(1)

«لابد أن أخبر محمد حجازي»

يفكر أحد شباب معسكر معهد التربية الرياضية بأبي قير، وهو يمشى ببطء في طرقات المبنى، يرتدي شورت وفانلة حمّالات، يُصفِّر لحن «على بلد المحبوب وديني»، مُنتظرًا أن ينكشف الليل عن السماء ويبدأ نورها الأزرق. بين لحظة وأخرى يرفع عينيه إليها، لا يرى غير لمعان عدد لا يُحصى من النجوم، بالكاد يكشف حدود المساحات الواسعة للملاعب. يُصفِر اللحن مرة أخرى، بإتقان ودقة. تتردد النغمة في الغرف الخالية وترتد إليه ثقيلة، وكلما توقف بسبب تقطع أنفاسه، ينصت إلى حفيف خطواته ويعود إلى اللحن.

لابد أن يُوقظ «حجازي»، ويخبره بما سمعه في «صوت أمريكا»؛ زميله ورفيق الطفولة اللذين جاءا١ معه من بلدتهما واستقرا في الإسكندرية، وفي عزم كل منهما أن يصبح بطلًا أوليمبيًا في السباحة. ورغم أنهما تعلّما السباحة في الترعة، غير أن الآمال العظيمة كانت قريبة من الأصابع في تلك الفترة؛ فترة الشباب والنضال الثوري.

«لابد أن أوقظه».

«حجازي» ينام مع بقية زملائه في غرفة واسعة في الدور الثاني، فرشوا سجاد الأرضيات وناموا منذ ساعات، وقواتنا على أبواب تل أبيب. كيف يمكن أن يوقظه؟ يمشي في الطرقات، يُصفِّر اللحن مُنتظرًا أن يزحف النور على السماء وتهل عليه فكرة تساعده في إيقاظ رفيقه.

(2)

من لحظة أن عرف الخبر، التصقت النغمة بلسانه. لم يتمكن من الجلوس. لو سكت سوف يسحقه الجبل.

في اللحن إحساس عذب يُخفِّف من الصدمة ويُعيد العقل الطائر من تحويمه في ضباب، تَعِب، يريد أن يجلس، لن يتمكن من الجلوس طول عمره. سوف يظل يدور كأنه تحنط في فجر 8 يونيو كأن جبلًا حطّ على كتفه.

غالبه لحن آخر:

شيّلني شيّل يا ولد
على كل كتف أشيل جبل.

حذفه بسرعة وعاد إلى اللحن الأصلي:

على بلد المحبوب وديني.

يصعد السلالم إلى نهاية المبنى وينزل إلى ملعب كرة القدم ويمشي حول التراك. في فجوات الصمت بين اللحن وتعب أنفاسه، يفكر على هذا النحو: «سوف أوقظ حجازي. لكنه لن يتحمل، وإن لم أوقظه سوف تطير كل أبراج عقلي. تطير أبراج عقلي، لكن لن أوقظه، سوف تقضي عليه الصدمة».

يتوقف قليلًا ثم يعود يمشي في التراك، يصعد المدرجات، يُصفِّر اللحن.

(3)

تسلّل القلق إلى المعسكر منذ الصباح. كمية الطائرات التي تسقط من ألسنة المذيعين ذوي الحناجر الرنّانة تفوق احتمال الخيال، ربما لا يمتلك العدو عدد الطائرات التي سقطت، فكّر في سره -صاحبنا الذي يدور الآن بشورت وفانلة حمالات يُصفِّر لحنه- أن ما يسمعه يُشبه فشرة كبيرة. في البداية كان الأمر مجرد خاطر عابر، ثم تشبثت به الفكرة، لا بد أنه نوع من «فشر أبو لمعة»؛ فشّار كبير يحكي عن انتصارات وهمية تشبه لعب الأطفال.

