هذا المقال هو الحلقة الأولى ضمن قراءة مطولة في كتاب «الانتقال الديمقراطي وإشكالياته» للمفكر السياسي الفلسطيني عزمي بشارة.

في محاولةٍ لتعميق فهم الديمقراطيين لمهمتهم، يُقدم عزمي بشارة كتابه الجديد، «الانتقال الديمقراطي وإشكالياته». يضع المفكر السياسي المعروف بحثه في إطار نظري، لكنه ليس حبيس النظرية، بل نظري في إطار هموم المجتمعات العربية، بالنظر إلى أن الديمقراطية، والانتقال إليها، هو الموضوع الأبرز الذي تتطلع إليه المجتمعات، خصوصًا الواقعة تحت الحكم الاستبدادي.

يخبرنا الكتاب في مقدمته أن الديمقراطية المعاصرة لابد لها من ثلاثة مكونات رئيسية. أولها المشاركة السياسية القائمة على المساواة بين المواطنين في القيمة، واعتبار أن جميعهم لديه الحق في تقرير مصيره، والتأثير في القرارات التي تمس مصيرهم مثل الانتخابات العامة. المُكوّن الثاني وهو حكم القانون الذي يضع حدودًا للسلطات لمنع التعسف في استخدامها، وتحديد مدة وصلاحيات كل سلطة. أما الثالث فهو ضمان الحقوق السياسية والحريات المدنية، التي يحميها المكوّن الثاني، ومن دونها يصبح المكوّن الأول غير موجود في الأساس، أو يُمارس شكليًا فحسب.

لكن يؤكد الكاتب أن الديمقراطية ليست بنظام الحكم المثالي، ولا هي النظام الطبيعي الذي يجب أن يكون قائمًا، أو يُفترض بكل الدول أن تصل إليه إذا تُركت تتطور وحدها دون تدخل خارجي. كما أن الديمقراطيين ليسوا هم قوى الخير في مواجهة شرور العالم. وكونها البديل الوحيد المطروح حاليًا لا يعني حتمية نجاحها، ولا يبرر تجاهل إخفاقات وأزمات الأنظمة الديمقراطية في الدول التي انتقلت إليها حديثًا.

لهذا فالحديث عن الديمقراطية ليس لأن انتخاب الحكام هدف قائم بذاته، كما يحدث في المعارك والسجالات السياسية، لكن لأن الديمقراطية هي من تحمل الإجابة المباشرة في ما يتعلق بحماية المواطنين من تعسف السلطات. وليس كما يحدث في عديد من الأنظمة التي استطاعت، عبر المستفيدين منها وعبر الإعلام، أن تُحمّل محاولات التغيير أو الرغبة في تغيير نظام الحكم، مسئولية عنف النظام العكسي. فبات المواطن المتطلع لحياة أفضل هو المسئول عن العواقب الوخيمة التي تحدث نتيجة رفض الأنظمة القيام بالإصلاحات. كما حملّوه مسئولية استخدامهم أقصى درجات القمع في مواجهة مطالبه.

الشعوب ليست جاهزة للديمقراطية؟

على ذِكر المواطنين يذكر الكاتب أن الأنظمة الحاكمة لا ترفض الديمقراطية لذاتها، ولا تدحض الأساس النظري أو الأخلاقي للديمقراطية، لكنها دائمًا تقول إن الشعب ليس جاهزًا للديمقراطية بعد، وأن المجتمعات العربية عمومًا لا تصلح أن تُحكم بشكل ديمقراطي. لكن ما نكتشفه، وسنكتشفه بمزيد من التفاصيل، أن المطلوب لانتقال ديمقراطي ليس توافر ثقافة ديمقراطية عند عموم الناس. بل يكفي أن توجد تلك الثقافة عند النُخب المؤثرة في المجتمع، وعند النُخب السياسية بالأخص.

