أنت الآن لا تقرأ مقالًا، ولا تسمع تسجيلًا، بل تشاهد مقطع فيديو على شاشة حاسوبك أو هاتفك المحمول. لقطة البداية لسلسلة لامعة يتدلى في وسطها قطعة كبيرة من الألماس. تقترب الكاميرا بهدوء من هذا الحجر اللامع، فيتحلل اللون الأبيض إلى ألوان الطيف السبعة عبر مروره في انحناءات الحجر المقطوع بحرفيةٍ عالية. فجأة يبدأ اللون الأحمر في الطغيان على باقي الألوان، يُصبغ الحجر بالأحمر القاني، وتبدأ قطرات الدماء في التساقط من واسطة العِقد الماسية.

يقودك تتبع قطرات الدماء المتساقطة على رقبة المرأة المُعتدة بقطعة الألماس إلى صحراء شاسعة. برودة الجو تتحول إلى شمس غاضبة. رقبة المرأة تتحول إلى اللون الأسمر، لا تُميز هل هو داكنٌ هكذا من جيناتها الأفريقية، أم أن قسوة اللون الأسود أتت من التعرض الدائم لحر الشمس. ذراع المرأة البيضاء التي لم تتوقف لحظةً عن تحسس الماسة فرحًا اختفت، قُطعت ذراع الأفريقية بعد أن ظنوا بها السرقة مرةً، والألماسة سقطت من جيد المرأة إلى الوحل لتنتشلها يد الأفريقية.

بعد أن تعتاد عينك على تغير الجو والضوء، تُبصر ظهورًا عاريةً في كل مكان. تنحني في تجمعات مائية صغيرة، بيد كل واحدٍ شبكةً يغمسها في الماء ثم يُخرجها ليرى ما فيها، أصخور عادية أم قطعة لامعة من الألماس؟ ينهمر العرق من تلك الأجساد في البرك المائية، حتى لتظن أن البرك المائية لم تتكون إلا من عرق هؤلاء.

على تلك الظهور ترى طلاسم وأخاديد، ليست نقوشًا قبليةً ولا تعاويذ. بل آثار عصي الجنود الواقفين من خلفهم لحثهم على العمل بلا توقف. فإذا سقطتَ، أو توقفتََ، أو تنفستَ، فقد استحقت العصا. لا يقطع سواد ظهورهم، ولا يختلط بالعرق عليها، إلا الدم. إما دم الشخص ذاته بعد أن تلقى رصاصةً من الخلف بعد أن رآه جندي يحاول دس قطعة ألماس وجدها في فمه، أو دم الشخص الواقف بجوارك بعد أن تناثر عليك من رصاصة تلقاها في رأسه. وإن توقفت من الصدمة أو لمسحه، فستحفر العصا أخدودًا جديدًا على ظهرك.


من الشرير؟

لا تحاول أن تبحث عن لافتة لتخبرك عن المكان، ولا تسترق السمع لأي كلمة علها تخبرك عن جنسية من تراهم أمامك. فالمكان والجنس لا يهمان، والهمس لا يقطعه سوى صوت الرصاص. إن كنت في سيراليون فهناك 300 ألف قتيل، و2.5 مليون نازح، و20 ألفًا تم بتر أحد أطرافهم. وإن كنت في الكونغو فسترى أمامك 6 ملايين قتيل لنفس السبب. أو كنت في أنجولا فهنالك نصف مليون قتلوا، وفقد 100 ألف مواطن ذراعًا أو اثنتين. أو حتى كنت في ساحل العاج، أو جمهورية أفريقيا الوسطى، أو ليبيريا فنفس السيناريو يحدث هناك بحذافيره.

كذلك لا تتسرع بالحكم على الجنود حاملي العصا. فالمفاجأة أنهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 5 أعوام و16 عامًا. في حرب سيراليون تم تجنيد أكثر من 5 آلاف طفل، سواء من قبل الحكومة أو المتمردين.هؤلاء الأطفال يتم اختطافهم من ذويهم وقراهم، ليدخلوا في مرحلة التلقين. في تلك المرحلة يتم إدراجهم في ألعاب قتالية بالذخيرة الحية، كما يتم قتل أو اغتصاب أقاربهم أمامهم لنسف أي شعور بالتعاطف داخلهم، ولمحو أي شيء قد يمثل دافعًا يدفعهم للعودة إلى قراهم الأصلية.

