دخلت الحركة الاحتجاجية التي أطلقتها «السترات الصفراء» في فرنسا أسبوعها الرابع. احتجاجات اندلعت على خلفية قرار الحكومة بزيادة الضرائب على أسعار المحروقات اعتبارًا من شهر يناير/ كانون الأول 2019، انسجامًا مع برنامجها بالانتقال نحو الطاقة البديلة.

ركزت وسائل الإعلام العالمية، والعربية على وجه الخصوص، على مظاهرات مدينة باريس خلال الجولات الاحتجاجية في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، واليوم الأول والثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ولا غرابة في ذلك، حيث تحول الشارع الأعرق والأشهر في المدينة الشانزليزيه إلى ساحة مواجهة بين قوات حفظ الأمن والمتظاهرين. حيث أُتخمت شاشات التلفزة بمشاهد حرق السيارات، وتخريب وسرقة الأملاك العامة.

جانب من مظاهرات السترات الصفراء في الجنوب الفرنسي
معتصمون فرنسيون على أحد المعابر الدولية، الصورة تم التقاطها بواسط كاتب المقال: وسام الناصر

العديد من المراسلين تحدثوا عن حرب تجتاح عاصمة الأنوار. لا تزال الحركة الاحتجاجية تتزايد انتشارًا، ويبدو أن ا لاجراءات الإسعافية التي أعلنها رئيس الحكومة، إدوار فيليب، يوم الثلاثاء 4 ديسمبر/ كانون الأول لم تلق صدىً وقبولًا لدى «السترات الصفراء»، فهم ماضون بالتحضير للجولة الخامسة من المظاهرات يوم السبت المقبل 15 ديسمبر/ كانون الأول.


أصل الحركة الاحتجاجية

انتشرت الدعوات الاحتجاجية الأولى في شبكات التواصل الاجتماعي، فيسبوك تحديدًا، بدءًا من العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2018. حيث ركزت تلك الدعوات على تنظيم احتجاجات هدفها ثني الحكومة عن سياساتها المجحفة بحق المواطنين، معتمدة في ذلك على وسائل ضغط متنوعة كقطع الطرقات وتعطيل حركة السير في المحاور الرئيسية في كل مدينة. ولقد تضامن مع هذه الحركة سائقو السيارات، فوضعوا السترة الصفراء الموجودة داخل كل سيارة أمام السائق. ولم يقتصر الأمر على أصحاب السيارات الصغيرة بل بادر سائقو الشاحنات وبعض المواطنين إلى ذلك كإشارة تضامنية مع الحركة الاحتجاجية. وكما نشر العديد منهم فيديوهات تعكس احتقانهم وسخطهم من سياسات حكومة الرئيس ماكرون.

أسفرت الجولة الأولى من المظاهرات يوم السبت 17 نوفمبر/ تشرين الثاني عما يزيد على 2000 نقطة تجمع على مستوى الدولة، وأحصت السلطات ما يقارب 290 ألف متظاهر اشترك بها.

إذًا، الفكرة الأساسية، أو روح مبادرة «السترات الصفراء» تبلورت حول التظاهر ومحاولة قطع الطرقات على مستوى الجمهورية الفرنسية، حيث تتحرك كل مجموعة وتتظاهر ببلدتها أو مدينتها، وليس حول التركيز على مدينة باريس بشكل حصري. إلا أن انضمام أطراف عديدة لهذه الحركة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومحاولة أحزاب المعارضة استغلال اللحظة الراهنة لتحقيق مكاسب حزبية ضيّقة، بالإضافة إلى غياب قيادة تمثيلية لـ«السترات الصفراء»؛ كلها أسباب أدت لتبعثر الآراء، وتعدد المبادرات والمطالب والتحركات. وإن كنا نستطيع اليوم التمييز بين شكلين بارزين للاحتجاج ضمن تحركات «السترات الصفراء»، الأول: هو الاعتصامات الدائمة على الطرقات والمحاور الرئيسية، والثاني: يتمثل بجولات التظاهر في يوم السبت؛ إلا أن الحركة الاحتجاجية تتطور وتستوعب يوميًا أطرافًا وقوىً جديدة. حيث بدأ طلاب المدارس بالتظاهر وإعلان دعمهم للحركة، وكذلك العديد من النقابات على رأسها نقابات الفلاحين والسائقين.


