سلسلة إجراءات وحصار وتحريض ومقاطعة عمدت إلى اتخاذها السلطة الوطنية الفلسطينية على مراحل متفاوتة، كان أشدها ضراوة تلك التي استبقت حالة التقارب الدبلوماسي بين حماس ومحمد دحلان برعاية مصرية؛ أشعلت غضب الرئيس محمود عباس ودعته للتفكير بإعلان القطاع «إقليمًا متمردًا».

وفي مؤشر خطير على بدء السلطة الفلسطينية باتخاذ القرار والعمل على تنفيذه، كشفت صحيفة «يسرائيل هيوم» تلك النية وقالت إن السلطة لا تؤيد الخطوة في حين أنها عمليًا تسعى لها، وفي المقابل لم يعد أبو مازن خيارًا جيدًا لحماس، وقد أبرز ذلك بشكلٍ جلي إسماعيل هنية في خطابه الأول بعد تنصيبه رئيسًا للمكتب السياسي لحماس، وبدا أكثر استبشارًا بالعلاقات الجديدة مع مصر بمشاركة دحلان، وأكد أنها بديل جيد يمكن التعويل عليه خاصة في ظل علاقات دحلان مع مصر والإمارات.

ووفقًا للتفاهمات التي أُبرمت برعاية مصرية بين حماس ودحلان الذي يقود التيار الإصلاحي الديمقراطي في «فتح»، فقد اتفق الطرفان على تسهيل مهمة تشكيل حكومة وحدة وطنية لنزع ذرائع الرئيس محمود عباس، تتولى بعدها الدعوة لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية بالإضافة إلى حل اللجنة الإدارية التي تم تشكيلها في غزة مقابل رفع الحصار عن غزة، ورهنا التطبيق بمزامنة الإجراء من كلا الطرفين.

ناهيك عن تفعيل لجنة التكافل المُمثلة من كافة الفصائل الفلسطينية لتقوم بدورها في تقديم المساعدات لأهالي القطاع، وكذلك تفعيل المجلس التشريعي حسب الأصول والقانون الأساسي، وتفعيل لجنة المصالحة المجتمعية، والعمل أيضًا على المحافظة على وحدة الوطن الفلسطيني في الضفة المحتلة وقطاع غزة بعيدًا عن أي محاولات للفصل بينهما.

شيئًا فشيئًا بدأت العلاقات المصرية مع قطاع غزة بالتحسن، إذ عمدت مصر مطلع يوليو/تموز إلى إدخال الوقود لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في قطاع غزة، ومن ثَمَّ بدأت بعقد اتفاقيات لتوريد الوقود لمحطات القطاع الخاص، كما انشغلت سابقًا بتطوير معبر رفح البري ليكون منفذًا للتبادل التجاري، ما ينم عن إرادة حقيقية لدى الطرفين للعمل في شراكة سياسية قائمة على الاتفاقات السابقة التي كانت مصر راعية لها.


إجراءات عباس تُعزز فصل غزة

السلطة الفلسطينية لم تُخفِ غضبها من التقارب الكبير بين حماس في قطاع غزة وخصمها اللدود محمد دحلان، وبدأت بمحاصرة الفرصة في تحسين واقع الحياة الإنسانية والمعيشية لسكان القطاع.

ففي مطلع إبريل/نيسان 2017 الماضي، أعلن عباس بدء تنفيذ إجراءاته الصارمة ضد حكومة حماس في قطاع غزة، كان يأمل أن تُشكل سياسته حلقة ضغط على الأخيرة فترضخ للمصالحة التي يُريد ضمن بنود وشروط مُحددة تخدم بالدرجة الأولى مصالح الاحتلال الإسرائيلي وتُقلص وجود حماس بل وتُنهيه أبدًا في قطاع غزة وكذلك في الضفة المحتلة.

بدأ عباس بخفض قيمة رواتب موظفي السلطة في غزة بقيم تتراوح بين (30 – 50)%، وفي خطوات أكثر جرأة على قوت فقراء غزة استلت سيف نفوذها لتغرسه في مصدر رزق 630 عائلة مستورة تعيش على قيمة شيك المساعدات الاجتماعية الذي يصدر كل ثلاثة أشهر مرة، ولم تكتفِ بذلك بل عمدت إلى وقف الرواتب الشهرية لنحو 277 أسيرًا فلسطينيًا مُحرر غالبيتهم من القطاع ويتبعون لحركة حماس.

وفي خطوة أُخرى أوعزت السلطة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي برفض تزويد قطاع غزة بالكهرباء عبر الخطوط الإسرائيلية، وتنصلت من مسئوليتها بدفع مستحقات كهرباء القطاع وأتبعت ذلك بقطع رواتب نواب حركة حماس في الضفة المحتلة، وأخيرًا بدأت بـ استهداف المرضى بمنع تحويلهم إلى العلاج بالخارج، وتخلت عن مسئوليتها بدفع مستحقات علاجهم لصالح المستشفيات التي يلزمونها سواء في القدس المحتلة أو أراضي الـ 48.


