في خضم الاعتداءات والقمع والتنكيل الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس، يقف المقدسيون سدًا جسورًا يتصدى للأمواج العاتية، التي تريد الإطاحة بهويتهم وقوميتهم، فمع كل مناسبة دينية يتعمد الاحتلال أن يُنغِّص على المقدسيين فرحتهم، ومنذ استقبال شهر رمضان الحالي والاحتلال يقوم بذلك بكل ما أوتي من قوة، من خلال إقامة حواجز حديدية أغلقت بها «باب العامود» (أحد أبواب البلدة القديمة)، لمنع التجمع في هذه المنطقة، التي تعد الأهم والأبرز لتجمع الفلسطينيين.

شهد «باب العامود» ومناطق أخرى من القدس الشرقية منذ بداية شهر رمضان مواجهات مستمرة بين قوات إسرائيلية وشبان فلسطينيين.

حالة المواجهة اليومية بلغت ذروتها في العاشر من رمضان، مع الدعوات المكثفة لمنظمة «ليهافا» اليمينية اليهودية المتطرفة، لتنظيم مسيرة حاشدة من المستوطنين، تحت عنوان «الدفاع عن الشرف اليهودي». وقد هتف بعض أعضائها «الموت للعرب» بحسب شهود عيان، مما اعتُبر خطوة استفزازية، أدت إلى مواجهات مع الفلسطينيين، الذين صادف خروجهم من صلاة العشاء والتراويح في المسجد الأقصى.

فقد نظّم شبّان فلسطينيون في القدس الشرقية المحتلة تظاهرة مضادة للاحتجاج على تلك المسيرة، ما أدى لاندلاع صدامات بين هؤلاء المتظاهرين وقوات الاحتلال الإسرائيلية عند مدخل البلدة القديمة وصلت ذروتها،الجمعة الماضية، وانتهت بإصابة أكثر من 100 فلسطيني بجراح واعتقال العشرات.

«باب الشهداء» في مواجهة «أسرلة» القدس

اعتاد المقدسيون الاحتشاد في «باب العامود»، منذ سنوات عديدة، لرفع صوتهم ضد السياسات الإسرائيلية الساعية لـ«أسرلة» المدينة، لكن شرطة الاحتلال الإسرائيلي، تعمل بشكل يومي، على تفريقهم، باستخدام القوة، وهو ما يؤدي إلى حدوث اشتباكات، ومواجهات بين الطرفين.

وخلال الأعوام الماضية، تصاعد دور «باب العامود»، ليصبح حيزًا حيويًا لفلسطينيي القدس؛ يتجمعون عنده، ويُنظِّمون على أعتابه نشاطاتهم السياسية والاجتماعية، بما يشبه الدور الذي تؤديه مراكز المدن، أو ما يُسمى بالدارجة «وسط البلد».

وبرز اسم «باب العامود» في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، عقب إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسميًا اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وعندئذ تحول «باب العامود» إلى مركز الاحتجاجات الفلسطينية في القدس ضد القرار.

وقد دأبت قوات الاحتلال، منع أي تجمعات للمقدسيين في منطقة باب العامود، وهو أحد أهم أبواب البلدة القديمة وكنيسة القيامة، ويؤدي إلى المسجد الأقصى. حيث تشهد مدرجات باب العامود، من حين لآخر، وقفات فلسطينية، بعضها تضامنًا مع المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، أو إحياءً لذكرى مناسبات فلسطينية كنكبة فلسطين (1948)، أو ذكرى احتلال القدس (1967).

وما أن يخرج المصلون من صلاة المغرب والتراويح حتى تشتعل المواجهات في الساحة، التي يجد فيها المقدسيون مُتنفسًا لهم، مع رفضهم محاولة الاحتلال فرض أمر واقع جديد في المنطقة عبر الحواجز الحديدية وسياسة القمع.

