نحنُ الآن في عام 491هـ الموافق لعام 1098م. والمكان هو مدينة أنطاكية، في أقصى شمال غربي الشام، والتي كانت  آنذاك من أبرز الحواضر الكبرى في المنطقة، وليس تلك المدينة الصغيرة في العصر الحديث والتي يقطنها ما يقارب 200 ألف نسمة. 

في ذلك الوقت البعيد قبل ما يقارب 9 قرونٍ ونصف، انسال الصليبيون المتعطشون للدماء وللغنيمة كالطوفان في شوارع المدينة المنهكة بعد حصارٍ شديد استمرَّ أكثر من 9 أشهر وأعملوا آلة القتل والنهب بالطاقة القصوى، فاحتقنت شوارع المدينة بدماء أكثر من مائة ألف من سكانها الأبرياء، والذين أخذتهم الخيانة على حين غرة، عندما نجح الصليبييون في التواصل مع أحد جنود حامية المدينة من المسيحيين، والذي فتح لهم غدرًا إحدى بوابات المدينة، فكان ما كان، وكان من بين القتلى والي أنطاكية التركي ياغي سيان، وهكذا قامت إمارة أنطاكية الصليبية.، والتي في أقصى امتداداتها سيطرت جنوبًا حتى طرابلس اللبنانية، وشرقًا حتى ضواحي مدينة حلب، الحاضرة الإسلامية الأبرز شماليْ الشام.

صراع مفتوح وانقلابات كبرى

على مدار القرنين 12 و 13 الميلاديين (السادس والسابع الهجريين) كان الشام ساحة للحرب بين قادة المقاومة من المسلمين على اختلاف مشاربهم، والصليبيين الذين نجحوا تباعًا في الاستيلاء على معظم الساحل الشامي وفلسطين، وإقامة 4 إمارات صليبية كان أهمها مملكة بيت المقدس. وقد بدأ الميزان تدريجيًا يميل إلى صالح المسلمين منذ عهد القائد العسكري الشهير عماد الدين زنكي أمير الموصل وحلب، والذي قضى على أول إمارة صليبية، وهي إمارة الرُّها جنوب تركيا الحالية، عام 539هـ/1144م، ثم ابنه الفذ نور الدين محمود بن زنكي ملك حلب، والذي انتصر على الصليبيين في مواقع عديدة، من أشهرها موقعة حارم عام 559هـ/1164م والتي أُسِر فيها أميريْ أنطاكية وطرابلس الصليبييْن. وقد نجح للمرة الأولى منذ عقودٍ طويلة في ضم دمشق ومصر معًا تحت سلطان دولة إسلامية موحدة تحيط بالمناطق الصليبية كفكيّ الكماشة.

ورث القائد الشهير صلاح الدين الأيوبي دولة نور الدين محمود، ونجح في إلحاق أول هزيمة عسكرية كبرى بالصليبيين في موقعة حطين الفاصلة 583هـ/1187م، وانتزع بعدها القدس من الصليبيين، وأجزاء من الساحل الشامي، ما لبث أن خسر بعضها في الهجوم المضاد الذي قامت به الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد. 

في العقود التالية، انشغل خلفاء صلاح الدين الأيوبيون بصراعاتهم البينية على السلطة في مصر والشام، مما منح الإمارات الصليبية الثلاثة الباقية (أنطاكية في الشمال، وطرابلس في لبنان الحالية، والقدس التي انتقلت إلى عكا الساحلية بفلسطين) والتي تقلَّصت أراضيها كثيرًا بعد الفتوحات الإسلامية المتعاقبة، فرصة كبيرة لالتقاط الأنفاس، وكذلك المشاركة في الجهود الأوروبية الصليبية في إرسال حملاتٍ جديدة إلى المشرق، كان من أبرزها الحملتان الخامسة والسابعة اللتان فشلتا في احتلال مصر، والحملة الصليبية السادسة التي نجحت في استرداد القدس لمدة أكثر من 15 عامًا بعد اتفاقٍ سياسي مشبوه وغريب مع ملك مصر الكامل الأيوبي عام 626هـ/ 1229م والذي كان مهجوسًا أكثر بالصراعات مع أبناء عمومته الأيوبيين، وكذلك بالخطر المغولي الذي دهم المشرق ووصل آنذاك إلى أطراف العراق.

