لطالما كانت فكرة الهوية والانتماء ركيزة أولى في المجتمعات الحديثة، وذلك مع انتشار خطابات القومية. ومن هنا تنبع أهمية تتبع الركائز التي قامت عليها الدول والحركات القومية المختلفة، ومن أهم هذه الركائز هي اللغة الموحدة والثقافة، والأدب شكل خاص، لكونه من أكثر ما يُثري المجتمع ثقافياً.

ومن الجدير بالذكر أن الأدب بأشكاله المتنوعة قد شكَّل أرضية صلبة لقياس المجتمعات. فمثلاً، شعر المقاومة الفلسطيني برز في فلسطين وأخذ اسم المقاومة نظراً للبعد السياسي والتاريخي في القضية الفلسطينية في ذلك الوقت. وعليه كان من الواجب كتابة أدب يحمل رسالة الشعب وثقافته. وهذا الأدب كان يُكتب باللغة العربية واُعتبر عربياً فلسطينياً، أي اندرج تحت اسم العربي بناءً على عامل اللغة، وفلسطينياً بناء على فكرة الوطن. لكنه سرعان ما أصبح قومياً ودرجت فيه الرواية والمسرحية في مختلف البلدان العربية نظراً لبحثها عن الاستقلال والسيادة ومناهضة ديكتاتوريات الحُكَّام. فاتخذ مفهوماً أوسع في العالم العربي، واتَّبع القومية، لكنه لا زال محافظاً على خصوصيته كأدب مقاومة فلسطيني.

ومن هنا يبرز التساؤل:

هل يمكن اعتبار الأدب العربي أدباً قاصراً على اللغة العربية؟ أم يمكن التوسع في هذا الأمر لضم جانب الأنساق العربية الثقافية المختلفة؟

النقد الثقافي للنصوص الأدبية

للإجابة عن هذا الجدل علينا الترفع عن كلاسيكية النقد الأدبي الذي التزم بالنظر إلى النص الأدبي بوصفه قيمة جمالية، وكان يجري دائماً لكشف هذا البعد الجمالي وتبرير أي فعل للنص – مهما كان – تحت مبدأ الأصل الجمالي. [1]

وبدلاً من ذلك، يتم الاتجاه إلى كسر محور النص الجمالي، من خلال التطرق للبعد الثقافي للنص، وهنا يظهر النقد الثقافي للنص. فبحسب مفهوم الدراسات الثقافية: ليس النص سوى مادة خام، والنص ليس هو الغاية القصوى للدراسات الثقافية، وإنما غايتها المبدئية هي الأنظمة الذاتية في فعلها الاجتماعي في أي تموضع كان بما في ذلك تموضعها النصي، أي ما تعكسه ثقافة المجتمع على الأدب. [2]

فالكاتب مهما بلغ إبداعه ونضج نصه لا يمكنه التنصل من التعبير عن ثقافته المجتمعية بفعل عامل الذاكرة والانتماء. فعلى سبيل المثال الكاتب والمفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد»، لطالما كتب في كتبه عن الإمبريالية والاستشراق وإعداد المثقف، وهذا ما أتى إلا بسبب ما عاشه هو كفلسطيني. كذلك فقد عبَّرت سيرته الذاتية وحياته الشخصية – من حيث تنقله بين عدة أقطار عربية حتى استقر في أمريكا – عن المجتمع الفلسطيني.

والأمر الملفت للانتباه أن كل ما كتبه سعيد هو باللغة الإنجليزية، لكنه عبَّر عن مشاكل مجتمعه وقضاياه المختلفة وصولاً لصراعاته السياسية، وهذا وإن وُجد في سيرته الذاتية فهو لا ينتقص من قدرها شيئاً لكونها كُتبت باللغة الإنجليزية، بل هي تثري المنتوج الفلسطيني الثقافي.

على الرغم من ذلك، يبقى النقد اللاذع أن الأدب المكتوب بلغة غير العربية يكون أدباً مزدوج الانتماء والهوية. لكون الكاتب ينتمي لثقافتين وللغتين، لكنه يفضل الكتابة بلغة غير العربية ويستطيع التعبير عن نفسه أفضل من خلالها. ومثال على ذلك، قيام الكاتبة الفلسطينية البريطانية «غادة الكرمي» بكتابة مذكراتها «البحث عن فاطمة» باللغة الإنجليزية. وتشير إلى أنها كانت ستختار أن تكتب مذكراتها بالإنجليزية لو كان خيار الكتابة بالعربية متاحاً لها، بسبب اعتقادها أن الجمهور الأهم الذي يحتاج أن يقرأ قصتها وقصة معضلة الفلسطينيين هو الجمهور الأجنبي الذي لم يعش الاحتلال.