كان «محمد حجازي» أكثر الشباب تحمسًا، هو الذي نظّم المعسكر، وهو همزة الوصل بين الطلاب ورجال الإدارة، هو كل شيء تقريبًا، إنه يعرفه، تربّى معه في البلد ودرسا معًا في الكُتّاب وفي مدرسة المركز.

يعرف ذكاءه ونباهته، وخشي من مبالغته وتصديقه لما يسمعه من إذاعة صوت العرب، ثم خطر له أن حجازي يشعر مثله بالخطر ويتشكك فيما يُذاع –في سره- لكنه يجب أن ينكر، يزايد على نفسه، إنه مضطر، لأنه لو لم يصدق الأخبار التي تنقلها إذاعة صوت العرب، لاهتزت الأرض تحت قدميه وسقط في هوة بلا قرار.

أثناء تمرين السباحة حدثت مشادة بينهما، نبّه –صاحبنا- على رفيقه أن يكون معقولًا في تصوراته، فاتهمه مباشرةً بعدم الوطنية. أحذ أدواته وترك الحمام محاولًا أن يجد له عذرًا، هو الذي يُنظِّم مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي، ودعّم كل الإجراءات بما فيها الاعتقالات والسجن والتعذيب، وعندما أخبره ذات يوم –في العيد الكبير في البلد- بأنه يكتب تقارير في زملائه، لم ينكر وقال بصراحة:

نحمي ثورتنا.

(4)

ترك –صاحبنا- في المساء، زملاءه ساهرين في جلسة سمر وراح يتجول وحده، أخذ الترانستور وابتعد عنهم وراح يمشي في ملعب كرة القدم المفتوح. وفوق المدرجات الإسمنتية، جلس وحده، وراح يبحث عن محطة بعيدة مشوّشة. عرف الخبر من محطة لندن، لم يصدق. بحث عن محطة أخرى، وصله «صوت أمريكا»، وهناك سمع وتأكد. تحدث المذيع بنبرة رنانة، ترتد من جدران لامعة، تعطي صوته رنين الإعلان عن المصائر الفادحة، عن أن مصر وافقت على وقف إطلاق النار والانسحاب من سيناء إلى الضفة الغربية لقناة السويس.

في تلك اللحظة نظر بذهول إلى الراديو وبحث عن محطة أخرى. أكثر تشوشًا كانت تقول نفس الخبر، تجمّد في مكانه وترك الراديو على محطة بعيدة يصل منها وشيش مثل وشيش الحشرات على شاطئ الترعة في الليل، في قلب هذا الوشيش ترددت أصوات بشرية ثم تلاشت وتركت المحطة لتلك الحشرات التي تئز وتصدر وشيشًا لا يتوقف، عندها تراءى له الريّاح الواسع الذي يمر خارج بلدته، ومراكبي يُسيّر قاربه الصغير في الصمت والظلام، ثم سمع من بعيد نغمة خافتة للحن «على بلد المحبوب وديني»، كأنما تجسّدت من هناك، من الهواء والصمت والليل.

(5)

لازال –صاحبنا- يمشي في طرقات المعهد يُصفِّر اللحن. سمع بكاء يأتي من غرفة جانبية، عرف أن زميلًا آخر قد عرف الخبر، البكاء الخافت المتلاشي في الظلمة حّرر بكاءه. توقف اللحن، ثم ضاع. كأن البكاء بكاؤه، ولكنه يصدر عن شخص آخر. وصل إلى المكان. فرد من أفراد المعسكر يرقد على سرير سفري في ركن غرفة خالية، تحتلها أسرّة بدورين، ويغطي رأسه بالمخدة، اقترب منه وارتفع صوت بكائهما.

لا يدري ما مر من وقت في ذلك البكاء الذي يشبه النشيج، ثم بالتدريج تلاشى البكاء مثلما تلاشى اللحن وفي صمتهما أدركا أن عليهما أن يوقظا النائمين.