كما يتم إغراقهم بالمخدرات المختلفة بجرعات عالية حتى يصيروا عبيدًا خاضعين. في دول أخرى غير سيراليون كان يتم استخدام هؤلاء الأطفال لإلقاء القنابل على مسئولين حكوميين. أما الفتيات فبجانب تلك المهام كانت لهن مهام أخرى. وحين يقع طفل من المتمردين في أسر القوات الحكومية لا تتم معاملته كطفل، بل يتم إعدامه مباشرةً أو بعد محاكمة واهية. الأمر الذي استخدمه المتمردون لإقناع الأطفال في البداية أن الحكومة لا تسعى إلا للتخلص منهم، وأن المتمردين يمنحونهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم فحسب.


اصنع حربًا، لتشتري الألماس بالسلاح

لعلك تدرك بالتأكيد كيف يصبح النفط سببًا في قيام الحروب، وكيف تشعل دول أجنبية النزاعات في الدول صاحبة الاحتياطي النفطي العالي من أجل أن يبقى النفط تحت سيطرتها وحدها، هكذا الأمر مع الألماس أيضًا. حتى صاغت الأسواق العالمية مصطلح الألماس الدموي ليشير بصفة خاصة للألماس الآتي من مناجم البلاد الأفريقية نتيجةً للنزاعات المسلحة.

ما يحدث هو أن تتدخل الدول الأجنبية لزرع شقاق بين طرفين في الدولة، ومن ثم تبدأ حربًا أهلية. الحرب هدفها الأوحد هو السيطرة على مناجم الألماس. لكن الحقيقة أنه إذا سيطرت جهة بشكل دائم ومستقر على المناجم فإنها ستبيع الألماس بشكل قانوني وبأسعاره العالمية، وهو ما لم ترده القوى الداعمة للحرب. فيجب إذًا على الحرب أن تستمر طويلًا حتى تحصل الدول الأجنبية على الألماس بثمن بخس أولًا، وتدفع الثمن بالسلاح ثانيًا، فهى المستفيدة في كل الأحوال.

اقرأ أيضًا: القصة الزائفة للنهضة الاقتصادية الأفريقية

سيراليون وحدها شهدت حربًا دامت لأحد عشر عامًا لم تنته إلا عام 2002. الحرب كانت بين الجبهة الثورية المتحدة والجبهة الوطنية القومية الليبيرية والمجلس الثوري للقوات المسلحة المدعومين من ليبيا وبوركينا فاسو من جهة، والقوات الحكومية لسيراليون وبريطانيا وجنوب أفريقيا المدعومين من الولايات المتحدة، روسيا، أوكرانيا، الهند وغينيا من جهة أخرى. والمفاجأة التي كشفتها لجان تقصي الحقائق أن المافيا الأمريكية والروسية هي التي كانت تُغذي الطرفين بالسلاح.

أما ليبريا فكانت جانيًا ومجنيًا عليه في ذات الوقت، إذ كان الرئيس الليبيري تشارلز تايلور يبيبع السلاح لمتمردي سيراليون في مقابل حصوله على الماس الذي تنتجه. كان تايلور طامحًا إلى إنشاء ليبيريا الكبرى التي تضم غينيا وحقول الماس في سيراليون إلى سلطانه في ليبيريا.

وفي الوقت ذاته كانت الحرب الأهلية تأكل بلاده من عام 1999 حتى عام 2003 لنفس السبب الذي قامت حوله حرب سيراليون. ولكي يستمر تدفق الألماس إليه تغاضى تايلور عن العديد من عمليات القتل والاغتصاب وتجنيد الأطفال. لكن في 2007 تمت إدانة تايلور في محكمة العدل الدولية في لاهاي.


الألماس أهم من الإنسان

هذه المشاهد لا تحدث إلا في بلد فقير، يأكل أهله بعضهم لضعف الموارد. لكن كيف إذا علمت أن سيراليون وحدها خرج منها 55 مليون قيراط من الألماس، ما يُعادل 15 مليار دولار، وأن دخلها السنوي من الألماس يعادل 450 مليون دولار. وأن 65% من تجارة الألماس العالمية المقدرة ب 10 مليار دولار سنويًا، تأتي من الدول الستة المذكورة بالأعلى.

