هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ إشكالية تحير الجميع حتى اليوم. يبني الفلاسفة نظريات حولها، ويجتهد العامة لإيجاد قانون يفسر مواقفهم الحياتية. ينقسم الطرفان إلى من يرى أن البشر أحرار منذ بدء الخليقة، ومن يعتبر الحرية مساحة هامشية بإطار «الجبرية» الكبير، مثل مساحة كوكب الأرض إلى الكون ربما.


التنميط في كرة القدم

هذه الإشكالية لم تكن ببعيدة عن كرة القدم، فأول ما نعرف المدرب به هو أسلوبه. ولأننا نعشق «التنميط»، فإن كرة القدم أصبحت مصبوغة بلونين لا ثالث لهما؛ إما كرة واقعية، أو كرة هجومية. لكل لون فيهما سمات خاصة لا يمكن أن تتواجد في الآخر، فمؤيدو الكرة الواقعية لا ينبغي لهم أن يهتموا بأداء الفريق الهجومي، لا يوجد هجوم في الكرة الواقعية، بل يعمدون إلى الدفاع فقط، حتى إن فازوا فذلك يكون عبر ضربة حرة أو بتسديدة طائشة.

أما الكرة الأخرى فقد اتفق محبوها أن يدعوها «الكرة الجميلة». حتى لو لم تعجبك، فالعيب حتمًا فيك أيها الواقعي الذي تهتم بالنتيجة. أهم شيء فيها أن يستحوذ اللاعبون على الكرة، لا يهم عدد الهجمات، لكن عدد التمريرات ضروري. يجب أن يضم الفريق مدافعًا يجيد التمرير، ليس مهمًا أن يراقب لاعبي الخصم، فقط يمرر جيدًا، لأننا –أصحاب الكرة الجميلة- لا ندافع، من يدافع هم أولئك الجبناء.

لماذا ترتبط الكرة الدفاعية دائمًا بمصطلحات مثل «ركن الباص» أو «الملل»، واعتبارها مؤشرًا على ضعف الفريق؟ لماذا ينال الفريق صاحب الأسلوب الهجومي الإشادة مهما كانت النتيجة؟ من قال إن الكرة الدفاعية تعتمد على الدفاع فقط؟ وبافتراض صحة ذلك، كيف يفوز الفريق الذي يدافع دون أن يسجل؟ هل يوجد سبيل للتسجيل إلا بالوصول لمرمى الخصم؟


الكرة الدفاعية هجومها عقيم؟ فكر مجددًا

حسنًا لنستشهد ببعض الأمثلة عن الفرق الدفاعية التي حققت النجاح. إنتر هيريرا، الذي فاز بلقبي دوري أبطال أوروبا على التوالي عامي 1964 و1965، مسجلًا في الأول 16 هدفًا في 9 مباريات، وفي الثاني 15 هدفًا في 7 لقاءات، العامل الرئيسي بالطبع كان الدفاع القوي، حيث لم يتلقّ فريق المدرب الأرجنتيني سوى 5 أهداف في كل بطولة، لكن ذلك لم يصبه بعقم تهديفي.

إذا لم تقنعك أرقام الفريق الهجومية في أوروبا، فلنا في الكالتشيو دليل آخر. حقق هيريرا لقب الدوري الإيطالي مع إنتر ثلاث مرات أعوام 1963 و1965 و1966، ومسجلًا –وفق نظام الـ 34 مباراة-56 هدفًا و 68 هدفًا و 70 هدفًا على التوالي، وبفارق كبير عن أقرب المنافسين.

تعرض جوزيه مورينيو خلال فترته مع ريال مدريد إلى انتقادات كبيرة بسبب «أسلوبه الدفاعي»، ورغم أن البرتغالي لم يحقق النجاحات المنتظرة منه، إلا أنه فاز بالليجا عام 2012، وسجل رقمين قياسيين في عدد النقاط بـ 100 نقطة، وكذلك عدد الأهداف في هذا الموسم بـ 121 هدفًا. ولا أظن أنني بحاجة لذكر أن الملكي سجل 16 هدفًا في الأدوار الإقصائية لدوري الأبطال أكثر من أي فريق آخر في البطولة قبل أن يخرج بضربات الترجيح أمام بايرن ميونخ.

