مت قبل أن تموت.

مقولة شائعة لدى الصوفية وأصحاب المذاهب الروحانية، ليس المقصود بها الموت الجسدي، وإنما التحرر من المادة وممَّا هو مثيرٌ للألم النفسي، والعيش في صفاء روحاني، متصلًا بذاتك المجردة، الخالية من تأثير الأحاسيس التي اكتسبتها من الدنيا، ومن ثم متصلًا بالله لدى أصحاب الديانات السماوية، أو المثال الأعلى أو الخير المطلق لدى أصحاب العقائد الأخرى.

وما نرصده أو نود إثباته هو أن الوصول لهذه الحالة لا يتم أيضًا إلا بمساعدة المادة، أو بممارسات حسية جسدية ملموسة؛ فالمسألة ليست مجرد تأمل روحي أو وَجْد يأتي من فراغ.

صحيح أن بعض هذه الممارسات الحسية هدفها الهيام في عالم الروح والتخلص من المادة، ولكن الوصول لهذا العالم يجب أن يمر من خلال المادة؛ فالتخلص من الشهوة الحسية لا يأتي إلا بممارسات حسية تقهر هذه الشهوة، لينفتح الطريق إلى الروح.

إذا ما اخترنا المدرسة الصوفية الإسلامية كنموذج روحاني لإثبات تلك الفرضية، فسنجد أن أهم هذه الممارسات الحسية التي تمس الجسد تتعلق بـ«الطعام والشراب، الجنس، الكلام، الخلوة، الحركة».

وفيما يلي نتناول هذه الممارسات المادية، ونبين كيف تساهم في خلق الروحانية التي تصل بالصوفي إلى أعلى مرتبة وهي الاتحاد بالذات الإلهية والفناء فيها، ليصبح الصوفي متكلمًا بلسان الله، وباطشًا بيده، وسامعًا بسمعه وبصيرًا ببصره، مصداقًا للحديث القدسي الذي رواه البخاري:

… وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.

الجوع والقهوة في خدمة الروح

الشخص الجائع، وخاصة الذي اعتاد الجوع، يكون نحيل الجسد، قليل الطاقة البدنية، حركته هادئة، كلامه قليل، وصوته خفيض، ولكن عقله يمتلئ بالخواطر، في حالة تشبه حالة المريض المحروم من الطعام.

وأثبتت دراسة نشرت في دورية «بلوس وان» المتخصصة في العلوم أن الجائع لديه قدرة أكبر من الشبعان على اتخاذ القرارات الاستراتيجية بعيدة المدى، وليست لديه ميول إلى المخاطرة والاندفاع المتهور، أي أن هناك تحسنًا من نوع ما يطرأ على وظائف عقله.

وإذا طبقنا ذلك على كثير من الصوفية الزاهدين، فسنكتشف أنه أحد أسباب الهدوء الذي يتلبسهم، والحكمة التي تتجلى في مؤلفاتهم وأشعارهم.

ومذهب الكثير من الصوفية هو الجوع وترك الطعام قدر المستطاع، والصيام المبالغ فيه. ويرى ابن عربي في «الفتوحات المكية» أن الهدف من الصيام مقاومة النفس لتسلط القوى البهيمية عليها، أو إزالة عدوانها.

وبدافع نحو التخلص من الشهوة والزهد في الدنيا، كان من الصوفية من يصوم الدهر ولا يفطر إلا في العيدين وأيام التشريق، حسبما جاء في «معجم البلدان» لياقوت الحموي. وسُمع الصوفي شعيب بن حرب يقول: أكلت في عشرة أيام أكلة (واحدة فقط) وشربت شربة (واحدة فقط)، حسبما جاء في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي.

وينقل الدكتور زكي مبارك عن الصوفي الشهير مالك بن دينار قوله: «وددت أن رزقي حصاة أمُصُّها؛ فقد ضجرت من كثرة تردادي إلى الخلاء». وباع ابن دينار جارية فزارته يومًا، فقال: كيف ترين مواليك؟ (يقصد من باعها لهم) فقالت: ما أكثر خير بيوتهم! فقال: أخبرتِنِي عن عمران حشوشهم!

