أربع زيارات قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو لدول أفريقية منذ عام 2016 حتى انتهاء ولايته عام 2021. تأتي تلك الزيارات لتعلن عن أن شيئًا مختلفًا يحدث بين إسرائيل وأفريقيا، خاصة بعد القطيعة الأفريقية لإسرائيل بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، قطيعة دامت قرابة 40 عامًا، أخذت إسرائيل حاليًا في تجاوزها، بل في خلق علاقات شديدة الدفء مع القارة السمراء.

تتألف القارة من 54 دولة، 40 دولة منهم باتت تمتلك علاقات متينة مع إسرائيل، ومن بين الأربعين توجد 10 دول تحتوي على سفارات إسرائيلية مثل جنوب أفريقيا، وكينيا، ونيجيريا، والكاميرون، وأنجولا، وإثيوبيا، وإريتريا، وغانا، وساحل العاج، والسنغال. كما تمتلك 15 دولة أفريقية سفارات في تل أبيب.

فضلًا عن أن العديد من قادة جيش الاحتلال باتوا يسافرون بحرية إلى دول عديدة لتدريب جيوش تلك الدول، على رأسهم إثيوبيا وزامبيا وساحل العاج. يصف الإعلام الإسرائيلي هذا التعاون العسكري باسم الدبلوماسية العسكرية، خصوصًا أن التعاون بات يشمل تعيين ملحقين عسكريين إسرائيليين دائمين بدول أفريقية. الداخل الإسرائيلي يُرحب بهذه الدبلوماسية لكنه يخشى أن تتلطخ صورة إسرائيل الخارجية، كدولة ديموقراطية تساعد دول أفريقيا الديكتاتورية في قمع شعوبها عسكريًا.

وهو تخوف لا يأتي من فراغ فحجم النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا يمكن ترجمته بمبيعات الأسلحة، فغالب أسلحة الدول الأفريقية هي أسلحة إسرائيلية. خاصة دول مثل رواندا وجنوب السودان والكونغو حيث تكثر الحروب الأهلية وعمليات القتل الجماعي في تلك البلدان، وقد باعت إسرائيل لأفريقيا ما قيمته 170 مليون دولار من الأسلحة، ويزداد ذلك الرقم بنسبة 2.5% سنويًا.

نتنياهو مهندس هذا التقارب وفيلسوفه صرّح سابقًا عن فلسفته في هذا التغلغل داخل أفريقيا قائلًا بأن إسرائيل تعود لأفريقيا وأفريقيا تعود لإسرائيل. العودة تعني أنهم كانوا لبعضهم من الأساس، وهذا ما تؤمن به إسرائيل، إذ تحاول تكوين صورة متماسكة عن وجود يهودي عتيق وقديم في أفريقيا.

لأجل مصر قاطعوا

إن المواقع الإسرائيلية دائمًا ما تتحدث عن تواجد غير رسمي لإسرائيل في أفريقيا، 32 دولة تحديدًا، منذ ستينيّات القرن الماضي، لكن ذلك التواجد تراجع أو اضطرت الدول لإخفائه بصورة مكثفة بسبب تصاعد التوتر المصري الإسرائيلي عام 1973.

الروايات الإسرائيلية ليست خاطئة تمامًا في هذا الصدد، فالعلاقات الإسرائيلية الأفريقية قديمة ومرّت بمراحل نمو عدة، بدأت تلك المراحل بالتجاهل. منذ لحظة تأسيس إسرائيل وهي لم تكن تبالي بالحصول على اعتراف من الدول الأفريقية الفقيرة التي يرضخ أغلبها تحت الاستعمار الغربي. لكن عام 1957 اكتشفت إسرائيل أهمية القارة السمراء حين انعقد المؤتمر الأفروالآسيوي في إندونيسيا، حيث لم تتلق إسرائيل دعوة لحضوره لرفض معظم الدول ذلك.

بسبب تلك الصفعة أدركت إسرائيل القوة الأفريقية الكامنة وبدأت في غزو أفريقيا بقواتها الناعمة، فافتتحت أول عاصمة لها في غانا. كما نشطت جولدا مائير، وزيرة الخارجية الإسرائيلية في فترة الستينيّات، بزيارة العديد من الدول الأفريقية مثل نيجيريا والسنغال.