الاعتصام في الطرقات العامة: مظاهر احتفالية متنوعة

من هم هؤلاء المواطنون الفرنسيون الذين لبسوا الستر الصفراء وقرروا الاعتصام في الساحات للاحتجاج على سياسات حكومتهم، بالرغم من برد الشتاء القارس؟ كيف ينظم هؤلاء المواطنون أنفسهم حتى استطاعوا الصمود والاستمرار في الاعتصام على امتداد ما يقارب ثلاثة أسابيع؟ ما دوافعهم ومطالبهم الأساسية؟ وفي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات، اخترت التعرّف على المحتجين عن قرب من خلال الانضمام إليهم، حيث لبست سترتي الصفراء وانطلقتُ باتجاه إحدى النقاط التي يعتصمون بها منذ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني. تقع هذه النقطة على الطريق الدولي رقم (A8) في أحد المعابر المدفوعة قرب بلدة صغيرة تدعى لابارك (La Barque)، والتي سمّي المعبر باسمها. يقع هذا المعبر على بعد حوالي 35 كم من مدينة مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وبمسافة تزيد على 700 كم عن مدينة باريس. ما إن وصلتُ إلى المعبر حتى تم الترحيب بي، وعرّفت عن نفسي كباحث مهتم بالكتابة عن السترات الصفراء ومناصر للحركة الاحتجاجية وداعم لها.

حوّل المعتصمون المعبر إلى مكان احتفالي شبيه بأسواق عيد الميلاد التقليدية. نصبوا شجرة الميلاد وزينوها بقصاصات ورقية مكتوب عليها نسب ارتفاع الأسعار والضرائب المختلفة. أغلقوا القسم الأكبر من المعبر تاركين مجالًا ضيقًا يتيح عبور سيارتين فقط، مع إبقاء معبر مخصص للطوارئ والحالات الإسعافية. هناك مائدة مفتوحة للجميع صنعوها من الألواح الخشبية التي تستخدم في نقل البضائع، تحتوي على أنواع مختلفة من الأطعمة والمشروبات. تنتشر بعض المقاعد حول براميل مشتعلة تخفف عنهم برد الشتاء. قاموا بمد وصلة كهرباء من أجل شحن هواتفهم النقالة. يزداد صخب المكان بمزامير السيارات العابرة التي يلوح سائقوها للمعتصمين في إشارة واضحة للتضامن وللفرح بالمرور بشكل مجاني. تتواجد سيارة الشرطة بشكل دائم على بعد ما يقارب 200 متر. يقول المعتصمون: «إنهم أصبحوا أصدقاء لنا، يأتون أحيانًا لشرب القهوة معنا، ويتفهمون غضبنا.. منذ أسبوعين لم يقع أي حادث هنا، نحاول الحفاظ على سلامة الجميع، هذه مسؤوليتنا».

جانب من مظاهرات السترات الصفراء في الجنوب الفرنسي
مائدة مفتوحة لجميع المتظاهرين المشاركين. تم التقاط الصورة بواسطة كاتب المقال: وسام الناصر

في ليلة الخميس 29 نوفمبر/ تشرين الثاني قامت الشرطة بإخلاء المكان، بعد أن وصل بعض الشباب الجدد للمعبر وحاولوا إضرام النيران بالألواح الخشبية. عاد المعتصمون سريعًا للمعبر في فجر اليوم التالي.


نقاشات محتدمة بسقوف عالية

يتواجد في المعبر مواطنون من شرائح اجتماعية وعمرية مختلفة دون ألوان سياسية أو نقابية معلنة، رأيتُ متقاعدين تزيد أعمارهم على 60 عامًا، وشبانًا بين 25: 40 عامًا، من أصحاب مهن مختلفة، مستثمرين صغارًا أو عاطلين عن العمل، كما شاهدتُ حضورًا نسائيًا فاعلًا، لكن كان عدد الشبّان دون 18 عامًا قليلًا، ولاحظتُ غيابَ طلاب الجامعات غيابًا شبه كامل حتى اللحظة.

المكان مفعم بالحيوية والنشاط، حلقات نقاشيّة عديدة تُعقد في كل زاوية وركن. المحرك الأساسي لهذه النقاشات هم المتقاعدون، كلٌ يتحدث عن تجربته الحياتيّة وأسباب حضوره للمكان، طارحًا آراءه وتطلعاته من هذا التحرك.

في خضم هذه النقاشات يقارنُ أحد المتقاعدين ما يحصل الآن مع موجة الاحتجاجات التي وقعت عام 1968. برأيه «لم يكن ليتراجع الجنرال ديغول لولا قوة الاحتجاجات وإصرار المتظاهرين.. نعم سقط العشرات من الضحايا في تلك المظاهرات ولكن لا بد من ثمن للتغيير». يتدخلُ رجل آخر مقاطعًا زميله، حاملًا المقارنة إلى مكان أبعد، الثورة الفرنسية عام 1789. يعتبر هذا الأخير أن «خروج الفرنسيين اليوم ليس فقط احتجاجًا عابرًا كرد فعل على رفع ضرائب المحروقات؛ إنما هو نتيجة تراكم سياسات الحكومات المتعاقبة على امتداد ثلاثين عامًا». فالفرنسيون، برأيه، «يتحملون ويسكتون لفترة طويلة ومن ثم يأخذون حقهم من حكامهم دفعة واحدة في نهاية المطاف».

