لا حرب تُحسم من الجو، لا بد من النزول للأرض، والهجوم البري واجب. هذه القاعدة بسيطة هي ما تحدد طبيعة القتال في قطاع غزة منذ اللحظات الأولى للقصف الجوي الإسرائيلي العنيف، فالواقع يقول إن هذا القصف الوحشي يجب أن تتلوه أو ترافقه، عملية برية يضع العدو فيها يده على الأرض التي أحرقها، ويلتقط فيها بآلياته وجنوده صورةً للنصر تعوّض هزيمته المهينة في عملية طوفان الأقصى التي انطلقت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023.

لكن المقاومة الفلسطينية من جهتها تدرك ذلك أيضًا، لهذا من المنطقي أنها استعدت لصد هذا التقدم البري، ومنع الاحتلال من الحصول على صورة النصر ورفع معنويات جنوده. بدأت القوات الإسرائيلية في التوغل في قطاع غزة تحت غطاء من القصف الجوي غير المسبوق الذي سوّى أحياء سكنية بالأرض على رؤوس ساكنيها، وأحرق حتى المناطق الزراعية غير المأهولة.

بدأت إرهاصات الدخول البري في 14 أكتوبر/ تشرين الأول، إذ طالب الجيش الإسرائيلي أكثر من 1.1 مليون مواطن من غزة بالانتقال إلى جنوب القطاع في خلال 24 ساعة. تزامنت هذه الدعوات مع قيام إسرائيل بحشد غير مسبوق للآليات والقوات على مشارف القطاع. أعطى ذلك انطباعًا بقرب بداية العملية البرية، لكن رفض الأهالي النزوح ومغادرة منازلهم عقّد الأمور، وبات من الصعب على الجانب الإسرائيلي الدخول في مناطق مكتظة بالسكان.

ليس حفاظًا على أرواح السكان الفلسطينيين طبعًا، لكن محاولةً لتقليل خسائر العدو من هذا الاجتياح. توصل العقل الإسرائيلي المدعوم بكافة التغطية السياسية والإعلامية الدولية إلى حل هذه المعضلة، الاستمرار في قصف السكان المدنيين بقنابل مهولة الأوزان حتى تصبح المناطق السكنية مجرد ركام فوق لحوم بشرية، حينها قد يصبح من اليسير دخول الاحتلال والحصول على الصورة التي يريدها بشدة.

بعد أيام طوال من القصف ونصائح الحلفاء بعدم التوغل البري قررت إسرائيل تغيير خطتها من الاجتياح الشامل إلى عمليات برية صغيرة تتم ببطء وحذر. دون حتى إيضاح الأهداف التي تقصدها إسرائيل، ليس بسبب الضبابية، بل بسبب ستار من السرية، على حد تبرير «واشنطن بوست» لهذه الضبابية.

ثم في الأيام الأخيرة من أكتوبر/ تشرين الأول نشر الاحتلال صورًا بالأبيض والأسود تظهر دبابات وجرافّات ومدرعات تتحرك نحو غزة، لكن دون الكشف عن أعدادهم ولا عمق توغلهم ولا حتى عن أماكن وجودهم التي يفترض أنهم سيطروا عليها ومشطّوها. ذلك التكتم الشديد بدا أنه لسبب بسيط، القوات لم تحقق أي تقدم يُذكر. وهو ما يؤكده المحللون الإسرائيليون أن القوات الإسرائيلية توجد فحسب على أطراف القطاع وفي المناطق المهجورة والزراعية.

وبدأت إسرائيل حراكها البري بالقرب من بيت حانون في شمالي غزة، والبريج بوسط القطاع. فيما يكشف هذا النهج أن إسرائيل تحاول تطويق القطاع تدريجيًا. ثم تُلحق القيادة الإسرائيلية جنودًا لتعزيز جنودها الذين سيطروا على منطقة ما. يبدو النهج بطيئًا للغاية عكس الحروب الأربعة الكبرى التي خاضتها إسرائيل ضد حماس في قطاع غزة.

لكن هذا التوغل البطئ يشير إلى أن إسرائيل حاليًا باتت ترمي إلى شيء أقل بكثير من القضاء الكامل على حماس كما قالت في بداية الحرب. لكن حتى هذه الوتيرة البطيئة لا تسير وفق السيناريو الإسرائيلي المرسوم. ولم تنجح أي قوة إسرائيلية في تثبيت أي نقاط ارتكاز أو سيطرة داخل القطاع أو الأحياء السكنية المهمة. رغم أن القوات الإسرائيلية دخلت بالفعل حي الشجاعية، وتقدمت كذلك لجنوب غزة، لكن المقاومة كانت بانتظارهم.

والأهم أن شارع صلاح الدين الحيوي الذي يربط شمال القطاع بجنوبه لا يزال خاليًا من أي سيطرة إسرائيلية في أي نقطة فيه، وتسيطر عليه المقاومة. وحتى العمليات التي قام فيها الاحتلال بالهجوم بحرًا جهة شارع البحر، الموازي لصلاح الدين في الأهمية، لم تستطع القوات الإسرائيلية الصمود لأكثر من بضع ساعات ثم تراجعت مرة أخرى.

