في سبتمبر 2012، كانت شركة الأزياء السويدية H&M تستعد لرعاية جولة حول أمريكا وأوروبا لتمثال بطل دعايتها الأول «ديفيد بيكهام». بالتأكيد نالت الجولة اهتمامًا إعلاميًّا وجماهيريًّا كبيرًا، وقد التقط محبو لاعب مانشستر يونايتد السابق مع تمثاله الفضي مئات الصور.

كانت هذه الجولة تعبيرًا حقيقيًّا عن القيمة التسويقية الهائلة التي يمثلها بيكهام، وقد ارتبطت تلك القيمة به خلال مسيرته الطويلة واستمرت بعد اعتزاله. يرى قطاع لا بأس به من جمهور كرة القدم أن إمكانيات بيكهام كلاعب لا تتناسب مع تلك الشهرة الضخمة التي نالها عبر العمل الإعلاني، بينما يرد عليهم آخرون من جماهيره مستندين على أرقامه الفردية المميزة وبطولاته المتعددة التي حققها، خصوصًا تحت ولاية السير أليكس فيرجسون وكانت سببًا في شهرته. لكن ثمة أمرًا واحدًا يتفق عليه الجميع، وهو أن بيكهام امتلك شعبية وجماهيرية ربما لم يمتلكها أي لاعب إنجليزي آخر!

المثير والمدهش في مسيرة قائد منتخب الأسود هو معرفة أن كل تلك الشعبية كانت في أحد الأيام هي والعدم سواء، بل كانت على النقيض من ذلك، حيث الكراهية والعداء والتهديدات التي نالت حتى من أفراد أسرته. فما هو الذنب الذي اقترفه بيكهام حتى يُلقب عند لحظة معينة بـ«عدو الشعب الأول»؟ وكيف تحوّل هذا العدو ليكون أيقونة لكرة القدم الإنجليزية؟


عيد ميلاده الرابع عشر

كانوا يسألونني: ماذا تود أن تكون عندما تكبر؟ أجيب: لاعب كرة القدم. ليسألوني مرة أخرة: أي وظيفة تحب أن تعمل بها؟ لأجيب ثانيًا: لا أعرف. لا أريد شيئًا سوى الكرة!
تصريح سابق لديفيد بيكهام

نشأ الطفل المولع بكرة القدم بلندن. وكان قد قضي سنواته الأولى وهو يركل الكرة بحديقة «ريدج واي» العامة رفقة أبيه «إدوارد بيكهام»، حيث امتلك إدوارد بعض المعرفة بالتدريب، وكان يأمل في أن يصبح ابنه ذات يوم لاعبًا ليتمكن من تمثيل النادي الذي تشجعه عائلتهم: مانشستر يونايتد.

خاض ديفيد اختبارات الناشئين بأندية نوريتش سيتي وتوتنهام، وتمكن من لفت الانتباه بقوة بقميص السبيرز، وبدا لجميع مدربيه أنهم أمام أحد أهم المواهب الإنجليزية في جيله بعد أن فاز بجائزة أفضل لاعب تحت 15 عامًا، لكن مسيرته ستتغير إلى الأبد في الليلة التي سيكمل فيها عامه الـ14.

لم يحتفل ديفيد بعيد ميلاده هذا ككل الأطفال، ولكن وجد نفسه مرتديًا رابطة عنق حمراء تحمل شعار نادي مانشستر يونايتد، حيث كان أمام موعد استثنائي على العشاء مع أحد أهم الأسماء في عالم كرة القدم؛ إنه أليكس فيرجسون عرّاب الشياطين الحمر وصانع تاريخ اليونايتد. لم يبذل المدرب الأسكتلندي جهدًا يذكر في إقناع بيكهام بالتوقيع لليونايتد، حيث كان اللعب في مسرح الأحلام أمنية الموهوب الصغير الأولى، وكان على استعداد للتضحية في سبيلها بانتقاله من العاصمة الإنجليزية نحو مدينة مانشستر.