خطاب هنية ومستقبل بدون عباس

قام إسماعيل هنية في أول خطاب له بعد توليه رئاسة المكتب السياسي لحماس، برسم ملامح السياسة العامة للحركة على مدار السنوات الأربع القادمة، خاصة فيما يتعلق بعلاقات الحركة على المستوى الداخلي والعربي والإقليمي، وبحسب «إبراهيم حبيب» المحلل السياسي فإن الخطاب حاول رأب صدع الخلاف الداخلي ولكن بلغة حازمة ومُغيبّة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لصالح التيار الإصلاحي في «فتح» والذي يقوده النائب محمد دحلان، وقال:

إن هنية وجّه نداءً مفتوحًا لكل الفصائل الفلسطينية للمشاركة في القرار السياسي، بما يحقق الخروج من أزمة الانعزال السياسي التي يحاول عباس حصر القطاع بها.
وأضاف في حديثه لـ «إضاءات»:
أن الخطاب حمل خارطة طريق للخروج من الأزمة الداخلية التي يُعانيها القطاع منذ 10 أعوام، عبر العمل الجاد على تشكيل حكومة وحدة وطنية تُشارك فيها كافة الفصائل الفلسطينية وتكون مسئوليتها تاليًا التحضير للانتخابات الشاملة وتحديد وقت إنجازها بالكامل.

وبيّن «حبيب» أن تجاهل هنية في خطابه ذكر عباس إشارة واضحة لتعميق سياسات الفصل، فهنية أراد أن يقول إن أردتم ذلك فنحن على قدر المسئولية، ورفض الخضوع للشرط الذي وضعته السلطة لاستكمال المصالحة الفلسطينية، وهو حل اللجنة الإدارية التي تم تشكيلها مؤخرًا.

وجاء على لسان هنية أثناء الخطاب:

أن حماس لم تُمانع قيام حكومة الوفاق الوطني بممارسة عملها، وأن الواقع العملي هو من فرض اللجنة الإدارية.

في إشارةٍ منه إلى تخلي حكومة الوفاق عن مسئولياتها تجاه القطاع، كما أبدى احتجاجه على سياسة العقوبات التي يفرضها عباس على حماس وغزة، مؤكدًا أنها أضرت بالنسيج الوطني الفلسطيني. وهنا يُشير «حبيب» إلى أن خطاب هنية وتجاهله للرئيس عباس رسالة واضحة بالمرحلة الجديدة التي ستذهب إليها حماس بالاتفاق مع دحلان وتجاوزه من أي قرار سياسي إن استمر في إجراءاته العقابية.


إعلان غزة إقليمًا متمردًا غير وارد

ما تقدّم من إجراءات لم يحمل بعض رموز السلطة الفلسطينية في رام الله على الإقرار بأنها سبيل للفصل التام بين جناحي الوطن، ومنهم «أحمد مجدلاني» عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهو يرى أن الإعلان عن غزة «إقليمًا متمردًا» فزّاعة تستخدمها إسرائيل للتحريض بين طرفي الشقاق الفلسطيني (السلطة الفلسطينية وحماس)، وأن السلطة الفلسطينية لو أرادت لفعلتها منذ بداية الانقسام الفلسطيني قبل نحو 10 أعوام.

ويؤكد أن ما يجري لا يتجاوز إجراءات الضغط على حماس، حتى تعود إلى التوافق والمصالحة الجدية مع السلطة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لكل الفلسطينيين.

لكن ذلك الموقف سُبق بدعوات منافية له وداعمة لإعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، ووفق «عزام الأحمد» فإن ما جرى في القطاع في 14 يونيو/حزيران 2007 لم يكن انقلابًا بل تمردًا، استطاعت به حماس أن تُحكم سيطرتها على قطاع غزة بالقوة والسلاح، وأضاف أن إعلانه إقليمًا متمردًا عقاب كان يُفترض أن ينزل بحماس منذ ذلك الحين.

ووقتها ردّ «موسى أبو مرزوق» على تصريحات «الأحمد» في إطار الرفض التام، وأكد أن غزة جزء من فلسطين وأن المقاومة انتزعتها من السيادة الإسرائيلية، مطالبًا السلطة الفلسطينية والأحمد بمنع المستوطنين من الاستيلاء على الأراضي بالضفة المحتلة ووقف سياسة الاحتلال بهدم البيوت في القدس وأراضي الأغوار وغيرها قبل أن يُهددوا بفصل غزة التام عن الوطن.


تداعيات قانونية خطيرة

ويتفق خبراء قانونيون على خطورة التداعيات التي يُمكن أن يُؤدي إليها إعلان قطاع غزة «إقليمًا متمردًا»؛ لأن هذا الإعلان سيُقر بخروج القطاع من حيّز الشرعية إلى «حكم العصابات»، وهو ما يعني قيام السلطة الفلسطينية طلب العون الدولي للعمل على استعادته باعتباره خرج عن إطار السيطرة القانونية للسلطة الوطنية الفلسطينية، ما يشي بانهيار واقع الحياة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية بالتتابع وبغطاء دولي.

