف الشاب، سبقتها قصة «رادوبيس» وقصة «كفاح طيبة»، وكلتاهما قصتان، معجبتان، مستلهمتان، من التاريخ المصري القديم. ولكن هذه القصة الثالثة هي التي تستحق أن تُفرّد لها صفحة خاصة في سجل القصة المصرية الحديثة، فهي مُنتزعة من صميم البيئة المصرية في العصر الحاضر… وكل رجائي ألّا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب المرجو –في اعتقادي– لأن يكون قصّاص مصر في القصة الطويلة. فما يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه، واتخاذ أسلوب فني معين تُوسم به أعماله وطابع ذاتي خاص تُعرف به طريقته.

ويستعرض سريعًا فصل النقد في المكتبة العربية، فيُدرك حداثته، وصغره عن سائر الفصول. يقول:

«النقد الأدبي متخلف في المكتبة العربية، ولكن هذا التخلف هو الوضع الطبيعي للأمور. فالنقد هو عملية الوزن والتقويم؛ فلا بد أن تسبقه عملية الخلق والإنشاء. لابد من وجود المادة الفنية التي يزنها الناقد ويقوّمها. ولقد وُجد فصل النقد الأدبي في المكتبة العربية القديمة؛ ولكنه –في الغالب– كان نقد ألفاظ وعبارات، لا يكاد يجاور هذه المنطقة… فقد جُمّدت قوالب النقد حوالي القرن الرابع، وأصبحت قواعد محفوظة، وطرقاً مرسومة، ولم يتعد النقد –في الغالب– النقل عن كتب النقد السابقة بلا زيادة تُذكر. وبقي الأمر على هذه الحال نحو تسعة قرون!

نعم وُجد إذ ذاك نوع من النقد، ولكن عمله الأول كان هو الهدم… وكتاب «الديوان» للعقاد والمازني؛ كان مُعوّل الهدم الذي يسبق البناء، ولقد صدر بعده بقليل كتاب آخر يضرب على نغمته، ولكن في هدوء، ذلك هو كتاب «الغربال» لـ ميخائيل نعيمة. ولم تصدر خلال فترة طويلة كتب في نقد الأدب المعاصر، اللهم إلا كتاب «على السفود» للرافعي، وكتاب «رسائل النقد» لـ رمزي مفتاح. وإنما نسميها نقدًا من باب التجوز، إذ إن مكانهما هو فصل الهجاء بكامل معناه. ثم كتاب «شوقي» لـ أنطون الجميل وهو استعراض لفنون شوقي.

ثم ظهر كتاب «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» للعقاد، وهو دراسة وافية للمدارس الفنية للشعر. وأخيرًا صدر كتاب «في الميزان» لـ مندور وهو مجموعة مقالات في النقد السريع لبعض الأدباء والشعراء، وفي العام الماضي ظهر كتاب «دفاع عن البلاغة» للزيات وهو بحث عام في البلاغة. وكذلك ظهر كتاب «فصول في النقد» لطه حسين، وهو كما يدل اسمه عليه فصول متفرقة سبق نشرها في الصحف».

وفي حاجة المكتبة العربية للنقّاد، يقول:

وإنه ليُخيل إليَّ أن المكتبة العربية الحديثة قد أصبحت تستحق «ناقداً» ففيها أعمال أدبية ناضجة، وفيها مذاهب فنية متبلورة، كما فيها محاولات واتجاهات تستحق الاهتمام. فالناقد خليق أن يجد له عملاً في هذه الظروف الجديدة.

 وعن دور الناقد وعمله على وجه التحديد يقول:

«للناقد عملان أساسيان: عمله في الجو العام، وعمله مع كل مؤلف على حدة. فأما عمله في الجو العام، فهو التوجيه والتقويم، ووضع الأسس، وتشخيص المذاهب وتصوير أطوارها ومناهجها. وأما عمله مع كل مؤلف، فهو وضع مفتاحه في أيدي قرائه الذين يقرؤون أعماله متفرقة، ولا يدركون الطبيعة الفنية، ولا يتعرفون إلى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل».

وقد وصل سيد قطب إلى مرحلة النضوج النقدي في كتابه «النقد الأدبي: أصوله ومناهجه»، والذي قال عنه الأستاذ يوسف العظم:

هذا الكتاب أرشحه –لو كان لي من الأمر شيء- ليكون موضوع دراسة لطلاب كليات الدراسات الأدبية في الجامعات العربية، ذلك أنه كتاب بحث متخصص، وفيه من عمق الاطّلاع وأصالة البحث والجدة في الموضوع. ما يجعله فوق مستوى كثير من الكتب التي يرشحها كثير من المتخصصين لتكون بين أيدي طلاب الجامعات العربية في الدراسات اللغوية والبحوث الأدبية.

يقول الأستاذ «سيد قطب» في مقدمة الكتاب:

«وظيفة النقد الأدبي وغايته –كما أوضحتها في هذا الكتاب– تتلخص في: تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمته التعبيرية والشعورية، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كله، وقياس مدى تأثره بالمحيط، وتأثيره فيه، وتصوير سمات صاحبه وخصائصه الشعورية والتعبيرية، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك».

ويبدع الناقد في إحداث نظرية متكاملة في النقد الأدبي، سمّاها نظرية «المنهج المتكامل» الذي جمع فيها كل مناهج النقد، وأبرزها: المنهج الفني، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي.

يقول عن منهجه المتكامل:

وقد يرى القارئ بادئ ذي بدء أنني آثرت «المنهج الفني» على المنهجين التاريخي والنفسي، ولكنه حين ينتهي من قراءة الكتاب سيرى أن المنهج المختار هو «المنهج المتكامل» الذي ينتفع بهذه المناهج الثلاثة جميعًا، ولا يحصر نفسه داخل قالب جامد أو منهج واحد.

وليست نظرية المنهج المتكامل بجديدة عليه، بل كانت نتيجة ممارسة وخبرة طويلة، شملت أعماله الأدبية، وبعض الأدباء الآخرين أمثال العقاد في كتبه عن ابن الرومي وعمر ابن أبي ربيعة، وطه حسين في كتبه عن أبي العلاء والمتنبي.

ووضع سيد قطب في كتابه أصولاً للنقد الأدبي، يقول:

ومعظم ما يُكتب في النقد الأدبي عندنا اجتهاد، وذلك طبيعي ما دامت «الأصول» لم تُوضع، و«المناهج» لم تُحدد بالدرجة الكافية… والكتاب مقسوم بطبيعته إلى قسمين: الأول حاولت أن أضع فيه «أصولاً» للنقد وقواعد، حتى لا يكون الذوق الخاص هو وحده المحكم، والثاني حاولت أن أصف فيه مناهج النقد في القديم والحديث.

وأختم بشهادة الدكتور محمد مهدي علام، أستاذ سيد قطب في دار العلوم: «إنني أَعدُّ سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم، وإذا قلت دار العلوم فقد عنيتُ دار الحكمة والأدب».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.