لكن ذلك التقارب بدأ يتهاوى مع نكسة عام 1967، إذ استطاعت الدبلوماسية العربية أن تستصدر العديد من القرارات الدولية بإدانة إسرائيل، فأعادت الدول الأفريقية تعريف علاقاتها بإسرائيل وقطعتها في الأغلب. وكما كان التراجع بسبب مصر، كان التعافي بسبب مصر. زيارة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات لإسرائيل صدمت الأفارقة، لكنهم ما لبثوا أن استفاقوا وأعادوا علاقاتهم الودية مع إسرائيل.

رغم وجود مصر كعامل مشترك بين التراجع والتحسن، إلا أن الواقع يؤكد أن كل خطوة تخطوها الدول الأفريقية تجاه إسرائيل هي خطوة في نفس الوقت بعيدًا عن مصر، والتقارب الأفريقي الإسرائيلي يعني تباعدًا مصريًا أفريقيًا.

سد النهضة

العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية تعتبر نموذجًا مثاليًا يوضح كل أهداف إسرائيل من التقارب الأفريقي، وكل أدواتها كذلك. فإسرائيل حرصت على التحريض الدائم بين دول المنبع وبين مصر والسودان. تريد إسرائيل من ذلك تطويق مصر والسودان وتحجيم نفوذهما التاريخي.

يمكن فهم عمق العلاقات بين البلدين بمعرفة أن قوات الجيش الإثيوبي الفيدرالي أجرت عملية خاطفة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 لإجلاء 9 إسرائيليين كانوا متواجدين في إقليم التيجراي. لم يتم الكشف عن سبب وجود 9 مواطنين/ خبراء إسرائيليين في إقليم التيجراي المشتعل، لكن الأمر يلقي الضوء على الوجود الإسرائيلي المستتر في إثيوبيا، والذي بات أكبر من إنكاره.

فإثيوبيا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، كما أنها من المبادرين لاستضافة سفارة إسرائيلية فيها. كما أن إثيوبيا، طبقًا لكلام آريه عوديد في كتابه إسرائيل وأفريقيا، كانت هي الدولة الوحيدة التي ظلت محتفظة بعلاقتها العسكرية كاملة مع إسرائيل رغم القطيعة التي حدثت عام 1973.

تواجد في إثيوبيا على مدار سنوات 300 فرد إسرائيلي لتدريب الجيش الإثيوبي، كما استضافت إسرائيل دفعة من الطيارين الإثيوبيين لتدريبهم على الاشتباك الجوي. ثم لاحقًا بدأت عمليات استضافة يهود الفلاشا الإثيوبيين في إسرائيل، لتدخل بذلك العلاقات بين البلدين فصلًا جديدًا من الود الذي لا ينقطع. ومع كل خطوة إسرائيلية لدعم إثيوبيا العلني عسكريًا، الخفي فيما يتعلق بسد النهضة، فإن إسرائيل تقامر بتلقي رد غير متوقع من مصر والسودان، لكن يبدو أن إسرائيل لا تبالي.

ماذا تريد إسرائيل؟

العلاقة التبادلية يريد طرفاها الربح، إسرائيل ترغب في استخدام الموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول الأفريقية. فوزارة الاقتصاد الإسرائيلية تقول إن الشركات الإسرائيلية ستحقق أرباحًا بقيمة 700 مليون دولار كحد أدنى بمجرد زيادة الصادرات الإسرائيلية لأفريقيا.

 كما تريد استغلال أجواء أفريقيا لتقليل ساعات السفر بينها وبين دول أمريكا اللاتينية. كما تريد إسرائيل أن تصنع تكتلًا من الدول الأفريقية يكون حائط صد أمام القرارات الدولية التي قد تُتخذ ضد إسرائيل. وقد نجحت إسرائيل بالفعل في جعل بعض الدول الأفريقية لا تصوت ضدها في بعض مشاريع القرارات دخل الأمم المتحدة.

لكن إسرائيل تطمح لتقارب أكثر، فهي ترغب في جعل الدول الأفريقية ككتلة واحدة كبيرة لا تكتفي فقط بالامتناع عن التصويت ضدها، بل تريدهم أن يصوتوا لصالحها. مالت بعض الدول بالفعل لإسرائيل لكن جنوب أفريقيا تقف عثرة أمام طموح إسرائيل بالتكتل الواحد المناصر لها، فدولة جنوب أفريقيا لا تنسى لإسرائيل وقوفها بجانب نظام الفصل العنصري.