هذه الأرقام المهولة كانت كافية لجعل معايير الإنسانية الأوروبية تغض الطرف عما يحدث في أفريقيا طوال سنوات. لكن في 2001 قدمت الأمم المتحدة تقارير تربط بين النزاعات والحروب الأهلية وبين استخراج الألماس ربطًا مباشرًا. بعد هذه التقارير بدأت عملية كيمبرلي في البزوغ، إذ وجد منتجو الماس ومشتروه أنفسهم أمام موقف حرج. لذا صدر قرار بمقاطعة الألماس الآتي من بلاد النزاعات، وتم العمل بجوازات سفر لشحنات الماس من بلد الاستخراج إلى البلد المُستقبل.

لكن هذه العملية لم تثمر كثيرًا، ففي حالة سيراليون كان يتم تهريب الألماس إلى ليبريا ثم يحصل على جواز سفره من هناك. كما تظل نسبة 15% من الألماس المتدوال في الأسواق حاليًا نسبة غير قانونية آتية من نزاعات مسلحة. كذلك استطاعت جمهورية أفريقيا الوسطى التي تم حظر التعامل على الألماس القادم منها عام 2013، تهريب أكثر من 140 ألف قيراط منذ تلك اللحظة. ولم تنجح كيمبرلي في وقف تهجير أكثر من 12 ألف مواطن من قبل الميليشيات.

كما أن تعريف كيمبرلي للألماس الدموي تعريف قاصر، إذ ترى أنه الألماس الذي يتم بيعه لتمويل حركة متمردة تحاول الإطاحة بالدولة. فإذا كانت الدولة ذاتها هى التي تستعبد شعبها، فلا مانع. وهو ما حدث في 2008، حين استولى الجيش الزيمبابوي على وديعة كبيرة من الألماس عنوةً، و لم تحظر كيمبرلي التعامل عليه.


بوتسوانا هي الحل

في أعوام مضت طالب بعض النشاط الأوروبيين الشعوب بوقف شراء الألماس كنوع من الاعتراض على تلوثه بدماء الأفارقة. لاقت الدعوى صدى رمزيًا حينها، انزعج منه منتجو وتجار الألماس، لكنه أيام أو شهور وتلاشى هذا الانزعاج لخفوت صدى الدعاوى المطالبة بمقاطعة الألماس. لذا فلا تستطيع أن تكرر نفس الفعل مرةً أخرى آملًا في نتيجة أفضل.

لذا فالحل في يد الدولة أولًا وأخيرًا، وبوتسوانا تشهد على ذلك. وضعت بوتسوانا قانون المناجم الذي ينص على أن ما في باطن الأرض هو ملك للأمة وليس للقبيلة أو للأفراد. قبل زعماء القبائل هذا القانون وبدأوا التعامل على أساسه. تشاركت الحكومة مع شركة دي بيرز العالمية للتنقيب عن الألماس بنسبة 15% للحكومة و85% للشركة. وبعد معاناة استطاعت الدولة أن تحصل على نصف الأرباح.

اقرأ أيضًا: الديمقراطية السمراء: طريق أفريقيا للتخلص من الاستبداد

ثم قامت الدولة بتحويل أرباح الألماس إلى البُنى التحتية والتعليم والسياحة والمشاريع الصناعية، حتى تضاءلت قيمة الألماس فصار لا يمثل سوى 40% فقط من الناتج الإجمالي للدولة. واستطاعت بوتسوانا أن تقضي على الفساد سواء في تجارة الألماس أو في غيره حتى صارت في المرتبة 24 عالميًا على مؤشر الشفافية، أي قبل فرنسا، وإيطاليا، وجميع الدول العربية.

وبطريقة بوتسونا تحول الألماس من لعنة تصيب البلاد الأفريقية إلى مصدرٍ للدخل والنمو. حتى ذلك الحين، فإن الألماس رغم كونه دليل الثراء والرفاهية في العالم، سيظل شاهدًا على العديد من المآسي الأفريقية التي تُفقد هذا الحجر اللامع بريقه. وسيحكي الألماس الأفريقي دومًا عن الأيادي المبتورة والأجساد المقتولة التي انتشلته من الوحل لكي يصل إلى مجموعة الحُلي التي تشاهدها الآن لتختار من بينها هديةً لشريكتك.