لمع نجم بيكهام بقوة في أكاديمية اليونايتد، وشكّل مع زملاء مسيرته «رايان جيجز، بول سكولز، الأخوان نيفل» ما عرف لاحقًا بخريجي مدرسة شباب مانشستر 1992، هؤلاء الذين كانوا نواة الجيل التاريخي الذي حصد الثلاثية التاريخية عام 1999.

على الصعيد الدولي، حصل ديفيد على استدعاء لتمثيل المنتخب الإنجليزي الأول بعد أن أتم عامه الـ 21 سنة 1996، وبات اسمه حاضرًا بصورة أساسية في كل تجمعات كتيبة المدرب «جلين هودل». كان الإنجليز يستعدون لمونديال فرنسا 98، ويعولون بشدة على جيل الشباب الصاعد الذي يمثله «سول كامبل، ستيف ماكمانامان، بول سكولز، مايكل أوين» وبالتأكيد ديفيد بيكهام الذي لم يكن يعرف أن أحد أصعب لحظات مسيرته تنتظره هناك في المدينة التاريخية سانت إتيان.


عشرة أسود شجعان وولد صغير غبي

عنوان صادم، أليس كذلك؟! يعود ذلك العنوان لصحيفة الميرور البريطانية في العدد الصادر يوم 1 يوليو 1998 وبعد سويعات من توديع مونديال فرنسا، وقد قصدت الصحيفة الإشارة بالأسود الشجعان للاعبي إنجلترا، وبالولد الصغير الغبي لديفيد بيكهام.

بدأ الأمر مع ديفيد في الجولة الأخيرة من منافسات المجموعة السادسة، حيث كان على إنجلترا الفوز أمام كولومبيا لضمان التأهل بعد أن حجزت رومانيا المركز الأول. تقدم بالفعل رفاق «ديفيد سيمان» بعد مُضِي ثلث ساعة بتسديدة صاروخية نفذها «دارين أندرتون» من داخل منطقة جزاء المنتخب اللاتيني، لكن كان من الضروري تأمين النتيجة بهدف آخر لتفادي الدخول بحسابات معقدة لو أدرك الكولومبيون التعادل.

جاءت الفرصة عندما تحصلت إنجلترا على ركلة حرة بالقرب من منطقة جزاء الخصم. تقدم الشاب صاحب الـ 23 عامًا ديفيد بيكهام لالتقاط الكرة، واستعد لتنفيذها بعد أن اتخذ كل زملائه مراكزهم. واتجهت كل الأنظار لقدم بيكهام اليمنى. يطلق حكم المباراة صافرته، ولا ينتظر ديفيد للحظة أخرى، ثم يطلق تسديدة بلمسته الساحرة المعهودة لتسكن الكرة شباك كولومبيا في النقطة التي أرادها بيكهام تحديدًا، وها هو ينطلق في فرحة هستيرية.

تأهل الإنجليز. واحتفلت صحافتهم بالأداء والأهداف. ثم بدأ الاستعداد يجري على قدم وساق لمباراة دور الـ 16، حيث شاءت الأقدار أن يتجدد لقاء إنجلترا مع الأرجنتين، وهذه مباراة تحمل طابعًا ثأريًّا للطرف الأوروبي الذي دمر «مارادونا» كبرياءه وكسر أنفه بآخر مباراة رسمية جمعت بينهما قبل ذلك التاريخ، كما لا تغيب الدوافع أبدًا عن الطرف اللاتيني الذي لايزال يذكر الهزيمة أمام الأسطول الإنجليزي في حرب الفوكلاند بالقدر ذاته الذي يذكر به الانتصار في مونديال المكسيك 1986.

