(1)

في «ساحة الحسين الآلاف تهتز وكأنها ذرات، تبدو من السماء كأنها بقعة مضيئة في قلب القاهرة، الكل ينساب من الأزقة والحارات إليها، فهي المقصد ولا مقصد غيرها، هي هكذا منذ أن جاءت الرأس الشريفة إلى تلك البقعة. تبدلّت العصور وانقضت السنون ولا تزال هي القطب، وكأن عمار تلك الأرض ارتبط بوجود الرأس الشريفة وخرابها لن يكون إلا بفنائها، وكيف تخرب وأجساد الشهداء لا تبلى؟

و«الشيخ علي» كما هو قابع في مكانه في طرف الساحة، بلباسه الأبيض ولحيته الشيباء الكثّة، تراه عاكفًا على مسبحته الخضراء، ساهِم الطرف، هادِئ الروع، الكل في تلك الليلة موجود، ولكن لا شيء يهمه وهو متصل برب الوجود.

«اسعَ… اسعَ… اسعَ…» تتردد الكلمات على مسامع «إبراهيم» وهو في طريقه إلى الساحة المعمورة. كلمات معتادة في تلك الليلة لحثّ الناس على الحركة وعدم التكدس، ولكن شَعرَ إبراهيم أن تلك الكلمات تقصده هو فقط، فقد جاء ساعيًا إلى الخلاص، جاء هاربًا من ذنوبه، إبراهيم ذلك الشاب الذي فعل كل ما طالته يده من معاصٍ. كانت صلاته الأولى أمس، منذ خمسة عشر عامًا. أفاق أمس فقط، عندما حثّت يداه عليها التراب فقط أفاق، كان يلهو معها كالعشرات ممن يعرفهن، ولكنها كانت أقربهن إلى قلبه. بعد أن غُلّقت الأبواب وأُسدلت الستائر وفي اللحظة التي يطرب لها الشيطان لوقوع غافل جديد في الإثم، في تلك اللحظة ماتت، غابت هي ليفيق.

في تلك الليلة لا تستطيع أن تتحرك قيد أنملة، أمواج من الأجساد القادمة من شتات مصر تدفعك جهة الساحة وهذا ما أتى بـ «شريف» إلى هنا، كان يقول إنهم لو دفعوا له النقود لكي يأتي إلى هنا ما فعل! فقد كان يرى أن أركان الجهل تجتمع كاملة في هذا اليوم، ذلك التراث البالي وتلك التخاريف التي ورثها الناس عن أهاليهم، تلك الأشياء مثل «الحضرة» والأحجبة وتقبيل المقام، لا يعلم من أين أتت وكيف ابتدعها الناس؟ هم منْ ابتدعوها ثم قدّسوها حتى أصبحت منهم كالدم من اللحم. لا يعلم شريف ما الذي ساقه إلى الحسين في ذلك اليوم، سوى الذهاب إلى مستشفى الحسين الجامعي، لكي يستلم فحوصات زوجته التي أسقطت جنينها الثاني في ثلاث سنوات، ومن التزاحم وجد أنه مستحيل أن يخرج من الحسين الآن، ربما ساقه القدر إلى هنا لكي يرى الجهل الذي يمقته عن قرب، وليحمد الله أنه ليس من هؤلاء الدراويش.

الآلاف من الأفواه تصدح داعية ومُنشِدة، تختلط الكلمات، تغيب الوجوه وتظهر، الكل له قصته والكل له حاجته، وحاجة إبراهيم أن يجد خلاصه، أين الغفران؟ لو كان يُباع لاشتراه، ولكن لا سبيل إليه إلا الله، وأين طريقه إلى الله؟

دار إبراهيم في أرجاء الساحة باحثًا عن الطريق، هائمًا وكأنه تائه، وكأنه غريق يبحث عمنْ ينجده، يبحث في العيون عن إجابة عن دليل، ولكنها لا تجيبه بل تزيده حيرة، عيون الناس تبدو له جامدة هادئة، عيون آمنة وكأنها على الشط وهو الغريق، أكُلّ هؤلاء يعرفون الطريق وهو الضليل؟ لو لم يجد الطريق الآن لهلك. الموت بدا أقرب مما تصور، وذنوبه تحتاج لغافرها، ربما تكون الإجابة عند أحد هؤلاء الشيوخ الذين يرتدون العباءات البيضاء والعِمم الخضراء حتى، يقولون عنهم دراويش ومجاذيب، ولكن هل الدنيا هي العاقلة؟

– يا شيخ، عايز أتوب يا شيخ، دلِّني على طريق ربنا، ذنوبي تلال وهو الوحيد القادر وهو الوحيد القاهر.