ويقول «أحمد حسنية» أستاذ القانون الدستوري بجامعة غزة لـ «إضاءات»:

وأضاف حسنية في حديثه لنا أن ذلك يُنافي القانون الأساسي الفلسطيني، الذي يُخول الجهة السيادية في البلاد حماية كافة المواطنين وحفظ الأمن والنظام العام الذي يُمكنهم من العيش بسلام.

وتنص المادة (84) من القانون الأساسي الفلسطيني على أن «الأمن مكفول للمواطن»، وعلى أن وظيفة السلطة التنفيذية في السلطة الفلسطينية «العمل على الدفاع عن الوطن، وخدمة الشعب، وحماية المجتمع والسهر على حفظ الأمن والنظام العام».

وإلى ذلك أوضح حسنية أن ضمن تبعات الإعلان ستؤدي إلى إخلاء الوجود المؤسساتي الدولي من القطاع باعتبارهم ليس في مأمن، وهو ما يعني توقف عمل وكالة الغوث الدولية «الأونروا»، وإغلاق مؤسساتها في القطاع؛ الأمر الذي سيضر باللاجئين وسيحرمهم من مصدر دخلهم، حيث يعتمد 80% من السكان في قطاع غزة على المساعدات الخارجية لتأمين قوت يومهم.

ويُشير إلى أن السلطة يُمكنها وفي سياق تعميق إجراءات الفصل؛ العمل على إغلاق المؤسسات المصرفية التي تُعد جزءًا من سيادتها، مما سيُدمر الاقتصاد الغزي وسيُنهي الحياة الاقتصادية هناك عبر تضخيم معدلات الفقر التي وصلت إلى أعلى معدلات في العالم بحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بعد بلوغها 65% ناهيك عن ارتفاع معدلات البطالة إلى 47%.

ويبرز محمود عباس كمُخطط ومنفذ لعملية الفصل التام بين قطاع غزة والضفة المحتلة، فهو بإجراءاته السابقة يريد أن يؤكد أن قطاع غزة مُغتصَب ومُسيطَر عليه من قبل قوة حماس، وأنه بعيد عن الضفة المحتلة، وأن مواقفه هي مجرد رد فعل لإجراءات حماس وخطواتها في غزة، وخاصة تشكيلها لجنة إدارية للقطاع تتولى مهام حكومة الوفاق الوطني.


تطرف وفقدان للسيطرة الأمنية

إن الخطورة بعد إعلان غزة إقليمًا متمردًا تكمن في أن المواطن الغزي سيُصبح متمردًا وبالتالي ستتخلى السلطة عن توفير الحماية والأمان له في حال تعرض القطاع لأي اعتداء إسرائيلي.

وتبدو التداعيات أكثر خطورة لدى «حسن عبدو»، الكاتب والمحلل السياسي الذي أشار في حديثه لـ«إضاءات» إلى أن إعلان غزة إقليمًا متمردًا الطلقة الأولى في نعش الاستقرار الأمني الذي تحظى به الأراضي الفلسطينية والمنطقة العربية برمتها، وأضاف أنه لن ينجح في إجبار حماس على المصالحة بالمقاسات التي يُريدها عباس، بل سيكون سببًا في دفع القطاع إلى التطرف والانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، مثل داعش، ما سيؤدي نهايةً إلى فقدان السيطرة الأمنية وانتهاء القدرة على الضبط والنظام – حسب قوله.

ويتفق عبدو مع مصادر الصحيفة العبرية التي تُشير إلى عدم دعم الجهات الأمنية الإسرائيلية لقرار الرئيس عباس بإعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، فهو يرى بعدم إمكانية تطبيقه في الوقت الحالي – على الأقل – والسبب أن إسرائيل والدول العربية المُجاورة تخشى «الدعشنة والإرهاب» ما سيؤدي بها إلى العمل على تعطيل تنفيذ رغبة السلطة.

لقد بدا ذلك واضحًا في رفض إسرائيل قطع الكهرباء بالكامل عن قطاع غزة وفقًا لطلب الرئيس عباس، لكن ذلك لا يعني أنه لن يُطبق أبدًا، فمصدر في السلطة الفلسطينية برام الله – لم يذكر اسمه – قال لـ «الصحيفة العبرية»: «إن تنفيذ القرار لا زال غير واضح باعتباره يُتخذ لأول مرة ويتم دراسة مدى تناسبه مع الدستور الفلسطيني والقانون الدولي».

وفي الوقت ذاته أشار المصدر إلى أن إجراءات عباس الأخيرة بتخفيض رواتب موظفيها في غزة، وقطع رواتب الأسرى المحررين وكذلك أعضاء المجلس التشريعي المنتمين لحركة حماس، خطوة أولى في إعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، كما كشف عن أن الرئيس عباس شكّل فريقًا من المحامين بوزارة العدل في رام الله لبحث آليات تنفيذ الخطوة من الناحية القانونية.