للاطلاع على الحلقات السابقة


قلت (في نقاشنا السابق) إن عقولنا محدودة.. ألا يُعد هذا من احتقاركم للعقل لتتمكنوا من السيطرة على الجماهير باسم الدين؟

أجيبك أولًا بخصوص النقطة الأولى، وهي محدودية الإدراك العقلي، وأَدَعُ حديث السيطرة على الناس لاحقًا، لنرتب الكلام..

نعم، تفضل..

نعم، العقول متفاوتة بأصل الفطرة، ولسنا من يقول ذلك، بل يقوله الفلاسفة الإسلاميون وغيرهم، وعلماء الكلام والأديان، وهو ما يقر به علم النفس الحديث؛ فالذكاءات متعددة، وليس كل الناس عنده كل أنواع الذكاءات بالدرجة نفسها. والواقع يدل على تفاوت الناس في إدراك الأمور، وإلا ما وجدنا اختلافًا قط حول أي مسألة من المسائل!

نعم هذا صحيح، فماذا تقصد بالإدراك العقلي الذي تصفه بأنه متفاوت بين الناس، حتى نعرف بعد ذلك إن كان محدودًا أو لا؟

الإدراك العقلي هو توجيه النظر نحو مسألة معينة لنتوصل من معلوماتنا عنها إلى ما لا نعرفه فيها، أي أنك توظف ما تعرفه في سبيل الوصول إلى ما لا تعرفه!

هذا أمر معلوم، فاستخدام العقل يساعد الإنسان ويحسّن من حياته، ولولا العقول الجبارة ما صنع الإنسان أي حضارة ولا وصل إلى ما وصل إليه الآن من تقدم وتفوق في العلوم!

لكنها لا تكفي في معرفة الإنسان بحقيقة هذا الوجود، فالتقدم في العلم لا يجيب على كل الأسئلة التي تشغل بال الإنسان!

كيف ذلك؟!

إن معرفة الإنسان بتركيب العناصر، أو كيفية زراعة الأرض وبناء السفن العملاقة، وعلمه بالنجوم والكواكب وكافة الفنون والعلوم والآداب، إنما هو علم بظاهر الحياة الدنيا وليس بحقيقتها، هذا إن سلمنا أن الإنسان وصل في هذه الأمور إلى الغاية.. فأسئلة الوجود الكبرى مثل: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا أنا هنا؟ كل هذه الأسئلة لا يجيب عنها العلم مهما تقدم، وذلك لأسباب.

ما هي هذه الأسباب؟

السبب الأول: أن علوم الإنسان لا تتعدى علمه بالحواس أو ما ينتزع من الحواس، وحقيقة العالم أوسع من مجرد الحواس.

السبب الثاني : هو نتيجة للسبب الأول في الوقت نفسه، أن هذه الأسئلة ليست من وظيفة العلوم الحديثة بل هي أسئلة فلسفية، أي تبحث عن الغايات البعيدة، وحديث الغاية لا يوجد فى شيء من المواد والعناصر التي يدرسها الإنسان ولا يصل الإنسان إلى إجابة شافية فيها، بل غاية ما يصل إليه الإنسان أن يقف على الأسباب المباشرة، كأن يعرف أن الأرض تنبت إذا نزل المطر ووجدت فيها الحبوب وتهيأت تربتها، أما لماذا يوجد إنبات أصلًا؟ وما سر الماء؟ ولم كانت الأمور على هذا النحو تحديدًا؟ وما هدف الإنبات البعيد؟ .. فهذه أسئلة غائية لا يجيب عنها العلم. ومعرفة السبب القريب لا ينفي السبب الغائي البعيد.

فلم لا نقول إن العقول قادرة على الوصول للأسباب الغائية؟!

الجواب أن العقول محدودة لا يمكن أن تستقل بحكم في كثير من الأمور، وذلك لسببين..

الأول: أن العقول لها منافذ على العالم، منها تستمد مادتها الخام في تقليب النظر في الأمور، ومنافذها على العالم هي الحواس، وهذه الحواس محدودة، فعقولنا محدودة بحدود الحواس وضعيفة بضعفها.. فلا يستطيع العقل الحكم على ما هو خارج مجال الشم أو الذوق أو السمع أو البصر، بمعنى أن: العين مثلًا لها مجال للرؤية لا تتعداه، وكذا السمع والشم والذوق، فعقولنا لا تعمل خارج هذا المجال، أي مجال عمل الحواس، فاليد تلمس والعقل يحكم بنعومة الشيء الملموس أو خشونته، والعين ترى والعقل يحكم على قربه أو بعده، كبره أو صغره ، محبتي له أو كراهيته .. وهكذا . . فالحواس لا تعمل بمفردها بل هذه الحواس أدوات للعقل.. ثم إنها إن حكمت على ما هو خارج نطاق الحواس احتمل الكذب والوهم والخطأ .. فهي ببساطة : «تعمل في إطار الحواس، أو ما ينتزع من الحواس»!

ما معنى كونها تعمل في إطار ما ينتزع من الحواس؟

قلت ذلك لأنني أتوقع سؤالك الذي كان ينبغي أن تسأله، لكنك لم تفعل!

