الانسحاب الكامل للقوات التركية من الشطر الشمالي لجزيرة قبرص أمر غير مطروح طالما لم توافق اليونان أيضًا على سحب قواتها من الجزيرة المنقسمة.

بهذه الكلمات رد الرئيس التركي طيب أردوغان يوم 13 يناير/كانون الثاني الماضي على مطالب الرئيس القبرصي، نيكوس أناستاسياديس، بانسحاب القوات التركية من جزيرة قبرص. وتعود هذه الأيام القضية القبرصية إلى الاهتمام الدولي من جديد، حيث برزت الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية للجزيرة بشكل كبير في ظل التغيرات العنيفة التي تعصف بالنظام الدولي والأنظمة الإقليمية.


كيف بدأت القصة؟

يرجع تقسيم قبرص إلى عام 1963 عندما نفذ القبارصة اليونانيون انقلابًا عسكريًا سعى إلى ضم الجزيرة بالكامل إلى اليونان؛ ما دفع تركيا إلى غزو الجزيرة في 1974 للتصدي لأعمال القمع بحق القبارصة الأتراك، ونتج عن ذلك انقسام الجزيرة التي تبلغ مساحتها حوالي 9.250 كم2، إلى قبرص اليونانية وهي المعترف بها دوليًا، بينما أُعلنت جمهورية شمال قبرص التي لم يعترف بها سوى تركيا.

وجرت في السابق، عام 2004، سلسلة محاولات للتوصل إلى حل بشأن إعادة توحيد الجزيرة، ثم استؤنفت المفاوضات في فبراير/ شباط 2014 واستمرت حتى توقفت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 بسبب اختلاف وجهات النظر حول مسألة الأراضي. وبدأت في 10 يناير/كانون الثاني 2017 جولة جديدة من المفاوضات في جنيف، ترعاها الأطراف الثلاثة الضامنة وهي تركيا واليونان وبريطانيا، من أجل التوصل إلى حل للأزمة، وينتظر أن يعلن خلال الأيام المقبلة عن نتيجة المفاوضات.

وتتركز عملية المفاوضات حول مواضيع أساسية هي: الاتحاد الأوروبي، والأنشطة الاقتصادية، والأمن والدول الضامنة، والتقسيم الإداري، إذ يطالب القبارصة الأتراك بالحصول على 29.2% من مساحة الجزيرة، ويطالبون بأن يصبح اسم تلك المساحة «الدولة التركية الفيدرالية»، بينما يطالب القسم اليوناني بتخفيض تلك النسبة.


لماذا تصر تركيا على موقفها؟

خريطة توضح السيطرة الدولية على الجزيرة المنقسمة

تدافع تركيا عن استمرار وجودها العسكري في قبرص حيث يتواجد حوالي 30 ألف جندي، ويعتبر هذا أحد أسباب عرقلة توحيد الجزيرتين، وترى تركيا في الجزيرة مدخلًا إليها فهي كانت تابعة لها في الأصل؛ ولهذا تتخوف من أن توحيد الجزيرة بعيدًا عن نفوذها سيجعلها أداة جيوسياسية للإضرار بأمنها، كما تستخدمها كورقة للمساومة في دخول الاتحاد الأوروبي.

وإلى جانب ذلك ظهرت مؤخرًا اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، ومنها قبرص، وتسعى تركيا إلى استغلال هذه المسألة فهي تريد المشاركة في هذه الحقول لأن لديها أزمة طاقة، كذلك تريد استغلال موقعها من أجل توصيل الغاز إلى أوروبا. وسمحت حكومة قبرص اليونانية في 2011 لشركة أمريكية بالتنقيب عن النفط قبالة السواحل الجنوبية للجزيرة،فردّت تركيا بإرسال سفينة للتنقيب عن النفط والغاز تحرسها بوارج بحرية، وقد أجرت تركيا أيضًا في أكتوبر/تشرين الأول 2014 أبحاثًا في المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية، كما أرسلت قطعًا حربية لمنع أي عمليات تنقيب هناك.

ومما يوضح أن تركيا تستثمر على المدى البعيد في قبرص الشمالية باعتبارها امتدادًا لها،أنشأت أنقرة في أكتوبر/تشرين الأول 2015 مشروع نقل المياه من تركيا إلى جمهورية شمال قبرص، عبر البحر الأبيض المتوسط، حتى عام 2050، كما تدعم أنقرة قبرص الشمالية بحوالي مليار دولار سنويًا، وهذا يبين أن المفاوضات الجارية ستطول، بل لن تسفر عن حل جدّي للأمر، فكلٌّ له مصالحه.


الغاز يحرك أوروبا

شهدت منطقة شرق المتوسط اكتشافات ضخمة من الغاز، وهذا أسهم في بروز تحالفات واستقطابات جديدة في المنطقة، حيث الصراع على مصادر الطاقة، وتعد قبرص إحدى هذه الدول، فقد اكتشف لديها حقل أفردوديت، وإلى جانب ذلك تسعى أوروبا لأن تكون قبرص ممرًا لنقل الغاز الإسرائيلي إليها، ولكن هذا لن يتم في ظل استمرار انقسام الجزيرة.

وعند ضم قبرص الشمالية تحت راية الاتحاد الأوروبي، سيسهل تمديد خط الغاز الإسرائيلي عبر قبرص نحو دول الاتحاد، وبذلك ستستطيع أوروبا التخلي أو التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي، وهذا يكشف سر عودة الاهتمام الأوروبي مؤخرًا بطرح قضية توحيد الجزيرة المنقسمة.