اقرأ: القدس مقابل دمياط .. كامب ديفيد القرن السابع الهجري

ثم شهد عام 642هـ/1144م، معركة فاصلة كبرى للمرة الأولى منذ حطين، هي موقعة لا فوربي وتسمى في المصادر العربية موقعة غزة، حيث وقعت جنوب فلسطين قرب مدينة غزَّة، بين الصليبيين وعلى رأسهم فرسان الهيكل المشهورة، متحالفين مع بعض الأمراء الأيوبيين، ضد جيش ملك مصر الأيوبي نجم الدين أيوب بن الكامل، والذي كان يضم النواة الأولى لفرسان المماليك، وانضم إليه كذلك الآلاف من الفرسان الخوارزميين المشهورين بالغلظة والشراسة، وكانوا من فلول دولة خوازرم المسلمة في آسيا والتي دمرَّها الغزو المغولي. أسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة للتحالف الصليبي، اعتبرها بعض المصادر الأوروبية أكبر كارثية من حطين نفسها، واستردّ المسلمون القدس مرة ثانية، وانكفأ الصليبيون أكثر إلى ما بقي من قلاعهم ومدنهم الساحلية في الشام، بينما صعد نجم المماليك تدريجيًا في مصر ووصلوا إلى سدة الحكم فيها.

بعد سنواتٍ قليلة، تجدَّد الخطر المغولي على الشرق في عهد الخان المغولي هولاكو، والذي دمَّرت جيوشه عاصمة الخلافة العباسية بغداد عام 656هـ/1258م، ثم احتلت في العامين التاليين معظم مناطق الشام الإسلامية، وأصبحت القوات المغولية على حدود مصر الشرقية، لتحدث عام 658هـ/1260م موقعة عين جالوت الشهيرة الفاصلة في فلسطين، والتي ألحق فيها جيش المماليك وحلفائهم هزيمة ساحقة بالجيش المغولي، ثم انتزعوا الشام من المغول، وأبعدوهم شرقًا إلى العراق.

 وفي نفس ذلك العام وصل إلى عرش مصر الظاهر ركن الدين بيبرس المملوكي بعد أن انقلابه الشهير على المظفَّر قطز وقتله، وينشغل بيبرس في شهوره الأولى ببعض المسائل الداخلية، مثل تمرد أمير الشام المملوكي سنجر الحلبي، وإعلانه نفسه سلطانًا في دمشق، حيث دبَّر بيبرس ضده انقلابًا عبر أنصاره في دمشق، فاستسلم سنجر عام 659هـ/1261م، وأحكم بيبرس سيطرته على الشام باستثناء المواقع الساحلية الصليبية. وهكذا كانت البداية الحقيقية لعصر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، والذي كان من أقوى عصور السياسة والحرب والإدارة في تاريخ مصر والشام على الإطلاق، وما لبثَ بيبرس أن عزَّز شرعية حكمه بإعادة إحياء الخلافة العباسية اسميًا من القاهرة.

الطريق إلى فتح أنطاكية 

 وأنطاكية مدينة عظيمة مشهورة، مسافة سورها اثنا عشر ميلًا، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجًا، وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفًا ..
ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» متحدثًا عن أهمية مدينة أنطاكية عندما فتحها المماليك

يحفل تاريخ الأمة الإسلامية بكثير من المعارك الفاصلة، والملاحم العسكرية البارزة، وقد حظي شهر رمضان المعظم بالعشرات من تلك الحروب الحاسمة، وصبغها برمزيةٍ خاصة، تتناسب مع خصوصية شهر الصيام، وما يتجسّد فيه من معاني الصبر والتحمل والكفاح. وكذلك البركة.

سنعود هنا 777 عامًا هجريًا إلى الوراء، إلى شهر رمضان من عام 666هـ، عندما وطأت جيوش دولة المماليك الإسلامية أرض أنطاكية حاضرة شماليّ الشام، وعاصمة إمارة أنطاكية الصليبية، ثانية أقوى وأهم الممالك الصليبية في الشام والتي دام الاحتلال الصليبي لها ما يقارب 175 عامًا.

 وقد دفع الجيل المتأخر من الصليبيين ثمنًا باهظًا للغاية مقابل ما ارتكبه أجداد أجدادهم من احتلال ومذابح في الحملات الصليبية الأولى، فقد اتسَّمت الحروب التي شنّها المماليك ضد المواقع الصليبية الباقية في الشام بقدرٍ كبير من العنف والحسم، وكان هدفها ليس مجرد الحصول على قدرٍ وافر من الغنائم، أو إيثار السلامة وتقليل الخسائر ووقت المعركة بقبول طلبات الصلح ودفع الجزية من الصليبيين بشكلٍ فوري، إنما كان الغرض البارز هو التنكيل الانتقامي بالصليبيين واستئصال وجودهم في الشام. 

من أبرز أمثلة هذا الحسم العنيف ضد الصليبيين، ما فعله الظاهر بيبرس عام 664هـ/1266م عندما حاصر قلعة صفد الصليبية الحصينة شماليّ فلسطين، والتي كانت معقلًا للمئات من فرسان الصليبيين من الاسبتارية وسواهم، وكانوا يتخذونها مُنطلقًا للإغارة على المناطق الإسلامية، فأراد بيبرس استئصال حاميتها، فلما أوشكت القلعة على السقوط تحت ضربات المجانيق المملوكية، والهجمات المتكررة ضد أسوارها، طلبت حاميتها التفاوض من أجل الاستسلام مقابل الأمان، فأجلس بيبرس مكانه على الكرسي أميرًا مملوكيًا يشبهه في الشكل، وحلف للصليبيين على الأمان على أنه بيبرس، فلما خرجوا من القلعة، أمر بقتلهم جميعًا، واستصفاء أموالهم، وسبي النساء والأطفال. 