نزل بيكهام لأرضية ملعب جوفروا جشار في سانت إتيان ليواجه لاعبه المفضل «سباستيان فيرون»، بعد أن استمع لعشرات الأحاديث التحفيزية من زملائه. كان يدرك أنهم أمام معادلة لا تقبل إلا الفوز، وهذا يفسر ظهوره بأداء جيد منذ دقائق المباراة الأولى، حتى نجح في صناعة هدف إنجلترا الثاني بتمريرة سريعة لزميله أوين الذي توغل بوسط ملعب البيسيليستي قبل أن يسدد بقوة في مرماهم، لكن «زانيتي» لم يسمح بمرور الشوط الأول دون أن يعادل النتيجة، ليخرج المنتخبان إلى غرف الملابس وفي رصيد كل منهما هدفان.

ترقبت الجماهير مع صافرة انطلاق الشوط الثاني، لكن لم يكن أحد يتوقع ماذا سيحدث بعد أقل من دقيقتين فقط، ارتدت كرة من قلب دفاع إنجلترا لتجد طريقها لبيكهام الذي كان على وشك استلامها بوسط الملعب حينما فوجئ بعرقلة عنيفة من الخلف، حيث قام قائد المنتخب اللاتيني آنذاك «دييجو سميوني» بدفعه بشدة مستعينًا بركبته التي ارتطمت بظهر بيكهام.

سقط بيكهام في الحال، كان غاضبًا للغاية من عرقلته بهذا الشكل في مساحة لا تمثل أي خطورة على مرمى الأرجنتين، ولم يشاهد الإنجليزي الحكم الدنماركي فارع الطول «كيم ميلتون» وهو يتحرك نحوهما ويبحث عن الكارت الأصفر بأحد جيوبه، بل قرر ديفيد أن يطلق العنان لغضبه ويقوم بتصرف أهوج سيعكر عليه صفو حياته.

رفع بيكهام قدمه اليمنى من الأرض، وقام بركل سميوني ركلة بسيطة للغاية، لكن الأرجنتيني لم يكن ليفوت فرصة كتلك حتى يتحول من جانٍ إلى ضحية. سقط فورًا وهو ينظر إلى الحكم ويشير بأصابعه نحو بيكهام. ثوانٍ بسيطة، وكان ميلتون يتوجه إلى ديفيد وهو يؤرجح يده إلى أعلى حاملًا الكارت الأحمر.

خرج بيكهام سريعًا من الملعب، وملامحه تقول إنه كان على وشك الانفجار في البكاء. فعل أحمق وحيد في حضوره الدولي الأول كلفه مشاهدة المتبقي من المباراة بمرأب السيارات، وسيكلف فريقه عناء اللعب بعشرة لاعبين أمام منتخب «باتيستوتا».

عمومًا تماسك «سكولز» ورفاقه خلال الشوط الثاني كما الأشواط الإضافية، وحافظوا على التعادل قبل التوجه لركلات الترجيح، لكنهم كانوا أقل حظًّا من الأرجنتين، فأهدر اللاعبان «بول أينس، وديفيد باتي»، ومر لربع النهائي رفاق «أيالا»، وبدأت معاناة بيكهام.

قدمت الصحافة الإنجليزية بيكهام للرأي العام ككبش فداء، ورفضت تحميل أي شخص آخر مسئولية المباراة، بل لم تضع سقفًا في الهجوم عليه، إذ تكشف مجلة Thesefootballtimes أن صحيفة «ذا صن» ذهبت أبعد مما ذهبت إليه الميرور في عنوانها، وقامت بوضع صورة بيكهام في منتصف لوحة لعبة رشق الأسهم وطلبت من قرائها صفعه كلما تذكروا الهزيمة المريرة.

كان لهذا التحريض الإعلامي أثره الكبير على الرأي العام الجماهيري؛ فبدأت جوابات التهديد بالقتل تتوالى على منزل بيكهام، بعضها مصحوبًا بطلقات رصاص حقيقية، ثم عُلِقت دُمى ترتدي قميص ديفيد وهي مشنوقة في مداخل بعض الشوارع، وخرجت بالطبع عشرات النكات والأغاني التي تتساءل: هل بيكهام إنسان فعلًا؟ أم ينتمي لفصيلة أقل من البشر؟


البعث

ما أصعب أن تكون عدو الشعب الأول، وما أصعب أن تكون عدو الشعب الأول لأنك قمت بفعل أهوج واحد على ملعب كرة القدم، وما أصعب كل ذلك حينما يكون عمرك 23 عامًا فقط.

