أتمنى أن تجدك رسالتي في خير حال.. ربما تأتي رسالتي إليك متأخرة، لكني أعرف أنك ستتفهم. ربما تأتي رسالتي أيضًا إليك مختلفة بشكل ما عما كتبه الآخرون، أعرف أن الكثير من الناس قد كتبوا إليك، لكنني أعرف كذلك أن رسالتي ستكون مختلفة.. لماذا؟ لأنني لن أكتب لك عن الحزن، أعرف أن الكثيرين قد كتبوا لك عنه، لكنني لن أكتب لك عنه هذه المرة.

ليس لدي شك في أنك تعرف الآن كيف فجعتنا بموتك، هل تعلم لماذا؟ لأنك ببساطة تعني لنا مخزونًا ضخمًا من الذكريات والأحلام والتفاصيل المشتركة بين الآلاف من أبناء هذا الجيل، كنت تمثل – دون مبالغة – كودًا مختصرًا لكل ما تشاركه هذا الجيل على مدار عشرين عامًا أو يزيد، ويكفي استدعاء اسمك في الحديث ليستدعي معه دفعة واحدة كل هذا المخزون الهائل من التفاصيل الحميمة، المحاولات الأولى في القراءة، سخرية زملاء الفصل وأفراد العائلة من فكرة قصص الرعب، الكتب التي تحدثت عنها عرضًا وبحثنا عنها في كل مكان لنقرأها، سهرات الصيف الحارة المليئة بعرق المراهقين، في غرفة نصف مضيئة مع العجوز «رفعت»، الشجن الذي كانت تثيره «ماجي»، المرات الكثيرة التي كنت تريح فيها العجوز رفعت من الحكي، لتجعل آخرين يحكون بدلًا منه، أو تجعله يقرأ رسائلهم لتبقيه في المشهد ولو بشكل رمزي، باعتباره «نجم الشباك»، ظهورات «لوسيفر» بين حين وآخر، والتي كانت تجعل العجوز رفعت يبدو كشخص ذي أهمية كونية كبرى، حتى أن «جانب النجوم» شخصيًا يرسل أقوى رجالاته لمنازلته، وأشياء أخرى كثيرة.

كان يكفي ذكر اسمك في أي حديث حتى تستدعي كل هذه الذكريات دفعة واحدة، ونفس الأمر قد حدث الآن، ولكن في الاتجاه المعاكس تمامًا! لقد تسبب موتك المفاجئ في إحساسنا بأننا نفقد كل هذا الجزء من وعينا إلى الأبد، أو كأن هذا الجزء من وعينا يُنتزع منا عنوة، وبقسوة لم نكن نتوقعها، ولعل هذا يفسر لك تلك الفجيعة التي رأيتها في حشود مودعيك.

عندما قلت لأصدقائي إننا متنا حين مات العراب، كنت أعني ذلك تمامًا، لقد مات جزء من وعينا، ومن ذكرياتنا المشتركة، ومن إحساسنا بالـ«نحن».

هل تعرف تلك الصناديق العملاقة التي ترفع من أعلى مراكب الشحن؟ يرفع الصندوق عادة بواسطة حبل متين يحيط بالصندوق الهائل من كافة الجوانب، فإذا انقطع الحبل، سقط الصندوق في المحيط. على ما يبدو كنت أنت هذا الحبل الرفيع، الذي يربط كل هذا المخزون الهائل، وبانقطاعك سقط الصندوق العملاق الممتلئ بالتفاصيل في المحيط، محدثًا دويًا عملاقًا، وغاب عنا إلى الأبد.

ماذا كنت أقول؟ نعم، كنت أقول إنني لن أحدثك عن الحزن، ولكن سأحدثك عن الغضب، وعن الندم، وسيمكنك أن تقرأهما بالترتيب الذي تريد، ففي كل ترتيب ستحصل على رسالة مختلفة، لذلك – وعلى طريقتك في الأعداد الخاصة من «ما وراء الطبيعة» – سأترك لك حرية الاختيار.

الغضب

لست حزينًا لموتك بقدر ما أنا غاضب، نعم.. أنا غاضب لموتك، كأنما جاء هذا الموت على عكس خطتي، أو على غير ما أردت. ماذا تقول؟ هل تقول إننا لا نستطيع أن نقف في وجه الموت؟ نعم بالتأكيد، لكن أما رأيت من قبل رجلًا يقف في وجه دبابة؟ لعلك شاهدت تلك اللقطة الشهيرة من فيلم «عمر المختار»، التي يقف فيها أحد قادة المقاومة أمام الدبابة الإيطالية صارخًا بملء حنجرته بطريقة درامية: «يااا قتلللة» -هذه أيضًا كتبتها على طريقتك – هل تراه كان يتصور أن بإمكانه أن يوقفها؟ لا أعتقد، هو فقط كان غاضبًا إلى أقصى حد، ليس أكثر. هكذا أشعر تجاه موتك؛ لم يكن يفترض أن تسير الأمور على هذا النحو.. هذه مشاعري كما هي وأعرف يقينًا أنك لن تزايد علي كما يفعل الآخرون.