تدخلتُ هنا في النقاش سائلًا: «أنت تقارن هذه الاحتجاجات بالثورة الفرنسية، ألا تعتقد أنك تتسرع قليلًا؟»؛ يقاطع الرجل بثقة وإصرار ويضيف: «هذه ليست حركة بسيطة، إنها احتجاجات على كامل الأراضي الفرنسية، ونحن في طريقنا للقيام بثورة بكل ما تحتويه الكلمة من معنى». يستطرد الرجل في عرض مقاربته بأن «هذه الاحتجاجات يجب أن تعيد السلطة للشعب من خلال حل البرلمان والحكومة وتشكيل ما يشبه برلمان الشعب». يصرّ الرجل بشدة على دور الشعب في استعادة مقاليد السلطة وعلى عدم السماح للأحزاب السياسية أو النقابات بالتدخل واستغلال الموجة الغاضبة.

أسألهُ مجددًا: «ألا تخشى من انحراف مسار «السترات الصفراء» في ضوء ما رأيناه من عنف في مظاهرات باريس؟» يومئ الرجل برأسه موافقًا، ومؤكدًا بنفس الوقت إمكانية ازدياد وتيرة العنف لتصل في بعض الأحيان إلى «حرب أهلية» إذا لم تستجب الحكومة لمطالب الشعب.. «نحن مستمرون بالاعتصام هنا بشكل سلمي وحضاري ولن نذهب إلى باريس للتظاهر، ولكن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة».


الإعلام الفرنسي غير مرحب به

وصلتْ إلى المكان مراسلة القناة الفرنسية الثانية، تهافتَ عليها عدد من المحتجين توبيخًا وتأفّفًا، في مشهد يعكسُ غضب المتظاهرين من عدم تغطية وسائل الإعلام الفرنسية لكامل الاعتصامات في فرنسا، وتركيزها فقط على أعمال الشغب في باريس. يصيح أحد الشبان: «لماذا لا تنقلون الحقيقة؟ لماذا تركزون على باريس وتتجاهلوننا، نحن هنا منذ ثلاثة أسابيع ولم تحدث أي مشكلة». حاوَلَت المراسلة تهدئة المتظاهرين شارحةً لهم أنها هنا للتعرف على مطالبهم كي ينقلوها للحكومة. ازدادَ ضجيج المعتصمين حول المراسلة مستنكرين تواجدها ومهنية الإعلام الفرنسي في التعامل مع الأحداث. حاولت المراسلة تهدئتهم شارحةً بأن لديها خبرة في نقل الأحداث، وأنها واكبت العديد من الحروب في كل من سوريا والعراق ولبنان.

من بين المحتجين على وجود الإعلام امرأةٌ خمسينية، اسمها لورا، الكل يعرفها فهي تقضي ليلها ونهارها هنا منذ بداية الاعتصام. وضعت لورا لوحًا خشبيًا وفرشته بغطاء تجلس وتنام عليه. حاول بعض الشبان إبعادها من أمام عدسات القناة التلفزيونية؛ فازدادت غضبًا وذهبت باتجاه المراسلة قائلة: «اذهبوا من هنا». ترددتُ في الاقتراب منها، ولكنها نادتني طالبة سيجارة، أشعلتها وهي تقول: «أنا أنتظر هذه اللحظة منذ عشر سنوات». بررت لورا غضبها من وسائل الإعلام بأن هذه الأخيرة لم تذهب لمقابلة الفقراء والمشردين في الشوارع منذ سنين. تشرحُ هذه السيدة أنها على علم بأن تواجدها في وسط الشارع يوحي بأنها مشردة بلا مأوى، ولكن في الحقيقة هي عاملة وفي إجازة مرضية الآن، وهذه هي الرسالة الوحيدة التي تريد أن توصلها: «لقد تشردنا بسببكم».

المعتصمة لورا تفترش الطريق، احتجاجًا على أداء الإعلام الفرنسي، تم التقاط الصورة بواسطة كاتب المقال: وسام الناصر.