خصوصًا وأن القتال التي تمارسه المقاومة، ككل قتال أصحاب الأرض، هو قتال شوارع. تستخدم فيه المقاومة مسيّراتها، وخبرتها بالتضاريس، والأنفاق المتشابكة. كما تتعرض إسرائيل فيه لكمائن معدة سابقًا، وكتل خرسانية ستقف في صف ابن الأرض المدافع وتتيح له الدفاع والهجوم، وتقف أيضًا عائقًا في وجه المحتل، وتمنعه من التقدم.

وهو ما أثبتته الأيام الأخيرة بإعلانات المقاومة المتتابعة عن نجاحها في التصدي للتوغلات البرية الإسرائيلية. ما اضطر إسرائيل إلى تغيير تكتيك الحرب المستخدم من الاختراق والتراجع، حتى استنزاف المقاومة ونفاد أسلحتها، إلى الإعلان أن المرحلة القادمة ستكون تحت عنوان النار والمناورة. حيث تستمر المقاتلات الجوية في قصف الطرق والسكان تمهيدًا لتحرك القوات البرية نحو مناطق حيوية.

وهو ما تقوم به إسرائيل حاليًا في شارع التوام، الموازي لصلاح الدين والرشيد. وتطمح من خلالهما للوصول إلى مستشفى الشفاء التي يصر الاحتلال أن حماس لديها مقار قيادة أسفلها. كما يتيح للجانب الإسرائيلي تجاوز مخيم الشاطئ. لكن بالطبع سيكون على القوات الإسرائيلية تمشيط كل منزل في طريقها، وهو ما يستحيل القيام به، لهذا تريد إسرائيل فصل شمال القطاع عن جنوبه بعمق 6 كيلو مترات.

وهذا الفصل ممكن القيام به نظريًا، وعملياتيًا كذلك، لكن التحدي ليس قطع المسافة بالمدرعات والآليات تحت غطاء من القصف الجوي، لكن التحدي هو الثبات على الأرض والصمود في وجه المقاومة وعدم التراجع. لهذا كثف الاحتلال أمس قصفه الجوي للمناطق الشمالية من غزة، مثل جباليا وبيت لاهيا. يرافقها قصف مدفعي عنيف كذلك.

بينما قوات الاحتلال تتركز في المنطقة الوسطى من غزة. ويحاول الاحتلال عبر قواته المتمركزة عند معبر إيرز تشتيت انتباه المقاومة عن توغلاته في المناطق الوسطى. فخلق الاحتلال عبر هذا القصف المدفعي والنيراني مناطق خالية من السكان والحياة بعمق عدة كيلو مترات في محيط القطاع.

ما مكنّها من التوغل في مناطق رخوة في أحياء الزيتون. والتمركز عند بدايات شارع الرشيد، محور العطاطرة والتوام. وهى المحاور المرتبطة بشارع النصر، الذي يؤدي بدوره إلى الأحياء الوسطى في مدينة غزة. لكن تمركز القوات الإسرائيلية في المناطق السابقة ليس له أهمية في حد ذاته، فهى أماكن فارغة من السكان.

لكن المقاومة الفلسطينية لم تنتظر وصول الاحتلال إلى مناطق ذات أهمية أكبر، وبادرتها بالهجوم في أماكن تمركزها. خصوصًا حين تتحرك قوات الاحتلال عند محور التوام، أو داخل شارع الرشيد. لذا فمنطقة العمليات التي تشهد اشتباكات قوية بين المقاومة والاحتلال هى المناطق أعلاه، وقت كتابة التقرير.

كما أن قوة الدبابات الإسرائيلية تحاول التوغل جهة شارع 10 وشارع 8، وهما شارعان مهمان يربطان شرق القطاع بغربه، واستطاعت التوغل لمسافة فيهما، تحت غطاء كثيف من القصف الجوي. كذلك بالقرب من حى تل الهوى، ومحيط مستشفى الصداقة التركي، يتعرضان لقصف شديد. كي تؤمن القوات الإسرائيلية نفسها وتوفر لنفسها منطقة خاوية جديدة تستطيع التمركز فيها. وبهذا التمركز، رغم أنه في مناطق خاوية، فإنه سيؤدي لفصل المناطق الشمالية عن المناطق الجنوبية حتى وادي غزة. وهو المنطقة التي دعت القوات الإسرائيلية المواطنين الفلسطينين إلى التوجه إليه.

رغم أنه في غالبية تصريحات المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي لا يتم الحديث عن البدء الرسمي للعملية البرية، فإنها قد بدأت. وتحاول إسرائيل بالقصف العنيف جوًا وبرًا أن تخلق مناطق مطوّقه بالنيران كي يسهل الإجهاز عليها بالدخول البري لاحقًا، لكن كل ذلك يبدو في خيال جيش الاحتلال فحسب، فالمقاومة استطاعت حتى هذه اللحظة تكبيد العدو أثمانًا باهظة لعملياته البرية ما يجبره في كل مرة تغيير خططه وفق مستجدات المقاومة على الأرض.