وفي نفس العام اجتاح جيش الظاهر حصن قارة في الشام، والذي كان قاعدة للإغارة على قرى الشام القريبة ونهبها، ودمَّره، وقتل كافة الصليبيين الذين كانوا موجودين فيه، وحوَّل كنيسته إلى جامع. 

اقرأ: نيرون مصر الذي كافأه صلاح الدين بما يستحق

فتح أنطاكية: العين بالعين

كان أمامَ الظاهر بيبرس تحدٍّ عسكري كبير يتمثل في استمرار الخطر المغولي ماثلًا، لا سيَّما ضد الشام، المحصور بين مطرقة المناطق الخاضعة للمغول شرقًا لا سيَّما العراق، والمناطق الساحلية الخاضعة لسيطرة الصليبيين غربًا، وما يمثله أي تحالف مغولي-صليبي من خطورة تكتيكية وإستراتيجية هائلة. ولذا فقد اتجه بيبرس ومن معه من القادة المماليك إلى حسم ملف الوجود الصليبي في الشام، فاتحين صفحةٍ قوية من الصراع المملوكي – الصليبي استمرَّت زهاء ثلاثة عقود انتهت بتحرير عكا عام 690هـ/1291م آخر معاقل الصليبيين في الشام. 

وقد كان اقتحام أنطاكية وتحريرها في رمضان 666هـ/1268م هو أول الفتوحات المملوكية الكبرى ضد القواعد الصليبية الرئيسة في الشام، وكان سبب اعتبار بيبرس لفتح أنطاكية أولوية، هو تحالفها الوثيق مع دولة مغول فارس الإيلخانية، التي كانت آنذاك أقوى أعداء الدولة المملوكية، والتي لم تكف في شن الغارات ضد الشام منذ عين جالوت، في عهد الخان هولاكو، وابنه أبغا خان.

يذكر الملك المؤيد أبو الفداء في كتابه «المختصر في أخبار البشر» أن الظاهر بيبرس خرج بجيشه الكبير في شهر جمادي الآخرة من عام 666هـ / مارس 1268م، فتوجَّه أولًا إلى يافا في ساحل فلسطين جنوبي الشام، ونجح في فتحها بعد أيام في منتصف شهر جمادى الآخرة. كان المتوقع آنذاك أن يكمل بيبرس غزوته باستهداف المناطق القريبة من يافا وعلى رأسها عكَّا، أو طرابلس اللبنانية .. إلخ، لكن بعد شهرين، فوجئ الصليبيون بجيش الظاهر بيبرس في أول أيام شهر رمضان من عام 666هـ /يونيو 1268م أمام أسوار أنطاكية الحصينة في أقصى شماليْ الساحل الشامي.

 لم يكن المدافعون عن المدينة قد استعدُّوا جيدًا لمثل هذا الغزو الكاسح، وكان أمير أنطاكية البرنس بيمند بن بيمند أثناء أيام الحصار لا يزال مقيمًا في مدينة طرابلس على بعد مئات الكيلومترات إلى الجنوب من أنطاكية لا يستطيع إنجادها قبل أيامٍ طويلة. حاولت حامية أنطاكية التفاوض مع الظاهر بيبرس على أي شروط للاستسلام، لكنه رفض تمامًا، حيث رأى أنه قادر على حسم المعركة عسكريًا، والتنكيل بصليبيّي أنطاكية كما يشاء. 

قسَّم بيبرس جيشه إلى ثلاثة أقسام، قطع أولاها اتصال أنطاكية بالبحر، وأغلق الثاني طريق الإمدادات الشمالية الذي قد يصل إلى أنطاكية من دويلة أرمينيا الصغرى جنوبي تركيا الحالية والتي كانت من أهم أعداء دولة المماليك آنذاك، أما القسم الثالث، فهو الذي نازل أسوار وحصون أنطاكية، وأمطرها بالقذائف وموجات الهجوم المتوالية. 

بعد أربعة أيام من المعارك، تمكَّنت القوات الإسلامية من اقتحام أنطاكية بالقوة، وأعملت القتل والنهب في الصليبيين، فقُتل عشرات الآلاف من رجال الصليبيين، وسُبيَ نساؤهم وأطفالهم، وكانت الغنائم لا تعد ولا تحصى، حتى كان جنود الجيش المسلم يتقاسمون أموال الغنائم بالطاسات. وبعد أيامٍ قليلة فرَّ الصليبيون من حصن بغراس القريب من أنطاكية، فاستولى عليه جيش المماليك، وحصَّنوه جيدًا لتأمين أنطاكية، وطلب ملك أرمينية الصغرى الصلح تجنبًا لمصيرٍ مثل مصير أنطاكية.