– روح يا ابني الحضرة فيها البركة وفيها ذكر الله، روح يمكن تنفتح لك الأسرار وتكون من المصطفين الأخيار.

(2)

«النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها».

هكذا يردد الشيخ علي، عشرات السنين وهو هنا يُردد تلك الكلمات، عشرات السنين وهو يجلس في طرف الساحة حتى أصبح جزءًا منها يعرفه مرتادو المسجد، لكن لا أحد يعلم من أين جاء ومتى، هل هو متزوج؟ هل لديه أهل أم وُلد يتيمًا وحيدًا؟ أين كان قبل أن يسكن الساحة؟ أسئلة شغلت مرتادي المسجد في بادئ الأمر، لكن مع مرور السنوات نسوا متى كانت الساحة خالية منه، حتى في تلك الليلة من كل عام عندما تنشغل الساحة بآلاف المريدين؛ لا يغيب بينهم، سوف تجده لا محالة، فمن المحال أن تقف بجواره ولا يرعى انتباهك بلباسه الأبيض ومسبحته الخضراء، وحتى إن لم تره فصدى كلماته لن يغيب عنك: «النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها».

هذا ما حدث لـ شريف، عندما وقف بجوار الشيخ علي على مدخل السرادق الذي تُقام فيه الحضرة، فقد أحس شريف حينها أنه ليس بجوار أحد الدراويش الذين اعتاد رؤيتهم، ولكي يُنهي ذلك الإحساس الذي داخلَه حول الشيخ علي، وليثبت لنفسه أن ذلك الرجل مثله كمثل الدراويش الجهلاء الذين يمقتهم، أطلق عليه سؤالاً ليكون شهادة على دروشته:

– هل تعرف يا سيد (ففي رأي شريف أن ليس كل من لديه لحية ويرتدي عباءة يُقال له شيخ) أن للحسين مقامًا في كربلاء بالعراق أكبر من هذا المقام بكثير، ويرتاده الملايين وليس الآلاف؟ وإذا قلنا إن جسده فقط هو المدفون هناك وأن رأسه الشريفة هي المدفونة هنا، فهناك خمسة أماكن أخرى يُدّعى دفن رأس الحسين فيها من كربلاء ذاتها إلى البقيع إلى تركمانستان إلى الشام إلى عسقلان، وفي كل منها يزور الناس المقام مُعتقدين أن الحسين مدفون فيه، فماذا لو عرفت أنك قضيت عمرك بأكمله قيد أوهام وأضعته وأنت تحمي السراب؟

– ومن قال إن مكان دفنه يعنيني؟ فليُدفَن في أي مكان، ولكن سيظل ذكره هنا، هكذا أراد الله لرسوله وآل بيته، في كل بقاع الأرض، سيظل يُذكر الحسين شهيدًا للحق، الأمر ليس بالأجساد، الأمر أن يصل الدعاء لرب العباد.

– ولكنك لا تدعو له فقط بل تقضي حياتك كلها بجوار ذلك المسجد وكأن الجنة فيه.

– وما العجب في أن يجاور المُحِب حبيبه؟ حبيبي من نسل خير الأنام، مولاي الحسين ابن بنت رسول الله، أيكون بيننا حفيد رسول الله وأهجره؟ نعم الجنة ليست في المسجد ولكنها منه، فمنْ له الشفاعة الكبرى غير سيدي رسول الله؟ ومنْ أقرب إليه من حفيده؟ ولا أسأل الله سوى أن يغفر لي ويُشفّع فيّ رسوله:

آلُ النبيِّ ذريعتي… وهُمُو إليْهِ وَسِيلَتِي
أرْجُو بهمْ أُعْطَى غَدًا… بيدي اليمين صحيفتي

لم يكن لشريف رد على الشيخ علي، ولكن اقتناعه بكلامه معناه أنه سيهد المعبد على معتقده في الدراويش الذي آمن به ودافع عنه طيلة حياته، إلى أن جاء صوت تلك المرأة عاليًا في الأفق:

– يا حسين، يا سيدي، يا ولي النعم، كمّل حملي على خير المرة دي، كفاية الولاد اللي سقطوا، ونذرًا عليا لو طلع ولد لأسميه حسين وأجيبه خادم لمسجدك.