أنطونيو كونتي، مدرب آخر يُنتقد كثيرًا بسبب طريقته الدفاعية -التي تحتوي على شق هجومي واضح- ربما لأنه من بلاد اتخذت من الدفاع سلمًا نحو المجد، نجح في تحقيق الدوري الأكثر صعوبة في العالم في موسمه الأول وبفارق مريح عن أقرب ملاحقيه؛ توتنهام. كونتي، هذا المدرب الدفاعي نجح في تسجيل 85 هدفًا مع فريقه، أي بمعدل 2.2 هدفًا في المباراة. هل تأكدنا الآن أنه لا مانع من أن يمتلك الفريق «الدفاعي» هجومًا فتاكًا؟


عناصر خفية في المستطيل الأخضر

يعتمد كثير من المدربين على أن الدفاع هو أهم شيء في كرة القدم، فالهدف سيأتي في أي وقت من ضربة حرة أو من هجمة مرتدة، هؤلاء يفترضون أن التمركز والرقابة والترحيل أمور أصعب في تطبيقها من مراوغة الخصم بالكرة. فابيو كابيللو هو أحد أشهر رواد هذه النظرية بالطبع. ويبدو أن يوهان كرويف المدرب الذي لديه فكر مناقض له تمامًا يتفق معه في هذه الجزئية.

أثبتت الإحصائيات أن اللاعبين يمتلكون الكرة لمدة ثلاث دقائق كمتوسط في المباراة، الشيء الأهم هو ما تفعله خلال الـ 87 دقيقة المتبقية عندما لا تمتلك الكرة.
تصريح سابق لـ«يوهان كرويف».

لكل مدرب فلسفة يرى من خلالها كرة القدم، ويسعى لتطبيقها في أسلوب لعب فريقه، وهذه الفلسفة قد تكون مشتقة من رؤيته لعدة أمور في الحياة، مثل الحظ والتوفيق والاجتهاد والموهبة، ولعل أبرزها هو تعريفه للحرية نفسها، وبالتالي مقدار ما يتيحه للاعبيه من مساحة للإبداع، هل بإمكانهم أن يغيّروا في ظروف المباراة؟

كرة القدم ليست عادلة، الكل يعرف هذا. فالفِرق ليس لديها الإمكانيات نفسها، سواء المادية أو الإدارية أو الفنية، وتحتاج أحيانًا أن تتكيف مع ظروف مباراة ليست الأقوى فيها، لكن الأمر الجيد أن الفوز لا يحدده عنصر القوة فقط، هل سمعت عن التوفيق؟ إنه مصطلح تألفه جيدًا الثقافة الكروية في العالم كله وليس عندنا فقط، ورغم أن الجميع يتحدث عنه، لكنك لا تجد له شكلًا معينًا تستطيع أن تعرفه من خلاله، هذه المرة لا يوجد تنميط! هو فقط يظهر عندما لا تتوقعه، ويختفي وأنت في أمس الحاجة له، وفي مرات قليلة يأتيك عندما تستحقه فعلًا.

«اللي يضيع يقبل»، جملة شهيرة للمعلق عصام الشوالي. لم يكن أول من قالها بالطبع، لكنها اختزال لمبدأ كروي يجمع عليه أغلب مشجعي اللعبة وممارسيها. في الواقع لا يوجد علاقة بين أن يهدر فريق عدة فرص ثم يتلقى هدفًا عكس سير اللعب، لكن تاريخ الكرة يعج بسيناريوهات من هذا النوع إلى حد صار المدرب –الخبير والصغير- يشعر بالرعب لو أضاع لاعبوه الفرص تلو الأخرى، ويتأهب –نفسيًا- لتلقي صدمة الهدف العكسي.