وقد عزّزت إسرائيل في العقدين الماضيين، من قبضتها على باب العامود، بشكل خاص، فأقامت مدرجًا نصف دائري، يؤدي إلى الباب وأبعدت مواقف الحافلات والسيارات العمومية عنه. وخلال الأعوام القليلة الماضية قطعت السلطات الإسرائيلية جميع الأشجار التي كانت قريبة منه وأقامت 3 نقاط شرطة دائمة.

ويشتكي الفلسطينيون من قيام عناصر الشرطة الإسرائيلية بإيقاف الشبان والتدقيق في بطاقات هوياتهم، وإخضاعهم– في كثير من الأحيان- للتفتيش الجسدي، إضافة إلى الاعتداءات بالضرب والاعتقال.

ويرى المحللون أن إسرائيل تريد من مجمل إجراءاتها في باب العامود وقف الحركة الفلسطينية باتجاه البلدة القديمة، وكذلك القضاء- بشكل كامل- على الحركة التجارية في أسواق البلدة القديمة، وذلك من خلال الحملات الضرائبية وتنفيذ إجراءات تمنع الفلسطينيين من ارتياد الأسواق التجارية في البلدة.

ومنذ عام 2015، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية العديد من الفلسطينيين على أعتاب باب العامود، خلال الهبة الشعبية التي اشتعلت احتجاجًا على تصاعد الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وعندئذ، أطلق كثير من المقدسيين على منطقة باب العامود اسم «باب الشهداء».

وهنا يؤكد المراقبون، أهمية الرمزية السياسية المتصاعدة لباب العامود لدى المقدسيين في السنوات الأخيرة. فقد سيطر الاحتلال على باب الخليل الذي يُسمى كذلك باب يافا، كونه بداية الطريق نحو يافا، وأصبح اليوم منطلقًا إلى غرب المدينة ومستوطناتها، فاستعاد المقدسيون استملاك المكان العام في باب العامود، وحاولوا تأكيد عروبته. ولكن استعادة الفلسطينيين في القدس للمكان العام، متمثلًا في باب العامود أقلق السلطات الإسرائيلية، فأصبح أي تجمع ولو صغير وعشوائي يُقمَع من قبل الشرطة.

وفي الأيام الأخيرة، بمجرد جلوس طلبة المدارس والشبان على درجات باب العامود وترديدهم الهتافات والأناشيد، تُستدعَى كتيبة من القوات الخاصة الإسرائيلية حتى تُخلِيهم من المنطقة.

عباس يستغل الهبة لتأجيل الانتخابات

منذ أن أُعلن عن إجراء انتخابات فلسطينية، من المقرر أن تُجرى على 3 مراحل: تشريعية في 22 مايو/أيار، ورئاسية في 31 يوليو/تموز، والمجلس الوطني في 31 أغسطس/آب المقبل. تمتنع الحكومة الإسرائيلية عن الرد على طلب فلسطيني، بإجراء الانتخابات التشريعية في 22 مايو/أيار المقبل، بمدينة القدس الشرقية. فإسرائيل ترفض أي مظهر سيادي للفلسطينيين في المدينة المقدسة، فإلى الآن لم تكشف بعد عن موقفها حيال عقد الانتخابات المقررة. ومن ثَمَّ ستتخذ إسرائيل ما يحدث من تصعيد وتوتر في القدس ذريعة لعدم قبولها بإجراء انتخابات في القدس الشرقية.

حيث تضمنت «اتفاقية المرحلة الانتقالية» المُبرمة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والموقعة بواشنطن في 28 سبتمبر/أيلول 1995، مُلحقًا خاصًا يتعلق بالانتخابات الفلسطينية. وتتعلق المادة (6) من الملحق بترتيبات الانتخابات في القدس. وجاء في نصه: «يتم الاقتراع في القدس الشرقية في مكاتب بريد تتبع سلطة البريد الإسرائيلية».