– أَسمِعت يا سيد؟ حتى الحسين أدخلوه في الحمل والوضع، والله لو كنت أعلم أن الحسين له دخل في ذلك لاختصرت على نفسي وقصدت المقام قبل المستشفى، فأنا امرأتي أسقطت مرتين هي الأخرى.

– لو قالت تلك المرأة يا رب لكان خيرًا لها.

– أنت الذي تقول ذلك أيها الدرويش! كيف؟

(3)

«الله… حي… الله… حي… الله… حي…».

تخرج هادرة من قلب الحضرة، العيون زائغة والأجساد تلتوي يمينًا ويسارًا. التوى إبراهيم هو الآخر، التوى أشد الالتواء، وقالها بكل ما فيه «الله… الله… الله…»، نسي كل شيء وهو يقولها وتذكّر ذنوبه وتذكرها، صورتها وهي تحت التراب لم تغب عنه ولو للحظة، سيكون في مكانها، سيُغلق عليه قبر مظلم، سيريد أن ينطق فلا يقدر، سيحثونه بتراب ويتركونه.

«الله… الله… الله…» علا صوته بها أكثر، التوى بشدة، ولكن ماذا بعد؟ أهكذا يغفر الله له؟ أكلما علا صوته وصل؟ أكلما التوى أكثر تُنفض عنه الذنوب؟ أهذا هو السبيل؟ بكل تأكيد لا. لم يشعر أنه ارتقى… فذنوبه ما زالت تثقله، والطريق لم يظهر، والأجل يقترب. نظر حوله يطلب النجدة قبل أن يفوت الأوان، نظر في العيون الزائغة ربما هناك شيء ينقصه، ربما أخطأ في شيء، بحث في العيون، وجدها مُنصبّة في جهة واحدة، جهة إناء ضخم في نهاية السرادق، يقف عليه رجل سمين يرتدي ملابس الدراويش ولكنه لم يكن يشارك في الحضرة، مهمته فقط أن يُراقب ذلك الإناء ويحفظه من تلك الطيور الجارحة، فالحضرة يمكن أن تُعوَّض في أي وقت، لكن ذلك الإناء لا يحضر سوى مرة في العام. صاح الرجل السمين (درويش اللحمة):

– يا ضيوف الحسين… تعالوا كلوا من خير ولي النعم، الخير كثير ببركة سيدنا والحمد لله والكل هياكل، مش عايز خناق.

وما كاد يتم كلماته حتى توقفت الحضرة وانطلق الجميع يتهافتون على الإناء، ولم يبق سوى إبراهيم، خلا السرادق من الجميع إلا واحد، بعباءته البيضاء والمسبحة الخضراء، يقبع الشيخ علي في مكانه، رآه إبراهيم فأوقن أنه ليس من دراويش اللحمة أو ليس من الدراويش:

– يا شيخ، سألتهم عن الغفران فقالوا بيد الله لا بيد سواه، فسألت عن الله، فقالوا اسعَ له تلقاه، وسألت عن السعي، فقالوا في الذكر فبالذكر تُختار، وسألت عن الذكر فقالوا في الحضرة القرار، فذهبت وانضممت ولكني انفصمت، هلّلت ومِلْت وما وصلت، فهل من الذنب مُنعت أم في خطأ وقعت؟

– والله يا بني أنهم قالوا حقًا يُراد به الباطل، يا بني إن ربي يقول في حديثه القدسي «من تقرَّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا، وإذا أقبل إليّ يمشي أقبلت له أهرول»، فأقبِل يا بني وقل أذنبتْ، وابكِ وقل أخطأت، واندم وقل في الإثم وقعت، وتعهّد على أنك عن الذنب رجعت وعن العصيان امتنعت، اعلم يا بني أن الله قريب، وأنه سميع مجيب وأن رحمته سبقت غضبه، وأنك إذا أحببت لقاءه أحب لقاءك. يا بني يقول ربي في كتابه ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول جل جلاله ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. يا بني أحسن الظن بالله واسأل الله العفو وأنت موقن بالإجابة، يا بني إن الله قد كتب على نفسه الرحمة فلا تقنط. يا بني كلما تذكرت الدنيا تذكر فناءها ولا يغرّك جمال وقتها. يا بني افعل كما أمرك الرسول «قل آمنت بالله ثم استقم». يا بني لا خير في تهليل وميْلّ والقلب من الورع زيل (بعيد)، قم يا بني صلِّ فرضك وأرضِ ربك، واعلم يا بني تلك الكلمات وعِها، ففيها الصلاح وخاب من ينافيها.

