استقرت مصر أربعة قرون تقريبًا تحت الحكم العثماني؛ وذلك منذ دخول السلطان سليم الأول إليها في سنة 923 هـ/ 1517 م، إلى أن انفصلت عن السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين، عندما فرضت بريطانيا حمايتها عليها في سنة 1333 هـ/ 1914 م، وأنهى هذا الانتداب علاقة مصر الرسمية بالباب العالي في الآستانة.

وخلال تلك القرون الأربعة مرت بلادنا بفترات عصيبة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وعانى الفقراء والمهمشون أشد المعاناة من أزمات غلاء الأسعار، ونقص الطعام، وضيق الأرزاق، ولمواجهة تلك الأزمات اعتمدت السلطنة سياسة «الإرصاد»، وأبقت على ما كان قائمًا منها وزادت عليه، وهي سياسة تشبهُهَا سياسة الدعم والضمان الاجتماعي في الدولة المعاصرة.

كانت تلك السياسة معروفة ومستقرة من قبل العصر العثماني، ويرجعها بعض المؤرخين إلى عهد عبد الملك بن مروان، وتتحدث المصادر التاريخية أن أول من وقف الأراضي من بيت المال هو السلطان نور الدين الشهيد بناء على فتوى ابن أبي عصرون الشافعي (ت 585 هـ/ 1189 م) أجاز فيها «الإرصاد» من بيت المال «إعانة للمستحقين في بيت المال على وصول حقهم منه؛ لَمَّا كان وصولُ الفقهاءِ والفقراءِ والضعفاءِ إلى الملوك وأخذهم منه متعذرًا أو متعسرًا». ثم حذا صلاح الدين الأيوبي حذو نور الدين الشهيد واحتذى بهما السلاطين من بعدهما حتى العصر العثماني في الأخذ بسياسة الدعم وتعزيز مؤسسات الضمان الاجتماعي.

الفقهاء من جانبهم اعتبروا «الإرصاد» نوعًا من الأوقاف الخيرية المجازية (غير الحقيقية؛ إذ لا يصح الوقف من غير مالك الشيء الموقوف). والإرصادات يُخصِّصها السلطان أو نائبه من أموال بيت المال للمصلحة العامة. وشمل مفهوم المصلحة العامة في عرفهم: بناء المدارس، والمشافي، ودور الأيتام، والنساء العجائز والأرامل، والتكايا، والأسوار، والأسواق الخيرية، وأسبلة مياه الشرب، ورعاية الفقراء والمعوزين. وأخذ هذا الدعم صورًا عينية متعددة منها:

  1. الجوامك، وهي رواتب منتظمة، كانت تُمنح في صورة ملابس أو قماش، قبل أن تتحول إلى مبالغ نقدية.
  2. الجرايات، وهي مخصصات كانت تمنح في صورة طعام وشراب. وكان المستفيدون من ذلك هم أهل الفئات والجهات التي صنفوها ضمن “المصلحة العامة”، أو ضمن: «المشترك العام» بتعبير الزيلعي في كتابه «تبيين الدقائق شرح كنز الحقائق».

وكان بعض الولاة الذين يرسلهم السلطان العثماني لمصر في أوقات الأزمات والشدائد يسعون للسيطرة على تلك الإرصادات وضمها إلى خزينة الدولة، ثم إلغاء الدعم المخصص للفقراء وأصحاب الحاجات وذراري الجند والفقهاء في صورة جوامك وجرايات. ومن ذلك ما رواه الشيخ عيسى الصفتي الحنفي المصري (ت 1143 هـ/ 1730 م) أنه حدث في سنة 1121 هـ/ 1710 م؛ أن حضر وزيرٌ عثماني جديد واليًا على مصر اسمه إبراهيم باشا القُبطان، وكان ذلك في عهد السلطان أحمد الثالث الذي جلس على عرش السلطنة العثمانية من سنة 1115 هـ/ 1703 م إلى سنة 1143 هـ/ 1730 م.

يقول الصفتي إنه بعد قدوم هذا الوالي الجديد بوقت قصير، ماتت جماعة من أكابر مصر من العلماء والأشراف وقادة الجند ورؤساء النواحي، وعندما كَشف هذا الوالي عن ثرواتهم من الجوامك والجرايات؛ وجدهم قد أرصدوها (حوّلوها إلى أوقاف) قبل موتهم على أولادهم، وعلى فقراء وعتقاء، وبعضهم أرصدها على زوايا وجوامع وغير ذلك من أعمال البر والخير العام. فقام بعمل حصر لجميع الجوامك المرصدة على الأولاد والعيال، وأراد إلغاءها وضمها لخزينة الدولة.