وتعتبر قبرص ورقة مساومة تستخدمها تركيا ضدها دائمًا، وتريد أن تنهي هذا الضغط إلى جانب استخدامها مستقبلًا في نقل الغاز إليها من إسرائيل؛ لأن كمية الغاز المكتشفة في قبرص ضعيفة ولن تفي باحتياجات أوروبا، فحقل أفروديت الذي اكتشف في 2011 يحتوي على حوالى 127 مليار متر مكعب من الغاز، وهذا ضعيف مقارنة بحقول الغاز الإسرائيلية أو اليونانية.


مصالح مصر وإسرائيل في قبرص

اكتشفت إسرائيل حقل غاز «ليفاثيان» في 2010، والذي يحتوي على ما يقارب 16 تريليون قدم مكعب، إضافة لحقل «تمار» باحتياطي يقدر بـ9.7 تريليون، وهذا دفعها إلى السعي لتحسين علاقتها بقبرص واليونان ومصر حتى تستطيع تصدير الغاز إلى أوروبا.

وكان تقرير لصحيفة جيروزاليم بوست قد أكد أن مساعي إسرائيل لتصدير الغاز الطبيعي من حقل ليفيثان إلى تركيا ومنها إلى الاتحاد الأوروبي بات مرهونًا بمباحثات السلام الجارية حاليًا في جنيف، للتوصل إلى تسوية للقضية القبرصية، ولهذا سعت إسرائيل إلى تحسين علاقتها مؤخرًا بكل من تركيا واليونان وقبرص إلى جانب مصر.

وتعمل إسرائيل على أن تكون محورًا هامًا للطاقة في المنطقة بتزويد أوروبا بالغاز وهذا لن يتم إلا بحفاظها على علاقات جيدة بالمثلث (تركيا وقبرص واليونان)، حتى تستطيع اكتساب ورقة ضغط قوية في التعامل مع أوروبا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ لأنها ستكون أنقذت أوروبا ولو مرحليًا من الضغوط التي تعيشها حاليًا بسبب روسيا عن طريق الضغط عليها بمسألة الطاقة.

ويرى محللون إسرائيليون أن حقول غاز ليفيثان وتامار في إسرائيل، وشروق في مصر، وأفروديت في قبرص، يمكن أن تكون محاور تحول المنطقة إلى مكان طاقة متكاملة، لكن تتخوف إسرائيل من التذبذب التركي تجاهها، فعلاقتها في ظل النظام التركي الحالي ليست مضمونة. ولهذا تعول إسرائيل على كسب أنقرة مرحليًا من أجل حل إشكالية قبرص حتى تعتمد عليها مستقبلاً إلى جانب اليونان في تشكيل محور للطاقة يكسبها قوة سياسية كبيرة في المنطقة.

وبالنسبة إلى مصر فترى أن توحيد الجزيرتين أفضل لها لأنه سيعيق النفوذ التركي إلى حد ما في المتوسط، وتستطيع التعاون مع قبرص واليونان في مشاريع الغاز والتي تهدد استمرارها تركيا بسبب قواتها المتواجدة في قبرص التركية.

وقد عقدت مصر أكثر من قمة ولقاء جمعها بقبرص اليونانية وذلك للتعاون في مشاريع الغاز وغيرها، حيث تريد القاهرة ضمان أمنها في حوض المتوسط واستثماراتها، وقد عُقدت القمة الرابعة بين مصر اليونان وقبرص في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2016، لبحث التعاون في قضايا الطاقة والاقتصاد والأمن وسبقها ثلاث قمم استضافت كل دولة واحدة منها. وأبدت القاهرة دعمها لوحدة قبرص ما يؤكد أنها تعول على نيقوسيا كحليف إقليمي، في مشاريع الطاقة وللتضييق على النفوذ التركي في المتوسط.

وقد اتهم رئيس قبرص التركية السابق «درويش إروغلو» إسرائيل ومصر بأنهما لا يرغبان في التوصل إلى حل يلائم الطموحات التركية، وذلك من أجل تقويض خطط وطموحات أنقرة في البحر المتوسط.


هل تتوحد الجزيرة؟

خريطة توضح السيطرة الدولية على الجزيرة المنقسمة
خريطة توضح السيطرة الدولية على الجزيرة المنقسمة

تسعى الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمة، لكن لن يكون هنالك حلٌ دون تركيا وبريطانيا واليونان لأنهم اللاعبون الأساسيون في قبرص، وما لم تحدث توازنات وتنازلات لن تتوحد الجزيرة المنقسمة؛ لأن الخلافات الأساسية يتدخل فيها هؤلاء.

فبالنسبة إلى تركيا ترفض سحب قواتها، وبريطانيا لن تتخلى عن قواعدها العسكرية الدائمة وخاصة بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، فهي تبحث الآن عن دور قيادي لها، وتبحث عن انتشار عسكري في الشرق الأوسط، وبالتالي من غير المتوقع أن تترك وجودها في قبرص، وبريطانيا الآن لم تعد تهتم كثيرًا بأوروبا فهي تبحث الآن مصلحتها وليست مصلحة أوروبا.

أما الاتحاد الأوروبي فيريد حلًا القضية لأنه يريد الحفاظ على أمن الطاقة والخروج من وطأة الضغط الروسي، ولهذا عليه أن يقدم تنازلات لتركيا وأن يراعي مصالحها، حتى توافق على توحيد الجزيرة، فهي لن تجعل قبرص أداة جديدة تحاصرها في المتوسط، كما تريد أن تستغل قبرص كورقة لدخول الاتحاد الأوروبي. ويمكن القول إن القضية القبرصية لا ترجع فقط لخلافات الداخل على الحكم بين الأتراك واليونانيين، ولكن إلى التوازنات والمصالح الإقليمية والدولية، ولن تحل ما لم تتوافق هذه القوى.