مصادفةٌ غريبةٌ هي أن يحمل العام السابع في كل عقد تقريبًا منذ ما يقرب من قرنٍ وربع حدثًا فارقًا في تاريخ الشعب الفلسطيني، الذي مر بالكثير من النكبات والهزائم المرة طوال هذه العقود دون النظر إلى أرقام الأعوام، لكن الرقم 7 بالذات كان يأتي كل عشرة أعوام بمفاجأة جديدة –مريرة في أغلب المرات- حتى اطرد ذكره في سطور ملحمة الشعب الفلسطيني، ملازمًا لتحول أساسي في كل مرة، ولا أحد يعلم ما يخبئه العام 2017 للقضية هذه المرة.


1897: البداية في بازل

عبر أيام ثلاثة متصلة من 29 إلى 31 أغسطس/آب 1897،انعقد المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل السويسرية، حضره 204 من الحاخامات والنشطاء وممثلي الجمعيات اليهودية، وكان الخطوة العملية الأولى نحو حل عنصري إمبريالي لمشكلة الجماعات اليهودية في أوروبا –الشرقية بوجه خاص- حلٍ مُعادٍ لليهود قبل غيرهم، كان هو المخرج للتخلص من اليهود غير الراغبين في الاندماج في مجتمعاتهم، التي لم تكن بدورها ترحب باندماجهم.

كانت مناقشة المسألة اليهودية في المؤتمر عامة ومفتوحة، لكنه انتهى إلى تشكيل المنظمة الصهيونية بزعامة تيودور هرتزل، لتكون المحرك والمشرف على استغلال المشاريع الاستعمارية الأوروبية لتأسيس موطن لليهود في فلسطين، ونقلهم من شتى بقاع الأرض وتوطينهم هناك.

لم يكن مؤتمر بازل هو المحاولة أو الدعوة الأولى لإعادة اليهود إلى فلسطين، إذ سبقته على مدى قرون دعوات خافتة كانت تخبو بأسرع مما تظهر ويغلب عليها الطابع العاطفي والخطابي، لكن المؤتمر كان ثمرة أول محاولة عملية جدية تلعب وفق قواعد الصراع الدولي، وتركز على خلق أمر واقع باستغلال القدرات الهائلة للمشاريع الاستعمارية، والكثيرون يعدّونه بمثابة التأسيس الحقيقي لدولة إسرائيل قبل إعلان قيامها رسميًا بنصف قرن.


1917: وعد اللص للوكيل

لم يكن آرثر جيمس بلفور متعاطفًا مع اليهود، بل في عهد رئاسته للحكومة البريطانية بين عامي 1902 و1905 عمل على صد موجات الهجرة اليهودية إلى بريطانيا، لكن عند توليه وزارة الخارجية البريطانية بين عامي 1916 و1919 كان عود المنظمة الصهيونية قد اشتد وراحت تمد جسورها مع الساسة والحكام في كل مكان، خاصة مع القوى الاستعمارية وعلى رأسها الإمبراطورية البريطانية مترامية الأطراف.

في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، أرسل بلفور رسالة قصيرة إلى اللورد ليونيل وولتر روتشيلد، عميد الفرع البريطاني لعائلة روتشيلد اليهودية الأوروبية العريقة والرئيس الشرفي للاتحاد الصهيوني في بريطانيا وأيرلندا، يخبره فيها أن «حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين».

كان هذا هو الحل الذي ضربت به الحكومة البريطانية ثلاثة عصافير بحجر، إذ كانت بحاجة لتوطين جماعة يهودية تدين لها بالولاء في موقع إستراتيجي حاكم كفلسطين، لتكون حليفًا لها في منافستها مع الفرنسيين حماة المسيحيين الكاثوليك، والروس حماة الأرثوذكس في فلسطين، وفي الوقت ذاته استغلت بريطانيا نفوذ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة للضغط عليها من أجل مساندة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ثم إن هذا الحل كان يوفر لليهود ملجأً بعيدًا عن بريطانيا، وكان على فلسطين أن تكون عربون تحالف الإمبراطورية البريطانية مع المنظمة الصهيونية.


1947: قرار التمزيق

مساء التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1947، صوتت معظم الدول الأعضاء بالجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار الجمعية رقم 181، والقاضي بتقسيم الأراضي الفلسطينية بين العرب واليهود، مُكللًا عملية سرقة تاريخية بالشرعية الدولية.

عند لحظة التصويت، لم تكن نسبة اليهود بين سكان فلسطين تزيد عن 33%، مقابل 67% من الفلسطينيين العرب، ومع ذلك منح قرار التقسيم اليهود 56.5% من أراضي فلسطين (15 ألف كيلومترًا مربعًا)، مقابل 43.5% من مساحة الأراضي (11 ألف كيلومترًا مربعًا) للعرب.

صوتت 33 دولة لصالح القرار، ورفضته 13 دولة، وامتنعت 10 دول عن التصويت، وتغيبت دولة واحدة عن جلسة التصويت، واستخدم سفراء الدول المتحالفة مع المنظمة الصهيونية أساليب الترغيب والترهيب لإقناع وفود دول مثل هاييتي وليبيريا والفلبين، لم تكن راغبة في التصويت لصالح القرار بالموافقة عليه.