نعم، كنت سأعترض على قولك: إن العقول تعمل في إطار الحواس فقط! ذلك لأننا نستطيع تأمل أمور واختراع صور وتحليل وقائع دون أن نرى أو نلمس شيئًا، أي أن الإنسان في إمكانه أن يقوم بعملية تجريد!

سأضرب لك مثالًا لتفهم مرادي: أفلام الخيال العلمي، أعتقد أنك شاهدت بعضها، أليس كذلك؟

نعم، بالتأكيد!

هذه الأفلام حين تعرض للكائنات الفضائية مثلًا، هل لا حظت أنها تأتي بإنسان أيضًا لكنه مُشَوَّه، لكنها تعيد تركيبه بطريقة خاصة.. فماذا يعني هذا؟

لا أدري..

هذا يعني أن عقل الإنسان لم يخرج عن مألوفه وما اعتاده، ولا يستطيع، فالعقل الإنساني طاف حول مشاهداته السابقة المخزنة عنده في عقله واستخرج من معرفتة بالكائن الحي الذي ألفه، فصنع شيئًا على مثاله.

ماذا تريد أن تقول؟

أريد أن أقول: إن الإنسان وإن تأمل في المجردات سيظل مرتبطًا في تكوين الصور والمعاني بما وصل له عن طريق الحواس. ولأن العقول مرتبطة بالحس لا تخرج عنه مباشرة أو انتزاعًا؛ فقد أكد القرآن إبعاد الخالق تعالى عن هذه الطريقة الملازمة للإنسان قدر المستطاع فقال: «ليس كمثله شيء» وقال علماؤنا: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.. وذلك لأن الله تعالى مفارق للعالم وهو من غير جنس العالم فلا يُحكم عليه بوهم، تعالى وتقدس.

فما السبب الثاني الذي يدل على محدودية العقول؟

السبب الثاني: إن عقولنا حين تتصرف في أمر وتقلب نظرها فيه مستخدمة أداة التفكير، فإنها تحكم على الأمور من زاوية محددة، ولا تستطيع أن تحكم على الصورة كاملة، أو من كل الزوايا والاعتبارات في لحظة واحدة، وهذا يدل على محدوديتها، وأكبر دليل على ذلك أنها لا تفهم الأمور دفعة واحدة ولا تستطيع التعبير عنها دفعة واحدة، بل تفهم الأمور شيئًا بعد شيء ثم تعبر عنها إن فهمتها بالألفاظ حرفًا بعد حرف وكلمة بعد أخرى، وهذا علامة القصور والنقص!

كما أفعل معك الآن تمامًا حيث تصل إليك مني المعلومات تدريجًا، ونتحدث لنتفاهم تدريجًا، ولا أقوم مثلًا بعملية تخاطر تصب فيك كل ما في رأسي دفعة واحدة فينتهي تواصلنا بمجرد الإرادة، فهذا لا يكون إلا لله الذي قال عن نفسه: «إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون».

بمعنى؟

أي أن الإنسان مقيد باللغة والزمان مربوط فيهما، فهو لا يستطيع التفلت من قيد اللغة حتى على مستوى الأفكار التي لم ينطق بها، فهو إن فكر فهو أيضًا يفكر باللغة. ثم هو مقيد بالزمان إذ ينطق ويفهم فى زمان تراتبي يأتي شيئًا بعد شيء. لا يستطيع منهما –اللغة والزمان- فكاكًا؛ لذا كان عبدًا قاصرًا مقيدًا محدودًا، لا إلهًا ولا يصلح أن يكون..

وما الذي يترتب على ذلك؟

النتيجة: أن العقل قاصر عن إدراك كامل ما يتوجه له بالنظر!

فهل تقول إن معرفة حقيقة الحياة -كما عبرت قبل ذلك- مستحيل؟

نعم مستحيل إن اعتمدنا على العقل فقط الذي يعمل كما قلت في إطار الحواس، وغير مستحيل إن وسعنا آفاقنا المعرفية بمصادر أخرى.

وما هي تلك المصادر الأخرى؟

سأجيبك لكن قل لي أولًا: لمَ بعث الله الرسل، إن كان العقل وحده يستطيع معرفة كافة أموره بمعزل عن المعونة الإلهية؟

الذي أفهمه أن الرسل جاؤوا لنعرف الله من خلالهم، وليرشدوا البشرية إلى ما ينفعهم في الآخرة.

ليس هذا فقط، فالوحي الذي جاء به الرسل من وظائفه أن يوسع آفاق الإنسان المعرفية، فيعرف الإنسان العالم ويعرف نفسه ليتوصل منهما إلى معرفة الله تعالى.. لذا قالوا: من عرف نفسه عرف ربه.

هل تريد القول إن الأديان لها أهداف حضارية معرفية؟

نعم، بالتأكيد.. خاصة إن علمنا أن عبادة الناس لله لا تنفع الله شيئًا، وأن معصيتهم لا تضره تعالى، ومن ثم فالوحي نعمة امتن الله بها على عباده ليزيدهم من فضله، أي أن للوحي وظائف مع العقل تجعله أكثر اتساعًا لفهم الوجود.