وكانت المفاجأة أن عسكر مصر وأكابرها وفقهاء المذاهب اجتمعوا على معارضة الوالي الجديد إبراهيم القبطان فيما عزم عليه. وسجّل لنا الشيخ عيسى الصفتي ما جرى في رسالة بديعة بعنوان «عطية الرحمن في صحة إرصاد الجوامك والأطيان». وتحوي هذه الرسالة وقائع ما جرى من وقت حضور إبراهيم القبطان إلى مصر في 19 من ذي الحجة سنة 1121 هـ، إلى يوم عزله يوم 15 رجب سنة 1122 هـ (20 يناير سنة 1710 م إلى 9 سبتمبر 1710 م)، مرورًا بالحوار المجتمعي الموسع الذي شارك فيه علماء المذاهب الأربعة، والوجهاء، وقادة العسكر، وصولًا إلى رفع المسألة إلى السلطان أحمد الثالث في الآستانة بعد أن عاند الوالي إبراهيم القبطان رأي العلماء الذين لم يوافقوه، وأصر هو على رأيه في إلغاء الدعم ونقض الإرصادات، ثمَّ هدم الأساس التمويلي لشبكة الضمان الاجتماعي.

يقول الصفتي:

إن عسكر مصر وأكابرها تراووا (تشاوروا) مع بعضهم فأفضى رأيهم إلى كتابة سؤال في شأن ذلك، وطلبوا من علماء العصر من المذاهب الأربعة الإجابة عليه، فإن وجدوا الشرع مُساعداً لهم، بقي ما كان على ما كان، وإن لم يكن الشرع مُساعداً لهم سلّموا للوالي بلا معارضة.

نلاحظ أنه بدأ بذكر «العسكر» في وقته، ونص السؤال الذي كتبوه هو:

ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في الجوامك والأطيان والجرايات المرصدة من بيت المال على أولادٍ وعيالٍ، والمرتبات على خيرات مقصود بها وجه الله، هل هي صحيحة إذا رأى السلطان أو نائبه أو نائب نائبه في إرصادها مصلحة للمسلمين، وإجراء للخيرات إلى يوم الدين، وإعانة لمن صاروا بأمور الدين مشغولين، أو لا؟ وإذا قلتم بصحتها، فهل يجوز لمن يتولى بعده من السلاطين، أو الوزراء نقض ما أرصده مَنْ قَبلَهُ، أو لا يجوز له نقض شيء مما أرصد، من الجوامك وغيرها لإضرار النقض بالرعية. أفيدوا الجواب.

ويبدو أن هذا السؤال قد فتح الباب أمام علماء المذاهب آنذاك للاجتهاد، أو على الأقل للتذكير بالاجتهادات السابقة في كيفيات قيام الولاة والسلاطين بمسؤولياتهم تجاه الشأن العام وتجاه الفئات الضعيفة من مستحقي الدعم والضمان الاجتماعي الذي تلتزم به الدولة رسميًا؛ من دون الاتكال فحسب على الأوقاف الخيرية وأعمال الإحسان الاختياري. وظهرت في أجوبتهم ثمرات الجمع بين أصول الفقه وفروعه من جهة، والمقاصد العامة للشريعة من جهة ثانية.

فالسادة الحنفية أجازوا الإرصاد في أجوبتهم على السؤال، ولم يجيزوا نقضه، وعللوا ذلك أصوليًا ومقاصديًا، وكان منهم الشيخ علي بن الحسيني الحنفي، الذي أكد في إجابته على السؤال، على أن:

بيت المال حق العامة، والإمام أو نائبه كالنائب عنهم، فيجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وله اصطناع المعروف في حق غيره؛ حيث كان على وجه النظر والمصلحة، لأن تصرفه منوط بهما، وليس له إبطال حق الغير.

ونقل هذا عنه العلامة «الإتقافي» (كذا لقبه) في شرحه على الهداية قبيل باب الخراج. وجاء في شرح الكنز للزيلعي أن:

للإمام ولاية عامة، وله أن يتصرف في مصالح المسلمين، والاعتياض عن المشترك العام جائز من الإمام، وأنه يجب على الإمام أن يتقي الله ويصرف من مال بيت المال إلى من كان مستحقًا قدر حاجة عياله وأولاده وأتباعه، وإن لم يصرف منه، كان مانعًا للناس من أخذ حقهم؛ ومنع الإنسان عن أخذ حقه حرام بالإجماع.

أمّا السادة المالكية، فقد قرّروا كما جاء في فتوى الشيخ أحمد النفرواي: أن ما وقع من السلاطين السالفة ونوابهم من الإرصادات والأوقاف من بيت المال على جهات البر والصدقة على نحو العلماء والفقراء وعلى ما فيه مصلحة لعموم المسلمين… فإنه صحيح يثابون عليه، ولا يجوز لأحد ممن يأتي بعدهم من السلاطين والوزراء معارضته”. وأشار الشيخ محمد شنن المالكي في جوابه إلى أنه مما يدعم صحة الإرصاد والجوامك «قانون أهل مصر وعرفها مع الدولة العثمانية منذ بدء ولايتهم» (انظر وتأمل في الترهات التي يشيعونها عن الحكم العثماني).

