كثيرًا ما تساءلت حول نزول وحي السماء على رسل المولى عز وجل -عليهم الصلاة والسلام- في تلك البقعة من العالم المُسماة بأرض العرب، فقد نزل وحي السماء على رسل الديانات السماوية الثلاثة الموجودة الآن في العالم، اليهودية والمسيحية والإسلام على الترتيب، سيدنا موسى في الوادي المقدس طوى بسيناء، وسيدنا عيسى في فلسطين، وسيدنا محمد في مكة.

كما أن عدد الرسل والأنبياء الوارد ذكرهم في القرآن الكريم خمسة وعشرون رسولاً ونبيًا بُعثوا في تلك البقعة من الأرض، بل والعجيب أن أحداث نهاية العالم ستجرى في تلك المنطقة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين.

ولو تأملت خريطة الأرض ستجد أن هذه المنطقة من العالم تشتعل دائمًا بالصراعات والحروب، وكأنها بركان ما تلبث أن تهدأ ثورته حتى تندلع من جديد، فهنا تختلط الجغرافيا والتاريخ والدين ليُشكلوا بُنى تحتية لبناء فوقي هو السياسة، فتلك الصراعات، وهذه الحروب التي تبدو في ظاهرها سياسية، هي وليدة الجغرافيا والتاريخ والدين.

الجغرافيا والتاريخ

بينما تنبأ الناس بموت الجغرافيا منذ ما يقرب من أربعة عقود، تزعَّم الكاتب الأمريكي «آلفين توفلر» هذا المنظور في كتابه «الصدمة المستقبلية»، حيث يرى أن تطور تكنولوجيات النقل والاتصال وتدفقات الأشخاص المكثفة التي نتجت عن ذلك، يعني أن المكان لم يعد المصدر الرئيسي للتنوع، وفي الآونة الأخيرة أعلن «روبرت أوبراين» من خلال عنوانه الفرعي «نهاية الجغرافيا» لكتابه «التكافل المالي العالمي»، وضعية تنطوي على «حالة من التطور الاقتصادي حيث لم يعد التحديد الجغرافي مهمًا». [1]

وتنبّأ آخرون بنهاية التاريخ بكل ما يحويه من تركيب وبساطة وصيرورة وثبات وشوق وإحباط ونبل وخساسة، سيصل إلى نهايته في لحظة ما، فيصبح سكونيًا تمامًا، خاليًا من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات. وسيُسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه، وسيجد حلولًا نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه. [2]

يري فرانسيس فوكوياما أن كلا من هيجل وماركس كانا يريان أن التاريخ سيصل إلى نهايته حينما تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع الذي يشبع الاحتياجات الأساسية والرئيسية للبشر، فهو عند هيجل الدولة الليبرالية، وعند ماركس المجتمع الشيوعي. ولكن العالم قد وصل إلى ما يشبه الإجماع بشأن الديمقراطية الليبرالية من أنها نظام صالح للحكم بعد أن ألحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة (أي الشيوعية كما لدى فوكوياما). [3]

والحقيقة أن الجغرافيا ما زالت تتحكم في مصيرنا فـ «الطبيعة تفرض، والإنسان ينفذ»، كما كتب الجغرافي الإنجليزي «جوردن إيست»، وأضاف «من المؤكد أن أفعال الإنسان تكون مقيدة بالبارامترات التي تفرضها الجغرافيا». [4]

والتاريخ ما زال يزيد آلامنا وأوجاعنا، فقد نشرت مجلة «ديلي بيست» الأمريكية في الذكرى 101 لتوقيع اتفاقية «سايكس بيكو»، تقريرًا قالت فيه: «على الجميع الاعتراف أن هذا الدمار الذي حاق بالشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ليس سببه الغزو الخارجي (الأمريكي البريطاني) أو التوترات الداخلية (ثورات الربيع العربي)، ولكن السبب الرئيسي هو تلك الخريطة التي تم بموجبها تقسيم الشرق الأوسط المطلق عليها سايكس بيكو».

وعندما أنهى «كريستوفر سيمون سايكس» مسودة كتابه عن سيرة حياة جدّه «مارك سايكس» التي اختار لها عنوان «الرجل الذي صنع الشرق الأوسط»، اقترح عليه الناشر تغييره إلى «الرجل الّذي دمّر الشرق الأوسط».

إنسان وتراب ووقت

وإذا كانت الجغرافيا تمثل ستارة خلفية للتاريخ [5]، فإن الدين هو الذي طوّع جغرافيا المنطقة العربية لتكون الستارة الخلفية لكل تاريخ وحضارة العرب بنزول القرآن الكريم على سيدنا محمد بمكة، فكل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:

إنسان + تراب + وقت = ناتج حضاري.

«فجزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان (العرب)، والتراب (الجغرافيا)، والوقت (التاريخ)، راكدة خامدة. وبعبارة أصح مُكدَّسة لا تؤدي دورًا ما في التاريخ، حتى إذا تجلّت الروح بغار حراء، كما تجلّت بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن، نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدّسة حضارة جديدة. فمن تلك اللحظة، وَثَبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونًا طوالًا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي، ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل، إنما كانت من صنع أناس بسطاء كـ ربعي بن عامر الذي قال لـ رستم قائد الفرس مقولته الشهيرة: «لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة». [6]

والمعادلة السابقة للحضارة: الإنسان + التراب + الوقت، نجد صداها لدى الإمام محمد عبده حيث يقول:

«إن أهل مصر قوم أذكياء، يغلب عليهم لين الطبع، واشتداد القابلية للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية، وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة، بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما العيب على الباذر. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا ينبت، ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك ما شوهد من أثر التربة التي يسمونها أدبية، من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادًا –وإن قيل إن لهم شيئًا من المعلومات- فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية على أصول دينهم فلا أثر لهم في نفوسهم». [7]

ولأن أوروبا أقامت نهضتها على الخصام مع الدين وطرده من الحياة عامة، بمقولة ماركس الشهيرة «الدين أفيون الشعوب»، وإعلان نيتشه «موت الإله»، لذا كان من الطبيعي أن يُنتِج الغرب أفكارًا حول موت الجغرافيا ونهاية التاريخ، فالحضارة المادية لا تعرف سوى الإنسان أحادي الجانب (المادي)، بل إن نهاية التاريخ أصبحت لأول مرة في تاريخ البشرية إمكانية قائمة بالمعنى الحرفي، فالتلوث الكوني يتزايد إلى درجة تهدد الحياة على وجه الأرض، وقد تراكم لدى البشر كم من الأسلحة يكفي لتدمير العالم أكثر من عشرين مرة، وهذه آلية تقنية رائعة لإنهاء التاريخ والجغرافيا بطريقة رشيدة بسيطة شاملة حديثة لا تسبب ألمًا كبيرًا ولا تستغرق سوى لحظات، ومن ثَمَّ تُحقِّق حلم الإنسان العلماني الشامل، من حيث التأله الكامل والتحكم في كل شيء، بما في ذلك يوم القيامة. [8]

ولأن العرب قامت حضارتهم على الدين، فإن الإسلام تحاشى فكرة نهاية التاريخ عن طريق فكرة خاتم المرسلين، وأنه من الآن فصاعدًا لن يتدخل الله في التاريخ، لأنه عز وجل قد أرسل لنا كتابًا من خلال رسول. [9]

فغاية التاريخ ليس الدولة الليبرالية كما لدى هيجل، أو المجتمع الشيوعي عند ماركس، أو الديمقراطية كما يرى فوكوياما، بل جنة عرضها السماوات والأرض.

ومن هنا ندرك السر وراء جعل أرض العرب مهدًا لرسالات السماء التي وردت في القرآن الكريم، فالحضارة تربو وتزدهر بغرس بذرة الدين في هذه البقعة من العالم، وتتدهور وتسقط في صراعات وحروب ودمار حين يغيب عن إدراك العرب لِمَ كانت أرضهم مهبطًا لوحي السماء، فيعودون كما كانوا تحشرهم الجغرافيا فيما وراء التاريخ، لذا دعا القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سير الأمم (التاريخ)، وذلك حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة المُخصَّبة من الإنسان، في معادلة الحضارة عند مالك بن نبي: الإنسان (العرب)، والتراب (الجغرافيا)، والوقت (التاريخ)، فـ «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة». [10]

المراجع
  1. ورويك مواري، “جغرافيات العولمة”، ترجمة: سعيد منتاق، الكويت، عالم المعرفة، فبراير 2013، ص 10.
  2. عبد الوهاب المسيري (تحرير: سوزان حرفي)، “العلمانية والحداثة والعولمة”، دمشق، دار الفكر، 2009، ص 157.
  3. المرجع السابق، ص 165.
  4. روبرت د. كابلان، “انتقام الجغرافيا”، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم علي، الكويت، علم المعرفة، يناير 2015، ص 49.
  5. المرجع السابق، ص 48.
  6. مالك بن نبي، “شروط النهضة”، دمشق، دار الفكر، 2006، ص 51.
  7. محمد عمارة، “المنهج الإصلاحي للإمام محمد عبده”، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2005، ص ص 117-118.
  8. عبد الوهاب المسيري (تحرير: سوزان حرفي)، “العلمانية والحداثة والعولمة”، مرجع سبق ذكره، ص 163.
  9. المرجع السابق، ص 165.
  10. “مقدمة ابن خلدون”، ص 688.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.