عندما مات طفلي وكان صغيرا، كدت أموت من الألم، وبينما كان الآخرون يبكون، بدأت بالرقص، نعم الرقص وقال الآخرون عني : لقد جُنَّ زوربا، لو لم أكن رقصت ..لكنت مت

كانت هذه الكلمات لـ«زوربا» اليوناني يتحدث فيها عن الرقص كفعل مواساة ، وعلي نفس النهج سار «هاروكي موراكامي» في روايته «رقص ..رقص ..رقص» الحقيقة أنَّ الرواية لاتمُت بفعل الرقص بأي صلة ولكنه «هاروكي» ولكي يتسنَّي لنا الغوص في عالم روايته الغامض علينا أن نقتفي ظاهر المعنى وباطنه.

فالرواية تقوم على المزج بين الفانتازيا والواقع الُمعاش وتدمج بينهما بشكل لايكاد يُعرَف معه أيهما الواقع وأيهما الخيال، عالم الرواية متشابك وبه العديد من الشخصيات ؛بعضها حقيقي وبعضها خيالي، كما أنَّ أبطال هاروكي ليسوا دومًا أشخاص؛ هناك الحيوانات وهناك الأماكن وأحيانا الجمادات .. وقبل أن ندخل إلي عالم الرواية حريُّ بنا أولا أن نتعرف على الكاتب .


حول كاتب الرواية

كاتب هذه الرواية هو «هاروكي موراكامي»؛ كاتب ياباني معاصر، درس الدراما في جامعة واسيدا في طوكيو؛ كانت وظيفته الأولي في متجر تسجيلات قبل أن يفتتح المقهي الخاص به «بيتر كات» الذي كان عبارة عن موسيقي جاز تُعزف في المساء حيث يُعَدُّ هاروكي من المولعين بالموسيقي والتي تجدها دومًا حاضرةً في خلفية جميع أعماله .

يكتب هاروكي بأسلوب السهل الممتنع؛ حيث تجد نفسك وأنت تقرأ أعماله بأنك في غاية المتعة ولكنك في نفس الوقت لا تفهم تحديدا ماذا يعني الكاتب، في البداية ظننت أن تلك طريقة يود بها الكاتب أن يُظهر عمقه ولكن مع توالي الأعمال تأكدْت أن لهاروكي مسارا مختلفا؛ لا يُعوِّل هاروكي في أعماله علي القارئ الذي يجلس مسترخيا في مقعده وبيده قدحا من القهوة الساخنة ينتظر من العمل الذي يقوم بقراءته أن يُفصح له عن كل مكنوناته، إنَّما يُفضِّل ذلك النوع من القُرَّاء الذي يقدح زناد فكره ليفكر في كل سطر من أسطر الرواية في مغزي الكاتب، كلمات هاروكي لاتنهال عليك مرتَّبة ومنمَّقة ومفهومة .. كلمات هاروكي أنت الذي تذهب إليها؛ تروح وتجئ في الغرفة وتفكر فيما يقصده الكاتب وماهو معنى كلماته، ذلك المعنى المبعثر داخل صفحات الرواية كقطع الأحجيَّة وعليك لكي تصل إليه أن تجمعها كلمة كلمة وفي النهاية سيتضح لنا أن لكلِّ منا بناءه المختلف، ووصَّل لكل منا معنى مختلف تمامًا عمَّا وصل للأخر وهذا هو مايسمي برحابة المعني أن يتَّسع ليشمل كل شيئ يخطر ببالنا.


حول الرواية

موضوع الرواية الرئيسي –بالنسبة لي – هو «الرأسمالية المتقدمة» هذا هو ما كان الكاتب يحاول التحدث بشأنه وكل شخصيات الرواية وقعت تحت أسر هذه الرأسمالية دون أن تشعر؛ فبداية من بطل الرواية الرئيسي والذي يعمل كاتبًا لمقالات بالقطعة – ويُسمي وظيفته جرف الثلوج الثقافية، بمعني أنها مقالات ليست ذات فائدة تذكر للمجتمع وليست ذات معنى مجرد «تبديد» للورق والحبر على حد قوله، يحاول هذا الكاتب أن يتبع حلمه الذي راوده بأنه يجب أن يعود لفندق الدولفين والذي كان نزيلا فيه منذ مايزيد عن ست سنوات وبعد أن يقرر تتبُّع حلمه يذهب لفندق الدولفين ليجده غير ذلك الذي كان يقطنه منذ ست سنوات؛ لقد تغيرت هيئته بالكامل وتحول إلى فندق من ذوي النجوم الخمس بعد أن كان فندقا عاديا لقد كان على علم بصاحب هذا الفندق تُرَى ماذا حل به؟، وهنا يقرر متابعة القصة ليجد أن هناك مجموعة من كبار رجال الأعمال في البلد متورطة في شراء هذا الفندق رغما عن صاحبه وهنا يكشف له صديقه عن سر الفندق ليقول له كيف يسير المجتمع في الوقت الحالي حيث يقول الكاتب على لسان إحدي شخصياته «إن اللاعب الحقيقي الذى يقوم بأقصى قدر من الاستثمار الرأسمالي يحصل على أقصى قدر من المعلومات وتحتفظ الشركات الكبري بصلات معه؛ هذه الشركات تضع كل الأشخاص ابتداء من السياسيين والروائيين ونجوم الغناء تحت نفوذها وكل هذه الترتيبات تتم على مستويات عليا؛ هذا هو الاستثمار الرأسمالي وهذا هو العصر الحديث».