تحرك جماعي ينتظم بشكل تدريجي

جانب من مظاهرات السترات الصفراء في الجنوب الفرنسي
جانب من مظاهرات السترات الصفراء في الجنوب الفرنسي

انضممتُ لمجموعة من الشبان والشابات الذين يغنون تارةً، ويلوحون للمارة بإشارات النصر تارةً أخرى. تبادلتُ أطراف الحديث مع الشاب الثلاثيني بجانبي، سألته أتأتي يوميًا إلى هنا؟ قال: «نعم، وسأستمر حتى تنتصر إرادتنا». إنه رجل غاضب ممتلئ حتى الانفجار، يشرح أنه يعمل 25 ساعة في الأسبوع، وهو مصاب بإعاقه جزئية، ولذلك فراتبه لا يتجاوز 800 يورو في الشهر: «إنهم يسرقوننا كيف تريدني ألا أحضر إلى هنا كل يوم!». ينضمُ لنا رجل وصل للتو ويشرح بأنه أتى إلى الاعتصام من العمل مباشرة، وفعلًا فهو وصل بثياب العمل المتسخة. يضيفُ هذا الأخير بأن لديه عائلة وأولادًا ولا يستطيع أن يحضر يوميًا، ولكنه متضامن مع «السترات الصفراء» إلى أبعد حد.

أثارت الهتافات وأصوات الشاحنات الصاخبة حماس أحد الشبان، وجّه الكلام إلينا، هل سنبقى واقفين نلوّحُ بأيدينا للعابرين ونبتسم لهم؟ يرى هذا الشاب بأنه يجب أن نفعلَ شيئًا آخر؛ كأن نشعل نارًا في الألواح الخشبية على سبيل المثال. بدأ بعض الحاضرين بالتوضيح له بضرورة الالتزام بالهدوء والحرص على عكس صورة حضارية للتجمع. فالعنف سيعطي ذريعة للشرطة للتدخل وإخلاء المكان.

اتجهتُ إلى المائدة المفتوحة، قبل موعد الغداء بقليل، لتناول فنجان من القهوة مع شابتين تُحضّران بعض السندويتشات للحضور. سألتُ، ألم تتعبا؟ هل ستصمدًا لوقت طويل؟ بدأت الفتاتان، بحماس وثقة، تتبادلان الأدوار في تناغم واضح للإجابة على تساؤلاتي. تؤكدُ الأولى أن ما ينسيهم تعبهم ويحفزهم على الاستمرار، هو التضامن والدعم الذي يقدمه سكان البلدات المجاورة لهم. تضيفُ صديقتها أن كل ما هو موجود من طعام ومشروبات يقدّمهُ لهم مجانًا مواطنون من أصحاب الحرف والمهن المختلفة. فمطعم البيتزا المقابل يزودهم بوجبات كافية بشكل شبه يومي، والخبّاز يرسل لهم الخبز وغيره من المعجنات. كما أن كل من يأتي هنا للمشاركة يُحضِرُ شيئًا معه (ماء، عصير، طعام.. إلخ). توسّعتْ الشابتان في تبيان دور فيسبوك في التنسيق والتنظيم، فكلما ينقص أي شيء يتم طلبه من أعضاء الصفحة ومن ثم يتم تلبية الطلب ممن لديه الوقت. تساعدهم الصفحة أيضًا في ضمان التواجد الدائم في المكان، ليلًا ونهارًا.

تعود الاستمرارية في الاعتصام، كما فهمتُ من الشابتين، على تناغم أفراد المجموعة الذين أصبحوا يعرفون بعضهم بشكل جيد. يتقاسمون المهام والحضور، حيث يتعهدُ الشباب والشابات بالمناوبات الليّلية، بينما يدعمهم الباقون من المتزوجين والمتقاعدين بالحضور بأجزاء من الليل وخلال ساعات النهار. وعلى ما يبدو فإن أعداد المنضمين للاعتصام في تزايد مستمر، ويسعى أصحاب «السترات الصفراء» في هذا المعبر إلى جذب وتشجيع المزيد من المواطنين للحضور لمساندتهم. ضمن هذا السياق، أطلقتْ صفحة الفيسبوك الخاصة بالمجموعة مبادرة لجمع ألعاب الأطفال، لتقديمها كهدية للجمعيات التي تساعد الأطفال المحتاجين خلال فترة الأعياد.

اقرأ أيضًا:إعادة اكتشاف الشوارع: موجز سيرة «السترات الصفراء»

لا تزالُ حركة «السترات الصفراء» في طورها الأول ولم تأخذ شكلها النهائي، إن كان لجهة القوى المنضوية فيها، أو لمطالبها التي لم تتبلور بشكل واضح بعد. هل ستصمد حكومة التكنوقراط ذات التوجهات الليبرالية المفقِرة أمام هؤلاء المنتفضون؟ أم سيخطُ الفرنسيون سطرًا جديدًا من سطور التاريخ والثورات؟


* الصور المنشورة التقطها كاتب هذه السطور وتنشر بناءً على موافقة من فيها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.