ربما كان في هذه الحكايات مبالغات من الرواة، ولكن تواترها وشيوعها يؤكد أن الاتجاه نحو الزهد في الطعام هو مسلك صوفي بامتياز.

وعلى صعيد متصل بشهوة البطن، كان الصوفية يفضلون شرب القهوة، بل كانت طقسًا صوفيًّا، حتى شاع القول بأنها «شراب أهل الله» لما لها من دور في تنشيط العقل، والتقليل من النوم، بل لها دور في سد الجوع، حسبما أثبت العديد من الدراسات، ما يساعد الصوفي على التفرغ لعباداته ومجاهداته الروحية ليلًا، حسبما جاء في دراسة الدكتور ناصر إبراهيم «آداب وطقوس شرب القهوة في القاهرة العثمانية».

والخلاصة في هذا الجانب أن شهوة البطن حين تكون معطلة عن القرب من الله يزهدها الصوفية، وحين تكون محفزة لهذا القرب يعشقونها.

الحرمان الجنسي طريق إلى الله

الحرمان من الجنس وعدم الزواج عند بعضهم مسألة تجعل عواطف الصوفي -الملتهبة بطبعها- تبحث عن متنفس لها، فتتفرغ في اتجاه الحب الإلهي، وتظهر للناس في صورة أشعار أو أدعية أو خلافه مليئة بالرومانسية الدينية؛ ففي ظل عدم الانشغال العاطفي بشريك جنسي، لا تجد طاقة الحب لدى الصوفي مسارًا تمشي فيه إلا الله.

وكثيرون من الصوفية حرموا أنفسهم من ممارسة الجنس والزواج، ومنهم رابعة العدوية التي ورد عنها حكاية كاشفة لطبيعة هذا السلوك عندها، وجاء في كتاب «مشكاة الأنوار» لأبي حامد الغزالي، أن الصوفي الشهير الحسن البصري طلب الزواج من رابعة، فرفضت معتبرة أن الانشغال بــ«غم الغيبيات» يشغلها عن التزويج.

والقهر الجنسي من ممارسات الطريقة القلندرية، ومن قادتها جمال الدين ساوي الذي كان يقيم في دمياط بين المقابر، واشتهر بحلق شعر لحيته وحاجبيه، بعد أن استدرجته سيدة إلى بيتها ليمارس الجنس معها، واصطنعت حيلة لذلك.

وبعد أن أغلقت باب بيتها عليه، اصطنع هو أيضًا حيلة للهرب منها، فدخل الخلاء في منزلها وحلق حاجبيه ولحيته بالموس ليشوه شكله، فنجحت حيلته واشمأزت منه السيدة وتركته، ومن بعدها صار يعيش بهذا الشكل في المقابر وصار جسده كالجيفة، حتى لا يفتتن بالدنيا أو يفتتن به أحد، حسبما يحكي ابن بطوطة في رحلته.

ومن ذلك أيضًا ممارسات الطريقة الحيدرية، التي تأسست على أفكار قطب الدين حيدر (توفي في 1200م) الذي عاش أغلب حياته في البرية والمناطق المنعزلة، وكان لباسه من أوراق الأشجار وما شابهها، كما اعتاد غمر نفسه في الماء المثلج خلال فصل الشتاء، والمشي على النيران في الصيف من أجل قهر رغباته الجسدية، بحسب ما نقل الباحث الباكستاني شاهزاد بشير في دراسته «التقاليد الإسلامية والتبتل – Islamic Tradition and Celibacy».

ويوضح شاهزاد أن بعض أتباع حيدر ثقبوا أعضاءهم التناسلية بحلقات حديدية، ليمنعوا أنفسهم من ممارسة الجنس، كما جعلت الطريقة البكتاشية (تأسست في تركيا) الرهبانية شرطًا للترقي والوصول لدرجات كبرى داخلها، حسبما يوضح بشير.