وخلال رحلة بطل الرواية بتتبع قصة الفندق والذي يعد أيضا من أبطال هاروكي؛ ففندق الدولفين تحول من وضعه السابق إلى فندق آخر مختلف تماما يلائم الرأسمالية وهذا هو الفندق عينه الذي قام باستدعاء بطل الرواية ليكشف عن قصته ففندق الدولفين في مكان سحرى منه وفي ساعة بعينها يتحول إلى الفندق القديم ويقابل البطل صاحب الفندق القديم الذى لازال يعيش فيه، هناك أيضا باقى شخوص هاروكى الذين قابلهم البطل في رحلته العجيبة لفندق الدولفين؛ هناك الفتاة «يوكي» ابنة الثلاثة عشر ربيعا والذى يعمل والدها كاتبا روائيا وتعمل والدتها مصورة محترفة وتنساها والدتها داخل فندق الدولفين الحديث لثلاثة أيام متصلة دون أن تتذكر أين تركت ابنتها؛ وكذا والدها الذى لايعرف عنها شيئا ولا يراها إلا لساعات معدومة كل عدة أشهر.

هذه الفتاة التي عوَّضت غياب والديها بالموسيقى؛ لقد ساعدتها الموسيقى على التعافي وجعلتها تصمد فى وجه المجتمع الذي لايشبهها بالمرَّة والذي قررت بسببه أن تكُف عن الذهاب إلى المدرسة لقد ارتأت أن المجتمع بأكمله لايمثلها ولا تود أن تصبح جزءا منه، هناك أيضا صديق البطل من أيام الثانوية «جوتاندا» والذي يعمل ممثلا لصالح وكالة مشهورة ويقع تحت نفوذها بالكامل فلا يسعه التصرف إلا بإمرتها؛ كل هؤلاء لهم صلة بشكل أو بآخر بالرأسمالية لقد طغت عليهم بشكل ما وحولتهم إلى آلات؛ أشخاص الرواية الوحيدون الذين لم يتأثروا بها هم «كيكي» فتاة الليل وصديقة البطل،وهناك أيضا «الرجل المقنع» صاحب الفندق القديم وعندما تستمر بقراءة الرواية يستضح لك أن هؤلاء الأشخاص غير المتأثرين ليسوا حقيقيين وإنما هم شبح يسكن بداخلنا يحاول أن ينبهنا بأن نحترس، وبألا ندع حفنة من رجال الأعمال القليلين يحددون وجهتنا وحياتنا؛ ويرسمون لنا طريق مستقبلنا، يحاولون بأن يخبرونا أن نتناغم داخليا حيث كل شيئ موصول ببعضه البعض حتي نصل لحقيقة أنفسنا، وأخيرا يطلب الرجل المقنع من بطل الرواية بأن يرقص.


لماذا الرقص؟

لأنه بداخل كل منا ذلك الجانب حالك السواد؛ تماما مثل الحائط الذي كان يفتح فى الطابق السادس عشر بفندق الدولفين الحديث ذلك الفندق والذى على الرغم من نجومه الخمس يبدو في جزء منه حالك السواد، هذا الجزء الأسود في الحقيقة هو جزء منا تغافَلنا عنه منذ زمن، ورغم كل التقدم الذي تشهده الإنسانية حاليا لم يتقدم الإنسان وإنما ظلَّ واقفا في مكانه يحرك مصيره حفنة من المحظوظين، ولذا وبسبب توقف حركته وجب عليه أن يرقص؛ وجب عليه أن يحرك قدماه وأن يضبط حركته مع الإيقاع ويجب عليه ألا يتوقف عن الرقص لأنه وكما قال «نيتشه» في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يُعد الرقص هو التعبير الناصع عن قوة الإرادة وأن الحياة بأسرها هي نضال من أجل إرادة الإنسان الحي.

وهكذا وعقب قراءتك لآخر سطر في هذه الرواية تجد نفسك قد اكتشفت صديقا جديدا لن تتخلي عنه ماحييت؛ صديقا تحبه الكلمات وتبدو في كتاباته في أوج جمالها واكتمالها، سوف تخوض معه رحلتك الخاصة التي سوف تطلعك على المزيد والذي ستراه وفق نظرتك أنت هذه المرة، وقد تكتشف أيضا شيئا آخر وهو أنك أضعت وقتا ثمينا بقراءة هذا المقال الذي لايمت لرواية رقص …رقص … رقص بأية صلة .


المراجع:

1) هاروكي موراكامي ،رقص…رقص…رقص ، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى ، 2011 .2) فريدريك نيتشه ، هكذا تكلم زرادشت كتاب للكل ولالأحد ، القاهرة ، المركز القومى للترجمة ،2011 .3) نيكوس كازانتزاكيس ، زوربا اليوناني ، بغداد ، منشورات الجمل ، 2009.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.