وفي عام 1996، أُعلن عن السماح لنحو 5367 من سكان القدس الشرقية بالتصويت في 5 مراكز بريد، ورُفع عدد مراكز البريد في انتخابات عامي 2005 و2006، إلى 6، بقدرة استيعابية تصل إلى 6300 ناخب، وصوّت باقي السكان الفلسطينيين بمراكز اقتراع في ضواحي المدينة.

ولكن الأمور بعد 2017، ازدادت تعقيدًا، حيث اعترفت إدارة ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل. مما جعل إسرائيل تنتهز الفرصة لمنع أي إجراء من شأنه الاعتراف بالوجود الفلسطيني وحقوقه في القدس. فيما ترى السلطة الفلسطينية أنه لا يمكنها التفريط بالانتخابات في القدس، لأن هذا، بحسب ادعائها، يعني اعترافًا بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على المدينة.

فالرئيس محمود عباس ووزير خارجيته رياض المالكي يقومان منذ بضعة أيام بالتواصل مع قادة العالم للتحرك في أوروبا بهدف الضغط على إسرائيل، لإجراء الانتخابات في القدس، كما أجريت في المرات الثلاثة: التشريعية عام 1996، الرئاسية عام 2005، والتشريعية عام 2006.

رغم ذلك، تثار شكوك حول مدى جدية السلطة الفلسطينية وحركة فتح في عقد تلك الانتخابات، حيث يخشى الرئيس محمود عباس مما قد تفضي إليه تلك الانتخابات من الإطاحة به لصالح منافسيه داخل حركة فتح، وعلى رأسهم الأسير مروان البرغوثي والقيادي في الحركة ناصر القدوة. لذلك، فإن قيادة فتح تعمل على استغلال هبة القدس ذريعة لتأجيل الانتخابات، وهو ما ظهر في في تصريحات القيادي بالحركة عزام الأحمد الذي قال إن حركات التحرر الوطني لا تقيم انتخابات في ظل الاحتلال، وإن انتخابات 2006 كانت استثناء بسبب وفاة عرفات.

ويؤكد مسئولون فلسطينيون من حركة «فتح» أنه في حال فشلت الجهود الفلسطينية على المستوى الدولي بشأن الضغط على إسرائيل للموافقة على الطلب الفلسطيني بإجراء الانتخابات في القدس، فإن السلطة ستتجه إلى تأجيل العملية الانتخابية برمتها. حيث قال «نبيل شعث» مستشار الرئيس الفلسطيني: «إن تأجيل الانتخابات الفلسطينية أمر وارد في حال فشل الضغط العالمي على إسرائيل للسماح بإجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس».

وأضاف شعث: «نحن لا نريد تأجيل الانتخابات لأي سببٍ من الأسباب، لكن لا نريد أن نسمح لإسرائيل أن تمنع أبناء شعبنا في القدس من التصويت في الانتخابات، والسبب الوحيد الذي من الممكن أن يدفعنا للتأجيل هو منع الانتخابات في القدس».

على الجانب الآخر ترفض حماس أي سبب قد يُعرِقل إجراء العملية الانتخابية المقبلة، فقد أكدت حماس أن التصريحات المتواترة حول إلغاء الانتخابات من دون القدس تدق ناقوس الخطر. كما اعتبر القيادي في حركة حماس ماجد حسن أن الحديث عن تأجيل الانتخابات يجب أن يدق ناقوس الخطر عند كل الكتل الانتخابية التي ترشحت للانتخابات، وبالذات الكتل التي تمثل الفصائل الأساسية على الساحة الفلسطينية. وأكد القيادي «أن تأجيل الانتخابات أو إلغاءها بعد الجهود المضنية التي بذلت في القاهرة، والتي شارك فيها الكل الفلسطيني، وتوافق على إجرائها سيشكل صاعق تفجير للحالة الفلسطينية المأزومة، والتي لا يعلم إلا الله تداعياتها».