الخلوة تقود إلى الصفاء

الخلوة، وهي الانعزال بالجسد عن العالم، ممارسة تمنع التشويش الفكري والمادي عن ذهن الصوفي فيركز أكثر في طقوسه، ولأجل ذلك كان بعضهم يسكن الجبال والبراري والمقابر، وتطور الأمر وأصبحت هناك تكايا وخنقاوات مخصصة لهذه الخلوات.

ومن الشائع والمثبت علميًّا أن الوحدة الاختيارية، خاصة لمن يتقنها ويتدرب عليها، تعطي فرصة للتحرر من قيود المجتمع ورقابة البشر، ما يعطي فرصة أكبر للتأمل والقدرة على التفكير بشكل أعمق، واكتساب ثقة أكبر في النفس.

وأفرد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» بابًا بعنوان «آداب العزلة» تحدث فيه عن فوائد الخلوة، وأهمها تحصيل الطاعات والمواظبة على العبادة والفكر، والتخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة، كالرياء والغيبة، وتنقية الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي ينتجها جلساء السوء.

وكذلك التخلص من النظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها، وطمع الصوفي في الناس وطمع الناس فيه، وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة، والتأذي بسوء خُلُق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته.

وينقل الغزالي حكاية عمَّن وصفه برجل صالح، حيث يحكي هذا الرجل أنه كان يمشي بين الجبال في الشام، فقابل شخصًا، وحين رآه هذا الشخص اختبأ وراء جذع شجرة، فسأله الرجل الصالح عن سبب إخفاء وجهه عنه، فقال له إنه اختار هذه الوحدة وأقام بين الجبال لسنوات طويلة ليعلم قلبه الصبر، وبعد وقت حببه الله في الوحدة، وسكن قلبه وزال اضطرابه.

وحين رأى هذا الشيخ المعتزل الرجل الذي نقل عنه الغزالي الحكاية، خاف أن يعود إلى سالف عهده، ولذلك قال له: إليك عني فإني أعوذ من شركٍ برب العارفين وحبيب القانتين.

فكان رد الرجل الصالح ناقل الحكاية: سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان، وجمع همهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته.

التكرار يقوِّي الجهاز العصبي

الصوفي يشتهر بأنه مطمئن، قليل الكلام، كثير الذكر لله، مصداقًا للآية القرآنية: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب». وللصوفي أذكار تقرأ بشكل دوري على مدى اليوم والليلة، تسمى بـ «الورد»، إضافة إلى أوراد وأحزاب خاصة بأوقات معينة، وهي أضعاف مضاعفة لما يردده المتدين المسلم العادي من ذكر لله، وصلاة على رسوله.

وغالبًا يردد الصوفي الجملة الواحدة مئات المرات خلال الورد، ومن ذلك أوراد أبي الحسن الشاذلي، وأوراد السيد البدوي ومنها قوله «سبحان الله وبحمده» ألف مرة، بجانب أذكار أخرى كثيرة تردد مئات المرات. ونفس الأمر نلحظه في أوراد أخرى لمتصوفة آخرين.

وتوصلت دراسات حديثة لباحثين في علم الأعصاب إلى أن ترديد ألفاظ محددة لمرات كثيرة وبشكل دوري له أثر كبير على القشرة المخية والجهاز العصبي، حيث يساهم ذلك في صد أي خواطر عن العقل غير التي يريد أن ينشغل بها الإنسان، فيركز العقل في اللحظة وفيما يريده فقط، زاهدًا فيما سيأتي ناسيًا ما قد مضى، فيصير هادئًا، متزنًا، صافيًا، غير متأثر بأي عقد نفسية.

ما توصلت إليه الدراسات العصبية ينطبق بشدة على ذكر الله والصلاة على النبي التي برع فيها الصوفية، ويتلاقى مع ما يقوله الغزالي عن العبد المنقطع للذكر ويردد عبارات مثل «الله، الله…»، أو «سبحان الله، سبحان الله…»:

لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتى تمحى من القلب حروف اللفظ وصورته، وتبقى حقيقة معناه لازمة في القلب، وحاضرة معه، غالبة عليه، بعد أن فرغ عن كل ما سواه، لأن القلب إذا اشتغل بشيء خلا عن غيره.