أما الدول الأفريقية فتريد من إسرائيل أن تُمهد لها الطريق نحو البيت الأبيض، وتكون الوسيط الذي يفتح أبواب التقارب الأمريكي أمام تلك الدول. وهو ما تحقق في حالة أوغندا التي زارها نتنياهو عام 2016 في ذكرى وفاة شقيقه جوناثان نتنياهو الذي لقي مصرعه في غارة الكوماندز الإسرائيلي الشهيرة على الطائرة التي اختطفها فلسطينيون في مطار عنتيبي عام 1976.

بتقارب إسرائيل مع أوغندا حدث تقارب مفاجئ بين أوغندا والولايات المتحدة، فأرسلت أوغندا قواتها إلى الصومال والعراق وأفغانستان، وفي المقابل دفعت لها الولايات المتحدة 750 مليون دولار سنويًا كمساعدات، بالإضافة لـ 170 مليون دولار على هيئة مساعدات عسكرية.

كينينا هي الأخرى تشهد تقاربًا إسرائيليًا حتى أن أوهور كينياتا، الرئيس الكيني آنذاك، كان هو من وجه الدعوة لنتنياهو لزيارة كينينا أثناء وجود الأول في تل أبيب. وتحوي كينيا على أكبر وأهم كنيس يهودي في أفريقيا ويبلغ عمره 200 عام.

قيادات صُنعت في إسرائيل

قد يبدو التغلغل الإسرائيلي في القارة السمراء تغلغلاً قائمًا على المصالح فحسب، لكن الحقيقة أن إسرائيل تعتمد على أدوات أكثر وأعمق من مفهوم المصلحة المجردة. فإسرائيل مثلًا تلعب على وتر التراث الثقافي المشترك فتحاول تسويق نفسها لدول أفريقيا باعتبارها دولة تعرضت للقمع العنصري وللعنف، ما يعني أنها تتشارك ذلك الماضي الكئيب مع أفريقيا.

فالتاريخ المأساوي المشترك خلق حالةً من التعاطف، وفي نفس الوقت حالة من الانبهار في بعض الدول الأفريقية بالنموذج الإسرائيلي الذي استطاع أن يتغلب على ماضيه المأساوي ويصبح بلدًا تنمويًا ورائدًا اقتصاديًا.

بجانب أداة الاستخبارات والخدمات الأمنية والتدريبات العسكرية وتجارة السلاح، فإسرائيل هي المقصد الأول للأفارقة في كل ما سبق. فتسعة عشر جيشًا أفريقيا تلقوا تدريبهم العسكري على يد إسرائيل، وهناك قاعدة عسكرية إسرائيلية في إريتريا يوجد فيها 600 خبير عسكري إسرائيلي. وتقول المراكز الإسرائيلية إن قرابة 25 ألف أفريقي تلقوا تدريباتهم العسكرية في مراكز إسرائيلية أو على أيدي خبراء إسرائيليين.

بالطبع لا تحصل كل الآلاف المتدربة على نفس الاهتمام، فإسرائيل تولي اهتمامًا خاصًا بالأشخاص ذوي النفوذ أو المنتمين لأقليات مضطهدة وتساعدهم على أن يكونوا رؤساء أو أشخاص نافذين على الأقل مثل موبوتو سيسيسيكو، وميليس زيناوي في إثيوبيا، وأسياس أفورقي في أرتيريا، وجون جارانج في جنوب السودان، ويوري موسيفيني في أوغندة، وبول كاجامي في رواندا.

مساعدة أسماء بعينها لتصل لمناصب قيادية يعني أن إسرائيل تمارس لعبة سياسية أخرى تعتمد فيها على النزعات الانفصالية، وممارسة النفخ في النار حتى تحرق الجميع. فهي تدعم الطرف وضده، الانفصالي والقومي، وتأليب العربي على الأفريقي، والرابح دائمًا هي. والخاسر هو أفريقيا أكثر قارات العالم تشرذمًا، وأشدهم معاناةً من آثار الاحتلال، وآخر قارات العالم التي رحل عنها الاحتلال.