1957: ميلاد فتح

في اجتماع ضم ياسر عرفات (أبو عمار)، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وعبد الله الدنان، وتوفيق شديد، ويوسف عميرة، وعادل عبد الكريم بالكويت في أواخر 1957، اتفق هؤلاء الستة على تشكيل (حركة التحرير الفلسطينية) وباختصار الحروف (حتف)، ثم عُكست الحروف بسبب التطير من الحتف لتصبح (فتح) نواة الموجة الثانية لحركة المقاومة المسلحة الرامية لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كان مؤسسو الحركة ومنتسبوها الأوائل ينتمون إلى مشارب مختلفة، فكان منهم القومي واليساري والإخواني، وعلى مدار السنوات السبع بين أواخر 1957 وأوائل 1965، كانت تلك مرحلة سقي نبتة التنظيم وتعهدها بالرعاية، حتى أعلن عن ميلاد الثورة الفلسطينية بعملية فدائية داخل الأراضي المحتلة في الأول من يناير/كانون الثاني 1965.


1967: الهزيمة التي حررت القرار الفلسطيني

مرة أخرى، كان على الفلسطينيين أن يتجرعوا مرار الهزيمة والاحتلال والطرد والتشريد، لأن الأنظمة العربية التي ادعت مسئوليتها عن تحرير كامل التراب الفلسطيني لم تستطع الذود عن تراب بلادها، تهاوى شعارا «الوحدة طريق التحرير» و«فلسطين قضية قومية وتحريرها مسئولية عربية»، ليكشفا عورات الأنظمة العربية التي اتضح أنها استثمرت القضية الفلسطينية لتعيث فسادًا في بلادها وتخرس أي صوت معارض، متشدقة بشعارات قومية رنانة ومدعية مسئولية وهمية عن تحرير فلسطين المنكوبة.

قبل نكسة 1967، كانت الأنظمة العربية ترفض تمامًا وجود أي تحرك أو عمل فدائي فلسطيني مسلح يعمل باستقلال أو يختار توقيتات التصعيد والتهدئة مع العدو الإسرائيلي، ولطالما قمعت أجهزة الأمن العربية أنشطة الفدائيين الذين ينطلقون من أراضيها لتنفيذ العمليات داخل إسرائيل، لكن بعد حرب 1967 تبدل الموقف تمامًا ولم تعد الأنظمة العربية قادرة عمليًا أو أدبيًا على لجم العمل الفدائي المسلح، وتغيرت هيكلية منظمة التحرير لتضم في عضويتها تنظيمات العمل الفدائي وقياداتها، كأنه لم يكن ممكنًا للفلسطينيين أن يمسكوا بزمام قرارهم إلا بعد ضياع أراضيهم بالكامل.


1977: إلى الكنيست ذاته

في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1977،وقف محمد أنور السادات في مجلس الشعب ليهتف منفعلاً ومعلنًا استعداده للإقدام على ما لم يجرؤ عليه أي مسئول عربي قبله، وهو لقاء الإسرائيليين في عقر دارهم المحتل، وفي ذلك الوقت ظن الجميع أنه يبالغ قليلاً لإظهار حماسه للسلام، كان ياسر عرفات من بين حضور الجلسة وانصرف غاضبًا.

بعد عشرين يومًا وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني، خالف السادات الظنون وهبط بطائرته بالفعل في إسرائيل، مخيبًا آمال الملايين من الفلسطينيين والعرب الذين كان تعويلهم على مصر طبيعيًا لتحمل الجزء الأعظم من مسئولية المواجهة مع إسرائيل، والذين لم يصدقوا أعينهم وهم يرون المصافحات والابتسامات الودودة وخطبة السادات في الكنيست.

كان هذا إعلانًا مبكرًا لخروج مصر من دائرة المواجهة العسكرية مع إسرائيل، سبق الإعلان الرسمي، الذي تمثل في اتفاق كامب ديفيد 1978، ومعاهدة السلام 1979، وشعر الفلسطينيون معه بالانكشاف وخسارة الحليف الأهم، ثم راحت خيبات أملهم تتوالى مع إجراءات التطبيع والسلام الدافئ.


1987: على مرمى حجر

في خضم غرق الثورة الفلسطينية في مستنقع الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1987،صدمت شاحنة عسكرية إسرائيلية حافلتين كانتا تحملان عمالاً فلسطينيين عائدين من أعمالهم، مات أربعة منهم، وهنا بلغ صبر الأهالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منتهاه، لم يعودوا بحاجة لانتظار تحركات وعمليات منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية التي انهمكت في التقاتل مع الأنظمة العربية وفيما بينها في لبنان وقبله في الأردن.