فكثرة الذكر تجعل ذهن الصوفي مركزًا في حاله مع ربه فقط، دون تشويش، ويتعمق في هذا الحال حتى يصل لأقصى درجات القرب.

الجسد يذكر الله بالرقص

الممارسات الحركية لها دور في الاندماج في الذكر عند الصوفي، حيث تبرمج الجسد على إيقاع حركي تلقائي خاص بهذا الذكر، فيصبح الجسد نفسه وكأنه يمارس الذكر على طريقته، بالتوازي مع اللسان، ما يدفع إلى العروج إلى حالات روحانية عالية؛ فالصوفي يعيش حالته بكامل وعيه وبكامل حسه وروحه، وبكامل عقله وجسده.

ومعروف أن للرقص دورًا في تحفيز العقل على العمل، ودوره في إشعار الراقص بالراحة والسعادة، حسبما أثبتت دراسات علمية، منها التي أجريت بالتعاون بين عالمين من جامعتي سيمون فرازر الكندية، وتكساس الأمريكية.

وفي ذلك يقول ابن الفارض:

إذا لاحَ معنى الحُسنِ في أي صورةٍ … ونَاح مُعَنَّى الحُزن في أَي سورةِ
يشاهُدها فكري بطَرْفِ تخَيُّلي … ويسمَعُها ذِكْري بِمسْمَعِ فطنتي
ويُحضِرُها للنَّفسِ وَهْمي تصوُّرًا … فيحسَبُها في الحسِّ فَهمي نديمتي
فأعجَبُ مِن سُكري بغيرِ مُدامَةٍ … وأطرَبُ في سرِّي ومِنِّيَ طرْبَتي
فيرقُصُ قَلبي وارتِعاشُ مفاصِلي … يُصَفِّقُ كالشادي وروحيَ قَينَتي

نلاحظ في الشعر أن ابن الفارض لم يغفل مفاصل جسده التي تأثرت بما دار في داخله، مثلها مثل قلبه.

ومن الممارسات الحركية الخاصة بذكر الله، التمايل والرقص، وله طرق مختلفة عند الصوفية، ومنها مثلًا الحركات الدائرية عند الطريقة المولوية التابعة للصوفي الشهير جلال الدين الرومي.

ويعتبِر الرومي أن الرقص هو قمة التصوف، أي قمة الفناء في المعشوق، وقال: «إن العشق جعل جسم الأرض يعلو على الأفلاك، فرَقص الجبل وأضحى خفيف الحركة». وقال أيضًا: «أنت ترقص أنت في قلب الإله». كذلك يقول: «انظر بقلبك، وستعرف أن كل ذرات الكون في رقصة عشق أبدية … ستعرف أنها تتلمس العاشقين فتعرفهم». حسبما نرصد في كتابه «مثنوي».

وخلال الرقص المولوي يستشعر الراقص أنه مركز الوجود، ويتخلص من العلائق الدنيوية والارتباطات الحسية التي تمثلها «تنورة الراقص»، والتي يطرحها الراقص بعيدًا عنه بعد اندماجه الشديد في رقصته، كعلامة على التخلص من أحكام الحس.

كذلك نلحظ ذلك مع ما يعرف بـ«التفقير» أمام المنشدين المتصوفة، كياسين التهامي، حيث ينتظم الصوفية في حلقات أو صفوف أمام المنشد الذي يشدو بقصائد عن الحب الإلهي أو النبوي، ويمارسون حركاتهم بين السرعة والبطء وفقًا لإيقاع القصيدة، حتى يدخلوا في حالة وجد عنيف، يظهر في كلمات أو حركات نلحظها عليهم.

نفس الحال نجده في الحضرة داخل المسجد، حيث ينتظم المتصوفة في دوائر، ممسكين بعضهم بأيادي بعض ويمارسون الذكر جماعيًّا، حتى يصلوا إلى الحال المطلوب.

وتحدث محيي الدين ابن عربي في «الفتوحات المكية» وأبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» عن أن هذا الحال قد يصل بالذاكر إلى السقوط أرضًا من فرط الوجد الذي ينتابه مع الحركة، نتيجة الذكر، أو سماع الغناء.