ما هي تلك الوظيفة؟

العقل كالعين، كما أن العين لا ترى إلا بشروط؛ كوجود العين سليمة، ووجود ضوء في الخارج لترى الأشياء بوضوح. فكذلك العقل، بدون انعكاس نور الوحي عليه لن يرى الأشياء بوضوح، وسيتخبط في فهم الحياة وربما قاده عقله إلى الكفر أو إلى تمجيد الجهل، وهو واقع مشاهد.

كيف يمجد الإنسان الجهل؟

الذين يمجدون الجهل ثلاثة أصناف من الناس لا يخلو منهم زمان، الصنف الأول: المعاندون لوجود الحق، أي أن الحق غير موجود، بل هو وهم اخترعه الإنسان.

الصنف الثاني: اللاأدريون، الذين يقولون: لا ندري هل يوجد حق أو لا يوجد، وإن وجد فلا ندري من هم أصحاب الحق، لأن الأقاويل متعددة والأديان كثيرة واختلاف الناس عريض والحجج يعرض بعضها بعضًا.

الصنف الثالث: الذين يقولون إن الحق ينبع من نفس الإنسان ولا وجود له فى الخارج. أي أن أي شيء تعتقده صحيحًا فهو بالنسبة لك صحيح، حتى إن اعتبره غيرك خطأ. فالحق ليس وصفًا ذاتيًا للحق بل هو وصف تابع لرؤية الإنسان!

وهؤلاء الأصناف هم السوفسطائية أي أصحاب الحكمة المموهة الذين يقولون كلامًا يبدو لضعاف العقول عقلانيًا لكنه متهافت.

كيف يكون متهافتًا؟

حين يقول الإنسان: لا أدري أين الحق، أو يقول: لا يوجد حق ولا باطل والكل صحيح أو الكل باطل، أو يقول الإنسان: الحق هو ما تعتقده أنت، فالحق نابع من إيمانك دون أن يكون للحق وجود فعلي خارج النفس. فكل هذا كلام متهافت؛ لأن من يقول لا أدري أين الحق، نقول له: هل تدري أنك تدري أو لا تدري أنك تدري؟ فإن قال: لا أدري، فقد رد على نفسه أنه لا يدري أنه لا يدري فهذا مجنون، ومن قال إنه يدري أنه لا يدري، فقد درى شيئًا!

لطيف..

ومن يقول: لا يوجد حق، نقول له: هل قولك بعدم وجود الحق، حق أو باطل؟ فإن أقر أنه حق فقد ناقض نفسه، وإن قال إن قوله باطل فقد اعترف على نفسه. ومن قال: الحق ينبع من النفس، والذي يعتقد الإنسان صوابه فهو الصواب، نقول له: أرأيت لو ضربك أحدهم ثم أنكر، أو ضربك بالخطأ دون أن يحس بك لأن المكان مزدحم مثلًا، هل عندها تقول: أنا أعتقد أنني مضروب، وهو لا يعتقد أنه ضربني، فكلانا حق؟ وهل يمكن أن نعتبر قولكما سواء، أو أن العقل يحتم علينا الوصول إلى حقيقة ما حدث وإظهار المحق من المبطل؟

لا بد من إظهار المحق من المبطل

لذلك قلت لك إنه منطق متهافت، أو هو اللامنطق حين يحاول أن يكون منطقًا

لنرجع إلى مثال العين والعقل، ماذا أردت بهذا المثال؟ وكيف يعمل الوحي على إفساح مجال الرؤية للعقل؟

أردت القول إن الوحي هو الذي ينير العقل فيعمل عملًا صحيحًا ويقوم بمهمته بوجه صحيح، كالعين حين يوجد النور الذي يحقق لها الرؤية الصحيحة فتتصرف بشكل صحيح، هذا من جهة، كما أن الوحي يأتي للعقل بمعارف جديدة لم يكن العقل ينكرها ولا يثبتها قبل الوحي، فهي عنده ممكنات عقلية، لا مستحيلات من جهة العقل الصرف.

هل تريد القول إن للوحي وظيفتين، الأولى: إنارة العقل ليعمل فى مجاله الذي ينتج فيه، والثانية: توسيع الآفاق المعرفية للإنسان اعتمادًا على العقل نفسه؟

نعم، هذا بالضبط ما أريد قوله..

فما هو مجال العقل الذي ينتج فيه؟ وهل تقول إن من ليس له رسول سيكون تفكيره قاصرًا؟ فماذا تقول إذًا في عقول كبار الفلاسفة الغربيين كأينشتاين وعلماء الفيزياء والفلك والرياضيات من غير المسلمين، وهم أصحاب عقول جبارة؟ الذي أراه في قولك هو غرور المسلمين الذي يمنعهم من التقدم والأخذ بأسباب الحضارة حين يعتقدون أنهم الأكمل عقولًا؟

هذه تهمة أخرى إذًا بعد اتهامك للمشايخ بأنهم يستغلون الناس! فلنبدأ بهذا في المرة المقبلة إن شاء الله، فلا بد لي من الانصراف الآن..