كما يُفند الكاتب هذا اللبس الحاصل عربيًا عند نقد الديمقراطية وخلطها بالليبرالية. فيتم تصوير الديمقراطية باعتبارها فعلًا ليبراليًا فردانيًا غربيًا، بالتالي مناقض لثقافة التضامن الأهلية المحلية. ولهذا تقوم بعض الدول بإعادة إنتاج ديمقراطية خاصة بها، تُسمى «الديمقراطية الشعبية»، التي لا تعدو كونها نظامًا سلطويًا. لهذا تبرز أهمية دراسة جذور الانتقال الديمقراطي، والأهم هو الشروط البنيويّة للديمقراطية.

بصفة عامة فإن دراسات الانتقال من النظام السلطوي إلى الديمقراطية تعتبر نقدًا جدليًا لنظريات التحديث، خصوصًا تحديد نظريات التحديث لشروط بنيوية للديمقراطية. وعكس ما هو معروف، فإن شروط الديمقراطية لا تنبع من تاريخ الديمقراطية في الغرب، بل من ظروف ديمومتها والحفاظ عليها. لهذا فهي تقوم بالأساس على التمييز بين المجتمع التقليدي والحديث. ورغم ذلك فإن مركبّات عملية التحديث وتعاقبها الزمني هي صيرورة عالمية، إذا جرت في الغرب فسوف تجري في أماكن أخرى. وهي تبدأ بالتمدين الذي يزيد من نسبة التعليم ويُعرض الناس لوسائل الاتصال.

لكن هناك معضلة حين يحاول العرب، الشرق أوسطيون، إنجاز ما أنجزه الغرب. إذ إنهم يحاولون تحقيق ما تم في الغرب عبر قرون في فترة وجيزة. هذه الرغبة في الاختصار تؤدي إلى تعقيد عملية التحديث، خصوصًا في وجود الإثنية المركزية في الشرق الأوسط. بجانب انتشار القوميات المتطرفة، ورهاب الأجانب كذلك. فقد أصبح العداء للاستعمار يعني رفض كل ما يمكن أن يكون وصايةً أجنبية.

الشخصية التنقليّة

أو ما كما يقول دانيال ليرنر، رائد تطبيق المقاربات التحديثية على إيران وتركيا، إن الشرق أوسطيين يريدون المؤسسات الحديثة لكن ليس الأيديولوجيات الحديثة. يريدون السلطة الحديثة دون أهدافها، والثروة الحديثة دون الحكمة الحديثة، ويرغبون في البضائع الحديثة لكن ليس النزاعات والميول الحديثة. ويقول ليرنر إن العنصر الأهم في الحداثة هو الشخصية التنقليّة، أي الإنسان القادر على اختيار مكان عمله وسكنه، والتنقل كما يشاء. ويظل لديه القدرة على تصور نفسه في مكان آخر بشكل دائم.

ووفقًا لليرنر، فإن المشاركة السياسية هي نتيجة أخيرة لعملية التحديث، فالحكم الديمقراطي يأتي متأخرًا تاريخيًا تتويجًا لنشوء مؤسسات المجتمع. آدم شيفورسكي، أحد أهم باحثي الانتقال للديمقراطية، لخص نظرية التحديث بمتواليات. فالتحديث عنده عبارة عن صيرورات تمايز وتخصص للبني الاجتماعية، تصل إلى ذروتها في فصل البنى السياسية للمجتمع عن البنى الاقتصادية والبنى التقليدية للمجتمع. تلك المتواليات تبدأ من التصنيع ثم التمدين والتعليم والاتصالات والحراك الاجتماعي والطبقي، ثم أخيرًا نشوء الاتحادات السياسية.

لكن هذا الانتقال لا يعتبر ذا أهمية إلا إذا انتقل الفرد معه من مرحلة إلى أخرى، ما يؤدي إلى نشوء الشخصية الحديثة أو التنقليّة. حاول ليرنر قياس هذا الانتقال بعدة أسئلة بسيطة، ماذا كنت ستتصرف لو كنت مكان رئيس تحرير جريدتك المفضلة؟ ماذا لو كنت رئيسًا للدولة؟ الشخص المناسب للمرحلة هو الذي سيجيب عن تلك الأسئلة دون أن يرفضها أو يتهرب منها. وحين يجيبون فسوف يكون لديهم بالفعل آراء في القضايا العامة. أما الشخص التلقيدي فسوف يرى أن القضايا العامة ليست من شأنه.