هل يخدم التصعيد حماس وإيران؟

ردًا على ما شهدته القدس في الأيام الأخيرة، تداعت مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والفصائل إلى وقفات تضامنية مع المدينة في ظل ما يرونه محاولات لتهويدها. حيث أطلقت الفصائل الفلسطينية من غزة عددًا من قذائف الهاون تجاه موقع عسكري إسرائيلي شرقي المدينة، تضامنًا مع الفلسطينيين بالقدس المحتلة. وأعلنت «كتائب المقاومة الوطنية»، الجناح المسلح لـ«الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، في بيان، «مسئوليتها عن قصف مستوطنات الاحتلال المحاذية للقطاع بعدة صواريخ فجر اليوم ردًا على عدوان الاحتلال في القدس». كما أعلنت «كتائب شهداء الأقصى»، الجناح العسكري لحركة «فتح»، مسئوليتها عن إطلاق صواريخ عدة على جنوب إسرائيل.

ودوت صفارات الإنذار في القرى الإسرائيلية القريبة من القطاع. وبعد صدامات الخميس (22 أبريل/نيسان 2021) في القدس الشرقية، أكدت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس دعمها فلسطينيي المدينة المقدسة. حيث أُطلق مساء الجمعة 36 صاروخًا من قطاع غزة المحاصر على إسرائيل، وفق ما أعلن جيش الاحتلال. واعترضت منظومة القبة الحديدية ستة صواريخ، بينما سقطت الأخرى في مواقع خالية من السكان. وردًا على إطلاق الصواريخ، قصفت إسرائيل بالدبابات مواقع في غزة، ثم نفّذت غارات جوية بطائرات مروحية وطائرات قتالية على القطاع.

ولكن على الرغم من الرد الذي قامت به إسرائيل على قطاع غزة، فإنها تخشى أن تؤدي اشتباكات القدس إلى تصعيد شامل. حيث يرى مسئولو المخابرات الإسرائيلية أنه إذا استمرت أعمال العنف والتوتر في القدس، فمن المرجح أن تشهد إسرائيل تدهورًا في جميع الأنحاء، حيث يشعر المسئولون بالقلق من أن اندلاع العنف الأخير في القدس قد يؤدي إلى تصعيد المواجهات مع غزة، والتوترات في الضفة الغربية، بل وقد يؤدي إلى اندلاع احتجاجات عديدة في البلدان الإسلامية.

وحذّرت صحيفة «إسرائيل اليوم» في عددها الصادر، الأحد 25 أبريل/نيسان، من امتداد الاحتجاجات إلى العالم الإسلامي بسبب المكانة الدينية الخاصة للقدس لدى العرب والمسلمين. وقال محرر الشئون الفلسطينية في قناة «كان» العبرية، أن هناك جهود وساطة دولية بدأت بين إسرائيل وحماس في محاولة لتهدئة التصعيد في الجنوب، وأوضح مصدر دولي للقناة، أن التصعيد في الأيام القليلة الماضية في القدس، قبل أيام فقط من بدء مرحلة الدعاية للانتخابات في المناطق، يفتح بابًا واسعًا أمام المقاومة لتصدر المشهد الحالي. وأضاف المصدر، أن التصعيد في القدس لن يخدم سوى مصلحة حماس ويُعزِّز وجودها في الضفة الغربية والقدس.

وقدّر معلقون أن استمرار المواجهة في القدس من شأنه أن «يُستغل من قبل الإيرانيين وحلفائهم من أجل الضغط على الأمريكيين»، والاستفادة من ذلك في مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا. وأضافوا أن «الأحداث في القدس وغزة تُجسِّد كم أن الوضع في المنطقة قابل للانفجار ويمكن أن ينتقل خلال وقت قصير من الهدوء والروتين إلى حرب في عدة قطاعات».

لذلك، ربما يمكن تفسير التراجع الإسرائيلي عن التصعيد، وإزالة حواجز الاحتلال في محيط باب العامود.