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت
إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها
إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها
وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها
أَينَ المُلوكُ الَّتي كانَت مُسَلطَنَةً
حَتّى سَقاها بِكَأسِ المَوتِ ساقيها
أَموالُنا لِذَوي الميراثِ نَجمَعُها
وَدورُنا لِخرابِ الدَهرِ نَبنيها
كَم مِن مَدائِنَ في الآفاقِ قَد بُنِيَت
أًمسَت خَرابًا وَدانَ المَوتُ دانيها
لِكُلِّ نَفسٍ وَإِن كانَت عَلى وَجَلٍ
مِنَ المَنيَّةِ آمالٌ تُقَوّيها
فَالمَرءُ يَبسُطُها وَالدَهرُ يَقبُضُها
وَالنَفسُ تَنشُرُها وَالمَوتُ يَطويها.

(4)

خَفَّ الزحام وقارَب الفجر والفرصة الآن سهلة لـ شريف لكي يغادر الحسين، لكي يستريح من ذلك الجهل، ولكنه بقي ولم يغادر، فحديث ذلك الشيخ لم يُهدّئ له بالاً، كان كلامه سليمًا، لو سمع تلك الكلمات منذ زمن لتغيرت آراؤه. طوال عمره كان يرى أن كل هؤلاء الدراويش جهلاء، كان يمتلئ بالغضب عند رؤيتهم، كانوا هم رمز ساحة الحسين بالنسبة له، فأبعدوه عن تلك الساحة الطاهرة، لكنه اليوم نَدِم على ذلك البعد، بالفعل كيف يكون حفيد الرسول بيننا ولا نزوره؟ كيف يكون أعظم شهداء الحق طرًا بيننا ولا نُقدِّره؟ نحن نصلي ونسلم على آل بيت رسول الله في كل صلاة، كيف أصلي وأسلم عليه في صلاتي، وأتجنب زيارته، آه لو كان كل الدراويش مثل ذلك الشيخ، بل لو كنت أنا مثله، أُحب دون أن أُعمى.

كان ذلك الشيخ تفسيرًا لأبيات قرأتها منذ زمن وما فهمتها سوى اليوم، إذ يقول الإمام الشافعي:

فَقيهًا وَصوفِيًا فَكُن لَيسَ واحِدًا
فَإِنّي وَحَقُ اللَهِ إيّاكَ أَنصَحُ
فَذَلِكَ قاَسٍ لَم يَذُق قَلبُهُ تُقىً
وَهَذا جَهولٌ كَيفَ ذو الجَهلِ يَصلُحُ.

(5)

أذّن الفجر، ووقفت الجموع تصلي. كان صوت تهدجه مرتفعًا، بكاء وتوسل لا ينقطعان. ماذا بربه فعل لكل هذا؟

كان كل فرد يسمع صوته يتعاطف معه ويدعو له. أحس الجميع بأنهم مقصرون بأنهم بعيدون، فهم لا يستطيعون أن يخشعوا مثله كل ذلك الخشوع ويبكوا كل ذلك البكاء. شعروا أنهم غارقون في الذنب وهو الوحيد الناجي. استمر في البكاء حتى السجدة الأخيرة ثم انقطع، كان التوقف فجائيًا.

ماذا… هل ضمن الجنة؟ هل رأى رؤيا؟ هل نبح صوته من البكاء؟

سلّم الإمام واتجهت العيون جميعها نحوه يغالبها الفضول لمعرفة منْ هو، وماذا حدث.

«لا إله إلا الله… وحّدوا الله»… انطلقت عبارات التوحيد بعدما وقعت العيون عليه، فقد سجد ولم يقم. كان شابًا صغيرًا، كان إبراهيم.

صلى عليه الناس صلاة الجنازة بما فيهم شريف، وخرج جثمانه يحمله حشد من الناس ليذهبوا لدفنه، لكن شريف لم يذهب معهم لتشييعه، فقد حان وقت قضاء ما فاته، إذ دخل إلى المقام ليُسلِّم على سيدنا الحسين ذلك السلام الذي تأخر لسنوات.

«النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.