وأكد السادة الشافعية أيضًا على أن تصرف السلطان ونائبه بالمصلحة نافذ معمول به «ولا يجوز لغيره ممن يأتي بعده من ولاة الأمور نقضها. واعتبروا أن من تصرفاته بالمصلحة: المرتبات والإرصادات»، ونقلوا الإجماع على هذا. ووافقهم السادة الحنابلة على ما ذهبوا إليه، وزاد الشيخ أحمد الحنبلي المقدسي فقال: «إن المطلوب من السلطان ونائبه أن يزيد على ما هو مرصود للمصلحة العامة كما هو شأن أهل المروءة والإحسان»، لا أن ينقض ما هو قائم منها وموروث عن السابقين.

يروي الصفتي فيقول أن الأكابر من الصناجق (متصرفين)، والأغوات، والبلكات، والعلماء، والأشراف، اجتمعوا في بيت أمير اللواء قيطاس بك الفقاري دفتردار مصر، وقرروا رفع المسألة للسلطان أحمد الثالث، الذي أجابهم بخط شريف بإبقاء الإرصادات والمرتبات على ما هي عليه. يقول الصفتي: ولما دخل الخط الشريف إلى مصر «حصل بذلك غاية الحظ التام، وصارت الناس تدعي لمولانا السلطان؛ لأنه اقتفى أثر جده السلطان سليم عندما وجد المرصد على الخيرات والقربات والمساجد والمدارس والرباطات نحو ثلثي المال، والباقي هو الثلث للخزينة، فاستكثره بعض وزرائه، وأشار عليه بضمه للخزينة، فلم يقبل وقال: خيرات فعلها من قبلنا، لا نحب أن يكون نقضها من قبلنا، وأمر بإبقاء ما كان على ما كان» (انظر وتأمل في الترهات التي يشيعونها عن الحكم العثماني).

تحتاج رسالة «عطية الرحمن» لكثير من البحث والدرس من زوايا متعددة؛ وخاصة لأنها من الرسائل النادرة التي سجلت مثل هذا الحوار المجتمعي الموسع بتفاصيله المتعلقة بواحدة من أخطر القضايا التي لا تزال تؤرق، ليس مصر وحدها وإنما تؤرق كثيرًا من البلدان في الشرق والغرب. وثمة أسئلة جادة ومتجددة حول هذا الموضوع، منها مثلًا: هل الدعم النقدي المباشر أفضل أم الدعم العيني في تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية؟ وما أثر كل نمط من أنماط الدعم على “العمل” باعتباره نشاطًا له هدف يتمثل في إنتاج القيم الاستعمالية، وعلى بقية عناصر الإنتاج وأدواته وخصوصًا «الأرض» باعتبارها أعم وأهم أدوات الإنتاج المتعلقة بهذا الموضوع؟ وما أثر سياسة الدعم العيني هذه، أو النقدي على رأس المال الثابت (الموارد) ورأس المال المتغير (عنصر العمل)؟

من حسن حظ الباحثين المختصين في السياسات الاقتصادية أن الشيخ الصفتي حرص على توثيق أجوبة العلماء وفتاويهم بدقة بالغة، فقال: «هذه أجوبة علماء أهل العصر من المذاهب الأربعة، ومن خطهم نقلت، وعنهم أخذت» (ص20 من مخطوطة المكتبة الأزهرية). وأثبت وقائع بتواريخها، وحكى عن تحركات قوى اجتماعية وسياسية وعلمائية، وسردها بأسلوب سهل وبالغ الدقة، أين منه أسلوب طه حسين مثلاً!

ما أود التأكيد عليه هو أن مضمون هذه الرسالة يدفع إلى ضرورة إعادة النظر في الفكرة السائدة التي تقول إن الدولة التقليدية القديمة والوسيطة في مجتمعات أمتنا الإسلامية كانت من نمط «الدولة الحارس» التي عرفتها مجتمعات أوروبا، وأنها كانت تقوم فحسب بمهمات الأمن في الداخل والدفاع ضد العدوان الخارجي. وغير صحيح أن تلك الدولة التقليدية لم تعرف سياسة «دعم السلع والخدمات» للمهمشين والفئات الفقيرة، ومحدودي الدخل، بحسب التعبيرات المعاصرة.

وغير صحيح أيضًا أن تلك الدولة كانت بلا قلب اجتماعي رحيم يحنو على ذوي الخصاصة وقليلي الحيلة في السعي والكسب. وعليه يكون غير صحيح –كذلك- أن سياسة الدعم لم تظهر للوجود في فضاء مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إلا عندما اضطرت الدولة في تسعينيات القرن العشرين لتطبيق برامج التكيف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي؛ الأمر الذي أجبرها على الانسحاب من قطاع الإنتاج، وفتح المجال أمام القطاع الخاص ليقوم بتلبية احتياجات المجتمع وفق قانون العرض والطلب ونظام السوق الرأسمالي المتوحش فاقد القلب والإحساس بفقراء الناس. الصفتي فيما سجله في رسالته يفتح بابًا جديدًا للتفكير في منهجيات أفضل لتطبيق سياسات الدعم والضمان الاجتماعي.