أما انتقال المجتمع نفسه من التقليدية للحداثة فقد حددها تالكوت بارسونز بعدة متغيّرات نمطية. أولها نشوء العلاقات المحايدة، بدلًا من التأثر بالعاطفة، في عمليات التعيين والتشغيل. ثانيها التوجهات الفردية بدلًا من الجماعية، فأفكار الفرد ومصالحه وآراؤه هي التي تحكمه. أما ثالثها فهو العلاقات الجزئية مقابل العلاقات الكونية، فالعلاقات لا تقوم على المعرفة، بل على تعاقدات ومصالح. ورابعًا قيام المؤسسات بتقييم الأفراد بناءً على الكفاءة والتحصيل، لا المنزلة الاجتماعية. وأخيرًا تميز الأعمال فيها بالتخصص دون البعثرة في مجالات مختلفة.

كل الشروط ضروية وغير كافية

لكن لا معنى لكل تلك الشروط دون إرادة الفاعليين السياسيين، فكل عامل من تلك العوامل ضروري لكنه غير كاف في ذاته. فلو تحققت شروط الديمقراطية لا يتوقع أن تنشأ فجأة بمفردها. كما أنها لا تولد بقرار سياسي صرف، أو بمطالبة شعبية فورية. فالمجتمع والنظام السياسي والمعارضة، كلهم مسئولون عن توفير الظروف المواتية لنشأة الديمقراطية أو تحديث المجتمع للانتقال إليها.

ليسمور مارتن ليبست، صاحب واحدة من المحاولات المبكرة في مجالات العلوم السياسية، أراد أن يحدد عددًا من الشروط الموجودة بالفعل في عدد من البلدان ليقول إن الديمقراطية نشأت بسبب هذه الشروط، ورسخت بسبب مؤسسات داعمة لها، وبسبب صيرورات صيانة ذاتية. لكن ليست خلطًا بين الشروط التاريخية لنشوء الظاهرة، وشروط إعادة إنتاجها.

فنجاح الديمقراطية يحتاج إلى شروط أيضًا. منها كفاءة السياسيين المرشحين للانتخابات. لهذا نجد جوزف شومبتير، يقترح تكوين القيادات السياسية وتهيئتها. كذلك يقول شومبتير بضرورة الامتناع عن توسيع المجالات الخاضعة للقرار السياسي، فالديمقراطية لا تتطلب خضوع كل شيء للتنافس السياسي. وهذا التحديد للمجال السياسي مهم للحفاظ على مؤسسات مثل القضاء والجيش.

كذلك يلفت الرجل النظر إلى كفاءة البيروقراطية، فالنجاعة لا تكفي، بل يجب أن تكون البيروقراطية قادرة على تطوير مبادئها الخاصة بما يكفي لتوجيه السياسيين المنتخبين. بحيث تصبح البيروقراطية سلطة في الدولة. لكن شومبتير بذلك لا يتلفت إلى أن البيروقراطية قد تصبح لها أجنداتها الخاصة كذلك. فهي تقع فتعريف الدولة العميقة التي جعلت البيروقراطية الأمنية والعسكرية تفرض توجهاتها على السياسيين.

ومن أهم الشروط التي وضعها شومبتير هي الانضباط الديمقراطي، وهو ما يمكن تعريفه اختصارًا بولاء كل الأطراف، الناخب والمُنتخب والحكومة، للتجربة الديمقراطية. ما يعني أنه على الناخب التسليم بأن السياسة مهمة السياسيين، وأن عليهم ترك الحكومة تقوم بمهامها بين الانتخابات والأخرى. ما يعني أيضًا أن الديمقراطية في جوهرها فعل نخبوي، تحيّد الجمهور عن السياسة، ولا تحب الضغط والاحتجاج وغيرهما بين الانتخابات والأخرى.