في اليوم التالي بدأت مجموعات من الصبية والشباب الفلسطينيين من مخيم جباليا بقطاع غزة في رشق الحواجز العسكرية الإسرائيلية بالحجارة، واستشهد بعض الفلسطينيين، وفي غضون أيام عمت المظاهرات الفلسطينية الغاضبة والاشتباكات مع قوات الاحتلال أرجاء الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة.

كانت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) محطة فارقة في رحلة القضية الفلسطينية، إذ اكتشف الفلسطينيون فجأة أن سلاحهم يقبع تحت أرجلهم، وبعد أيام من اشتعال الانتفاضة وفي 11 ديسمبر/كانون الأول أعلنت حركة حماس عن وجودها رسميًا، وأصدرت بيانها الأول، كان هذا من تجليات انحسار المد القومي العربي بعد هزيمة 1967 وصعود المد الديني ليملأ الفراغ الأيديولوجي والحركي في العالم العربي.


2007: حل الدولتين الفلسطينيتين

منذ تشكل السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات، راحت تلاحق وتقمع عناصر حركة حماس في الضفة الغربية وغزة، لكن المفاجأة التي أربكت حسابات جميع الأطراف داخل فلسطين وخارجها كانت فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات 2006.

ومع رفض العديد من الفصائل الفلسطينية مشاركة حماس في تشكيل الحكومة، اضطرت الحركة لتشكيل الحكومة وحدها في مارس/أذار 2006، واضطرت السلطة الوطنية لقبول ذلك على مضض، غير أنها وبالتنسيق مع إسرائيل راحت تضع كل العراقيل الممكنة لشل حكومة حماس، حتى اضطرت الأخيرة للعمل خارج إطار السلطة الوطنية، وشكّلت قوة أمنية مسلحة أطلقت عليها اسم «القوة التنفيذية»، التي اصطدمت مرارًا بقوات وأجهزة أمن السلطة الوطنية.

وبعد مساع إقليمية كثيرة للتهدئة بين الطرفين انتهت باتفاق مكة في فبراير/شباط 2007، وتكليف حركة حماس بتشكيل الحكومة للمرة الثانية، اشتعلت المصادمات مرة أخرى في غزة بعد أسابيع من اتفاق مكة، وتصاعدت المناوشات بين مسلحي الحركتين حتى أعلنت حماس في 14 يونيو/تموز 2007 ما أطلقت عليه (الحسم العسكري)، ونجحت في طرد مسلحي وكوادر ومسئولي حركة فتح في القطاع، وفرض سيطرتها على المقار الحكومية والأمنية.

والمفارقة أن حل (دولتين لشعبين)، وهو أحد حلين نهائيين مطروحين للقضية الفلسطينية، ويقتضي قيام دولتي فلسطين وإسرائيل على الأراضي الفلسطينية، أصبح منطبقًا بحكم الأمر الواقع على الحالة الفلسطينية الراهنة، فأصبح المشهد هو وجود دولتي حماس وفتح لشعبي غزة والضفة الغربية، وهو نجاح إسرائيلي يفوق ربما نجاحها في هزيمة المشروع القومي العربي في 1967.


2017: ؟؟؟

يتنازع المشهد الفلسطيني في الوقت الراهن عاملان متناقضان؛ أحدهما هو السيولة الإقليمية التي بدأت مع موجة الربيع العربي في 2011، وحوّلت المنطقة إلى محيط مضطرب من الاهتياجات الشعبية والحروب الأهلية، والثاني هو جمود الموقف الفلسطيني داخليًا على مشهد الانقسام بين حكومة السلطة الوطنية في الضفة الغربية وحكومة حماس في غزة، ومن الصعب التكهن بغلبة أي من العاملين على الآخر.

لكن بعض الشواهد تنبئ بأن العام الحالي سيشهد بعض الحركة في المشهد الفلسطيني، إذ تعتزم حركة حماس إجراء انتخابات داخلية هذا العام لاختيار رئاسة المكتب السياسي، مع إعلان رئيس المكتب السياسي الحالي (منذ 1996) خالد مشعل نيته عدم الترشح، وما ينبئ بتغيير ما هو اعتراف مشعل في سبتمبر/أيلول الماضي بأن الحركة قد أخطأت حين انفردت بالسيطرة على قطاع غزة، ما يمكن تفسيره باعتباره تمهيدًا لجولة جديدة من المصالحة وتقريب وجهات النظر بين حركتي فتح وحماس قد يتمخض عن ترتيبات جديدة داخل البيت الفلسطيني.

النقطة الثانية هي أن عامين ونصف قد مرا حتى الآن على آخر عملية عسكرية إسرائيلية ضد قطاع غزة، وإسرائيل تحتاج إلى شن حرب من حين لآخر تختبر بها ردود الأفعال الداخلية والإقليمية والدولية، خاصة ردود أفعال الشارع العربي بعد ثورات الربيع العربي، وصعود المد اليميني في أوروبا والولايات المتحدة المعادي للمهاجرين والمسلمين بشكل عام، الأمر الذي يوفر لها مناخًا دوليًا مواتيًا للتحرك بحرية أكبر ضد دولة حماس في غزة، فهل يكون 2017 عام العملية العسكرية القادمة في القطاع؟.