جوارديولا والإيمان المفرط بالحرية!

هذان العنصران ليسا فقط من يحددان نتيجة المباراة، يوجد أيضًا هوس ظهر تحت تأثير السحر الذي خلفه «برشلونة بيب» العظيم، يتمثل في رغبة مقلديه بامتلاك الكرة أكثر من الخصم، والتمرير حتى الموت، ويبقى الفارق الجوهري في لعبة المساحات التي أتقنها الإسباني، وبالتالي عندما تجد خصمًا لا يجيدها يكون من الغباء ألا تستغل حماقته.

المساحات يا عزيزي هي كرة القدم، بشقيها الدفاعي والهجومي، والذكي هو من يعرف متى بالضبط يكون مخيرًا ومتى يكون مسيرًا في الملعب. كأس المر التي شربها جوارديولا كثيرًا في دوري الأبطال كانت ربما لعدم تقديره الكافي لهذه النقطة، فبسبب إيمانه المفرط في “حرية الاختيار”، ومبالغته بالرغبة في فرض السيطرة على كل شيء، خسر مباريات حاسمة كان الأقوى فيها، أحيانًا على الورق، وأحيانًا على الورق وفوق الميدان.

الفيلسوف الإسباني الذي غيّر في كرة القدم، شاء من شاء وأبى من أبى، والذي يسيطر ربما أكثر من أي مدرب آخر على مسببات الفوز وظروف المباراة، وقع في فخ آخر، واعترف ضمنيًا أن عمله التكتيكي ومهارات لاعبيه قد لا تكفي دومًا لفك طلاسم دفاع منافسيه، بل إنه يحتاج مساعدة من الخصم حتى ينتصر! فمع الصعوبات القليلة التي واجهها بيب، مع فريقه هذا الموسم، شكا أكثر من مرة من الأسلوب الدفاعي الذي تنتهجه بعض الفرق ضد سيتي، مطالبًا الخصوم بأن يلعبوا «كرة شجاعة»، وكأنه يطلب منهم: «هيا تقدموا وافتحوا المساحات حتى نسجل نحن!»

لا شك أن الإنسان حر، لكنه حر فيما يستطيع أن يسيطر عليه. انظر حولك لتجد قوانين الطبيعة منذ ملايين السنين، تتحكم في مصير البشر إذا قررت إعلان غضبها. وصلنا إلى القمر والمريخ، وما زلنا لا نمتلك الكلمة العليا في كوكبنا، وقمة تطورنا تتمثل في بعض الإجراءات الوقائية للحد من خطر الطبيعة. كرة القدم لا تختلف كثيرًا، هل اللاعب عندما يصيب إحدى القائمين يكون قد اختار ذلك؟ اللاعب حر في تسديد الكرة، لكن مسألة دخولها للمرمى –بجانب المهارة والدقة- يتحكم فيها أحيانًا قدرٌ من التوفيق أو الظروف الخارجة عن إرادته.

تلك هي نظرة مغايرة للكرة الدفاعية، بعيدًا عن من يطبقها لأنه تعوّد عليها، أو من يدّعي أنه يلعب بشكل واقعي، وهو لا يفعل شيئًا سوى وضع 11 لاعبًا أمام المرمى، إلا أنك تجد أيضًا فرقًا تبدع في تنفيذها، وينهون المباراة بفرص محققة أكثر من الخصم صاحب «العرض الهجومي». راجع مباراة الذهاب بين تشيلسي وبرشلونة. في الدفاع تجد فلسفة مكتملة الأركان، تصلح للتطبيق في الحياة كما في الكرة، تخبرك أن الأضعف بإمكانه أن يفوز، وأن الصبر والانضباط قد يصلان بك إلى مكانة لن تصل لها بموهبتك فقط، كبيرة أو صغيرة كانت.