تعرف؟ كانت عندي خطة.. نعم، كانت عندي خطة وهدمها موتك تمامًا. كانت خطتي أن نصير أصدقاء، لقد التقينا بضع مرات – لعلك تذكر – لكننا لم نصر أصدقاء. لقد كنت أنت صديق أصدقائي، وكانت دوائرنا متقاطعة بأشكال عدة، ويومًا ما، نشأت بيني وبين ابنتك – الصغيرة حينها – «مريم» صداقة قصيرة، يوم زفاف صديقنا المشترك «أشرف حمدي».. نعم، أنا ذلك الشاب النحيف – حينها – الذي رافقها لتندمج وسط الحضور، فكانت لخجلها مترددة في الانفصال عنك وتركك تقوم بتأدية واجبك تجاه صديقك، وظلت ملتصقة بك، فتطوعت لمرافقتها لبعض الوقت..

التقينا بعد ذلك أنا وأنت عدة مرات، في فاعليات أصدقائنا المشتركين، لكننا لم نكن أصدقاء أبدًا، وكنت أعرف لماذا، لأنني لم أكن حينها منتجًا كأصدقائنا المشتركين الذين صادقتهم، كنت أعرف أنني عندما أبدأ في الإنتاج والكتابة سأجدك، تمامًا مثلما فعلت مع الجميع.. أنت كنت من يبحث عن الشباب المنتجين والمبدعين المبتدئين، على عكس المتوقع والمعتاد، وأنا، لم أكن حينها قد بدأت أي شيء بالفعل، كنت مازلت أستكشف هذا العالم، ولم أكن قد حسمت أمري بعد، ولذلك، كنت محقًا تمامًا في عدم مصادقتي، لكن كنت أمني نفسي دائمًا بأنني عندما أبدأ سأجدك تلقائيًا، وسنصبح أصدقاء، لكن حرمني موتك المباغت من فرصتي المؤجلة، ولهذا أنا مليئ بالغضب، ما كان يفترض أن تسير الأمور على هذا النحو.. أنا غاضب كأن الأمر يعود لي، أو كأنني كان بإمكاني فعل أي شيء، أشعر بأنني كان يجب أن أكون شجاعًا بالقدر الكافي لأقف أمام الدبابة، ولكنني لم أكن..

الندم

عليّ أن أعترف لك: أحدثك الآن وأنا يملؤني الشعور بالخزي، هل تعرف لماذا؟ لأنني ربما الوحيد تقريبًا من بين مريديك الذي لم يحضر عزاءك ولا تشييع جثمانك.. تخيل؟! هل سيكون بإمكانك أن تسامحني على ذلك؟ أتمنى..

في اللحظة التي تأكدنا فيها من خبر وفاتك، راسلت صديقاي المقربين، اللذين اكتشفت لحظتها أيضًا أنك – أنت ورفعت إسماعيلك – أحد أهم محاور صداقتي معهما بشكل أو بآخر.. كانت «ما وراء الطبيعة» موضوعنا الدائم ونافذتنا المشتركة على عالم القراءة – تمامًا كآلاف غيرنا – وكانت معظم قفشاتنا تستلهم حالة رفعت إسماعيل الكئيب سيئ المزاج، وكنا أمام المرآة – وبشكل خفي – نستلهم «بذلته الأنيقة التي تجعله يبدو فاتنًا»، والتي كنتُ دائمًا – لمشكلتي المزمنة مع الألوان – أنسى هل كانت رمادية أم كحلية.. هل تعرف عدد المرات التي ترددت هذه العبارة في رأسي وأنا أرتدي ملابسي؟

كان موتك فاجعة، وكان فاجعتنا المشتركة نحن الثلاثة، على الأقل بالنسبة لي.. ماذا كنت أقول؟ مرة أخرى أستطرد وأفقد الخيط، تمامًا كالعجوز رفعت.. نعم، كنت أحكي لك أنني راسلت صديقاي لحظة ما تأكد خبر وفاتك، لأقترح عليهما أن نسافر معًا إلى عزائك في طنطا، لم يبديا حماسة للأمر، مما جعلني أعتقد أني أتعامل مع الأمر بحماسة زائدة، أو بافتعال لا داعي له، وأبقيت حزني لنفسي وسكت. ولسبب لا أفهمه، تسلل صديقاي يوم العزاء وسافرا إليك بصحبة آخرين، وعادا دون حتى أن يخبراني، وعلمت بالأمر بمصادفة عجيبة..

كأنما أرادا أن يقولا لي: «الرجل لنا من دونك، وكل هذه الذكريات تخصنا ولا تخصك!».

لعلك تتخيل حجم المرارة التي شعرت بها، ظل قلبي معصورًا كأنما تقبض عليه قبضة عملاقة، وحلقي مُر كأنه مطلي بالصبار، وجاهدت كثيرًا – ولم أفلح – لأداري بكائي وأنا أتحدث مع مرضاي في العيادة – أنا طبيب أسنان ولعلك لم تعرف ذلك من قبل – في اليوم الثالث، جاءا إلى منزلي يسترضياني، ورحلا ولم يرحل الندم. لقد ترك لي غيابي عنك في هذا اليوم شوكة في القلب، يعلم الله كم هي مؤلمة، وشوكة أخرى في علاقتي بهذين الصديقين، أدعو الله أن يكون لدى الزمن القدرة على كسرها، لقد غيبني الصديقان العزيزان يوم حضر الجميع، من يعيد لي الزمن لأملأ فراغي؟ من يفعل؟!

نعم، أعرف ما تريد أن تقوله، دبابة أخرى هنا لدي مشكلة معها؛ الزمن. ربما أحتاج أن أجتهد أكثر من ذلك في العمل على نفسي، لأتقبل – بنفس راضية – مرور هاتين الدبابتين – الزمن والموت – فوق جسدي وفوق كل ما أحب، لكن إلى ذلك الحين، أرجوك سامحني، وعدني بصداقتك في حياة أخرى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.