جحيم حقيقي كان بيكهام أسيره عبر شهور طويلة، لكنه لم يستسلم. كان من الممكن أن يقدم بيكهام على الاعتزال، أو يغادر إنجلترا في إعارة للدوري الإسباني أو الإيطالي فارًّا بما تبقى من كرامته، لكنه قرر الاستمرار، بل أكسبته الأزمة كما يقول نضجًا ورغبة أكبر في القتال بالملعب.

ثمة أمر في شخصية بيكهام يختبئ خلف وسامته وتصريحاته وقيمته التسويقية، وهو أنه شخص عنيد ولا يستسلم بسهولة. وقد تبدت هذه الصفة بشدة في تعامله مع تلك الأزمة العاصفة.

لم يكتفِ بيكهام بالحفاظ على مركزه أساسيًّا مع اليونايتد بموسم 1998-1999، بل قدم أفضل مواسمه على الإطلاق فرديًّا وجماعيًّا. كان عنصرًا رئيسيًّا في الإنجاز التاريخي الذي حققته كتيبة فيرجسون بالفوز بالثلاثية: الدوري، الكأس، الشامبيونزليج. كما حصد ديفيد في الموسم نفسه على عدد من الجوائز والألقاب، أهمها بالطبع لقب أفضل لاعب بدوري الأبطال، والمركز الثاني بجائزة الفيفا لأفضل لاعب بالعالم، ووصافة البالون دور بعد الظاهرة «رونالدو».

في قرارة نفسه كان بيكهام يعلم أن مهمته لما تنتهِ بعد. صحيح أنه تخلص من الحصار الإعلامي والجماهيري الذي كاد يقضي تمامًا على ميسرته، إلا أنه حقق كل تلك الإنجازات بقميص اليونايتد وليس إنجلترا، فهل تأتي له الفرصة لتصحيح الأوضاع؟

في أكتوبر 2001 وعلى ملعب أولد ترافورد، كانت إنجلترا متأخرة بهدفين مقابل هدف واحد أمام اليونان، وهي النتيجة التي ستهبط بالإنجليز إلى المركز الثاني في سباق التأهل لمونديال 2002، ومن ثم ينبغي عليهم حينها اللجوء لمباراة فاصلة مع أوكرانيا.

دخلت المباراة الوقت الحرج، وكان الجمهور واقفًا يعتصره القلق، حتى أتت صافرة حكم المباراة لتمنح فريقهم ركلة حرة على حدود منطقة الجزاء، ومعها تحولت أنظارهم لقدم بيكهام اليمنى مجددًا.كلمات المعلق «جاري بلوم» تصف أجواء مسرح الأحلام في تلك الدقائق.

هل يفعلها بيكهام ويعادل النتيجة؟ هل يسجل ديفيد الآن؟ بيكهااام! جووول! ديفيد يسجل ويرسلنا للمونديال مباشرة! امنحوا هذا الرجل لقب الفروسية الآن.

مدهش جدًّا كيف تحوّل ديفيد من عدو الشعب الأول قبل 1190 يومًا فقط إلى بطل قومي حقيقي، الجمهور الذي توعده بالقتل يومًا ما ها هو يغني له، الإعلام الذي لم يتوانَ عن تحقيره يفرد له صفحات المديح؛ بيكهام غيّر المعادلة بشخصيته القوية وبلمسته الساحرة.

بقي أن نذكر فقط أن القدر منح فرصة إضافية لبيكهام من أجل مواجهة جديدة مع سميوني، كان ذلك بدور مجموعات مونديال كوريا واليابان عام 2002. تحصل الإنجليز على ركلة جزاء، وكان لدييجو أن يشاهد كيف سيطلق ديفيد صاروخية تسكن شباكهم ويحتفل بجنون وكأنه يعلن انتصاره في حرب خاضها لأجل شرفه وكرامته شخصيًّا.