الأدب القومي والأدب الفرنكفوني

وفي مقاربة أخرى، هناك تجربة قوية في أدب شمال أفريقيا في هذا المقام. حيث ظهر مصطلح «التباسات الهوية» في الأدب، في إشارة إلى الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية وظهور ما يُسمى بـ «الأدب الفرنكفوني». فهل هم عرب حقاً كثقافة وكحالة أدبية أم هم عرب فقط من جانب عرقي؟

وفقاً لمعيار اللغة – وهو معيار قاصر في القياس – يتم تصنيف هذا النوع من الأدب على أنه أدب غير عربي، وذلك إذا تم اتباع منهج المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، الذي يعتبر اللغة شرطاً للمقارنة، إلى جانب التسلسل التاريخي للنص. وعليه فإن الأدب المكتوب بلغة غير العربية مثل ثلاثية الكاتب الجزائري «محمد ديب»، ورواية الكاتب السوداني جمال محجوب «أجنحة من غبار»، لا يمكن تصنيفها ضمن الأدب العربي، على الرغم مما أثرته في الحركة الأدبية ككل.

وبالتالي تستمر الحاجة الماسة لإيجاد منهج موضوعي لتصنيف الأدب العربي. وإذا وضعنا في الاعتبار مقولة «الكرمي» حول أنها تستهدف الجمهور الغربي، إذن فعلينا مراعاة أغراض الكاتب للكتابة بلغة مغايرة عن لغته الأم. فتبرير «الكرمي» ينطبق أيضاً على تبرير الشاعر الفلسطيني «بسمان الديراوي» الذي يكتب باللغة الإنجليزية وتُرجمت أعماله إلى الألمانية، لأنه ببساطة يرغب في إيصال معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة للقارئ الغربي، ولذلك فهو يعتمد اللغة الإنجليزية في هذا الفعل. فهل هذا انتقاص من الأدب الذي يكتبه؟

هناك آخرون يكتبون بلغة مغايرة لعدم قدرتهم على امتلاك ملكات التعبير الكافية في لغتهم الأم، ومثال على ذلك الأدب الجزائري قبل التحرر وبعده. كما أننا نجد الكاتب الباكستاني «محسن حامد» يكتب عن مشكلة الشرق والغرب والفجوة الثقافية وهجرات الشباب الباكستاني لكن باللغة الإنجليزية. ويعتبر أدبه إنجليزياً لتحقق شرط اللغة، وباكستانياً – بعد الترجمة – لتحقق شرط الثقافة المجتمعية.

فنحن ككُتَّاب، وبحكم حميتنا للغة العربية، نتمسك باللغة كمحور للنقد والمحاكمة، لكن نتناسى جانب العولمة والتداخل النصي في الأدب. من منَّا لم يتأثر بالثقافات المختلفة وكتب عنها وقارنها مع مجتمعه على سبيل المثال. وتصدق هذه المقارنة أكثر في الكُتَّاب الذين يملكون أكثر من لغة، فإلى أي حد يمكن للعامل اللغوي أن يفرض سيطرته على العامل الأدبي؟

مع العلم أننا إذا ما طبقنا مبدأ الانفتاح الثقافي الأدبي بشكل رسمي، فسرعان ما ستجد أعمال أدبية متأثرة من الثقافة الغربية. مثال أعمال «علاء الأسواني»، والتي طالما شكَّلت أعماله جسراً بين الثقافة العربية المصرية والثقافة الغربية بمختلف نقاط الالتقاء والتنافر. وهذا يثير حفيظة الانتماء؛ هل يكون انتماءً جغرافياً أم لغوياً عند التعامل مع الأدب؟

فعلى سبيل المثال أدباء المهجر أمثال «جبران خليل جبران» و«ميخائيل نعيمة» كتبوا بالإنجليزية. لكنهم جغرافياً (قومياً) عرب. لكن يُحسَب أدبهم أدباً عربياً. فوفقاً لاستطلاع بين الأدباء والأكاديميين في مجال الأدب والنقاد اعتبر 77.4% منهم أن أدب المهجر أدب عربي بحت، حتى إن كان منقولاً بلسان عربي من خلال الترجمة. [3]

نحن نعيش في زمن العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، وصارت الأعمال الأدبية العربية تتخطى حيزها الإقليمي عبر الترجمة والمسابقات الأدبية مثل كتارا والبوكر. فرواية «ساق البامبو» للكاتب «سعود السنعوسي» تم ترجمتها لأكثر من لغة بعد فوزها بجائزة البوكر. كما أن الأدب المكتوب بلغة غير العربية يسهم في تخطي الأدب العربي لهذه الحواجز الجغرافية.

لكن يبقى الجدل متأزم: هل يمكن اعتباره أدباً عربياً، ويُمثل الأدب العربي بمفهومه النظري أم لا؟

وفقاً لعينة الاستطلاع التي استهدفت أكاديميين وكُتَّاباً من العالم العربي، فإن النسبة تفاوتت بفارق بسيط، حيث اعتبره 54.8% أدباً لغوياً في حين 45.2% اعتبروه أدباً قومياً. وأشادوا برفع شأن الثقافة لكون الأدب مستمداً بشكل رئيسي من ثقافة المجتمع على اختلاف اللغة المكتوب فيها.

 

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. عبد الله الغذامي، “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، المركز الثقافي العربي، ط3، 2005، ص15.
  2. Richard Johnson, “What Is Cultural Studies Anyway”, Duke University Press, 1987, p. 75.
  3. نتائج استطلاع رأي قامت به الباحثة في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2020.