(6)

بدأ نور الفجر يدخل من النوافذ؛ نور أزرق شفاف على أجساد نائمة. وصاحبنا يجلس بجوار «محمد حجازي» لا يتمكن من حسم أمره. كيف يمكن أن يُخبره؟ يجلس على حافة نوم النائمين مثل حارس يحمل الحقيقة ويخاف من إبلاغها.

بدأ يوقظ صديقه، فزعق فيه أن يتركه لينام، فقال بحسم: «اصح».

فردّ صاحبه: «بطّل رخامة واتركني أنام».

تردد صوت من نهاية الغرفة: «ماذا حدث؟».

قال صاحبنا بحسم: «اصحوا».

تطلّع «محمد حجازي» من جوف النوم بعينين محمرتين: «ماذا حدث؟».

فردّ صاحبنا: «اصحى يا أخي».

جلس أحد النائمين وسأل بجدية: «ماذا حدث؟».

صمت الغرفة يُخشخش مثل صوت محطة الراديو المشوَّشة. نور الفجر أزرق شديد الزرقة كأنه ضوء فانوس أزرق. بدأ نشيج رد عليه نشيج آخر وصرخة صغيرة مكتومة ثم بكاء، نشيج متموج لا تعرف من صاحبه، يصدر عن كتلة بشرية من رؤوس مدفونة في الأزرع، والشعر الأسود مثل بقع داكنة متفرقة في الضوء الأزرق للفجر، جوقة واحدة لا يمكن تميز من يقود النغمة.

الوحيد الذي لم يبكِ هو «محمد حجازي». وقف مثل الصاري في قلب الحجرة، عيناه جاحظتان، يُتمتم بشيء غير مسموع.

لا أحد يعرف كيف انتهى البكاء، كيف تلاشى، وكيف تبدّد كل شيء. لم يعد أحد يشعر بأحد. قام أحدهم إلى حقيبته وهو يبكي واستمر «محمد حجازي» واقفًا. بعد قليل اختفى. كيف خرج؟ ومتى؟ الذاكرة المشوشة لكل منهم لا يمكنها تجميع شيء. كأن الروابط بينهم قد ذابت. كل منهم لم يكن قادرًا على النظر في وجه زميله، وبعد ساعة تقريبًا، أصبح معهد التربية الرياضية خاليًا من أنفاس طلاب المعسكر.

خرجوا في صمت هذا الصباح الرطب من شهر يونيو، كأنهم قد لبسوا طاقية الإخفاء، وانفرطوا في فضاء الصباح الأبيض، كل منهم وحيدًا في طريقه.

(7)

«صاحبنا» تخرّج من المعهد في العام التالي وأصبح ضابط احتياط في الجيش، وحارب حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973. حسّه الواقعي حرّره من الوهم وأدمت قلبه عبثية الدم المُهدر في الصحراء، بسبب أخطاء القوى الغامضة التي تتحكم في مصائر الناس. في الحقيقة لم يعد نفس الشخص.

أمّا «محمد حجازي» فقد أصيب بانهيار عصبي وعالجه أهله في مستشفى الأمراض العقلية، وعندما عاد –صاحبنا- إلى البلد، في إجازة من إجازات سنوات الحرب الطويلة، رآه يجلس في مقهى تتشكل جدرانه وسقفه من أعواد البوص بجانب موقف السيارات، بالجلباب الفلاحي، يدخن الجوزة ويبتسم ببلاهة.

تغيّر صديقه بالكامل عن الشخص الذي كان قبل فجر 8 يونيو، ترسّخ في ذهن «صاحبنا» اعتقاد بأنهم قد وُلدوا مرة أخرى في هذا الصباح، أصبحوا أشخاصًا آخرين، لقد مات منْ كانوا في المعسكر ووُلد مكانهم أشخاصٌ آخرون، كل واحد لم يعد يمتْ للآخر، انفصل كل منهم عن باقي الجسد، وأصبح خلية مستقلة بعد أن كان -مع باقي زملائه- جسدًا هائلًا مليئًا بالطاقة قبل ذلك الفجر.