في معترك السباق نحو إيجاد علاج ذي فعالية عالية لمختلف أنواع السرطان، لا يكاد يمر يوم دون نشر نتائج متفائلة لتقنيات مختلفة تحاول أن تسيطر على هذا المرض اللعين. بالإضافة للطرق الكلاسيكية في التعامل مع السرطان – العلاج الجراحي والإشعاعي والكيماوي- أتى العلم الحديث بمحاولات جديدة للعلاج عن طريق الهندسة الجينية. بالطبع لا يمكن إنكار أن هذه التقنيات مازالت في طور التجريب والتطوير، وما زال الحصول عليها أمرًا مكلفاً للغاية. إلا أن النتائج المبدئية تشير إلى كون العلماء على طريق صحيح ومنطقي قد يقودهم إلى علاج فعلي يمكن تعميمه في غضون سنوات.

تكمن خطورة بعض أنواع الأورام السرطانية في كونها لا يمكن استئصالها لانتشارها في الجسم. ويمثل سرطان الدم Leukemia أحد أخطر هذه الأنواع التي لا يمكن استئصالها. في يونيو 2015، كانت كل العلاجات التقليدية التي تم تقديمها للطفلة ليلي البالغة من العمر أحد عشر شهرا قد فشلت في السيطرة على تقدم اللوكيميا العنيفة. هنا تقدم وسيم قاسم من كلية لندن الجامعية ليقترح حلاً بديلاً.


خلايا للجميع

يقوم العلاج القائم على الهندسة الجينية والشائع حاليًا على سحب خلايا دم المريض التائية T-cells، وتعديلها بواسطة تقنيات الهندسة الوراثية، لتصبح صورة معدلة تعرف باسم CAR-T cells، ثم إعادة حقنها في دم المريض. الطريقة التي بلغت نسبة الشفاء بها 50% تستلزم الكثير من الوقت، والذي كان فريق العلماء البريطاني يعمل على تقليله دراميا من خلال إيجاد طريقة لجعل العلاج يعتمد على خلايا العامة.

تعتمد فكرة الخلايا العامة universal cells على استخدام خلايا مأخوذة من متبرع وتحويلها لعدد كبير من العينات التي يمكن استخدامها على الكثير من المرضى، كما في زراعة الأعضاء، ولكن بقليل أو بدون أعراض هجوم الجسم على الخلايا الدخيلة. ينشأ الجدل هنا بين شركات التقنية الحيوية المختلفة على هذه النقطة بالذات. هل يكون علاج المريض بخلاياه أفضل بواسطة خلايا معدة مسبقا، وتمت هندستها ويمكن الحصول عليها فورا كما لو كانت مضادا حيويا أو مسكنا للآلام؟

تم اختبار احتمالية قدرة الخلايا العامة على الشفاء لأول مرة في 2015 عندما تم لأول مرة تطبيق العلاج التجريبي بالخلايا التائية التي تم الحصول عليها من متبرع، ثم هندستها وإعطاؤها للمريضة الطفلة بعد عدم استجابتها لمختلف أنواع العلاجات الأخرى ومن ضمنها العلاج الإشعاعي.

في ديسمبر من نفس العام تم إجراء نفس العملية على طفلة أخرى كانت تبلغ من العمر ستة عشر شهرًا. وبينت النتائج أن الطفلتين أصبحتا معافاتين تماما ولم يعد للنشاط السرطاني أثر في دمائهما. مع ذلك ورغم التفاؤل الظاهري الذي حدا بالباحثين لنشر النتائج أخيرا بعد مرور عام وذلك بعد التأكد من شفاء الطفلتين، إلا أن فعالية التقنية لم يتم إثباتها بشكل قاطع بعد بسبب استخدام العلاج الاشعاعي جنبا إلى جنب مع التقنية الوراثية، مما يعني أن المزيد من الاختبارات في طريقها للحدوث قبل انتقال العلاج الجديد إلى مرحلة التجارب الموسعة، ومن ثم إلى الأسواق.


الخلايا التائية في حلة جديدة

رغم أن النشاط السرطاني لم يعد له أثر في دماء الطفلتين، إلا أن فعالية التقنية لم يتم إثباتها قطعيًا بعد لاستخدام العلاج الإشعاعي مع التقنية الوراثية

تعتمد التقنية العلاجية الجديدة سواء باستخدام خلايا من متبرع أو خلايا من دم المريض ذاته على تعديل في الخلية يحولها من خلية تائية T-cell إلى خلية تائية Chimeric antigen receptor أو CAR-T cell. لفهم معنى هذا التحول علينا أن نعود لأول الخيط. ماهي الخلايا التائية؟

تنقسم خلايا الدم بشكل عام إلى كريات دم حمراء وكريات دم بيضاء وصفائح دموية. تنقسم كريات الدم البيضاء (خلايا الجهاز المناعي) بدورها إلى عدة أنواع منها الخلايا اللمفاوية Lymphocytes. تأتي الخلايا اللمفاوية أيضا في ثلاث فئات: خلايا بائية B-cells وهي المسئولة عن صنع الأجسام المضادة التي تهاجم الأجسام الغريبة التي قد تعتدي على خلايا الجسم، خلايا تائية T-cells والخلايا القاتلة الطبيعية Natural killers واللتان تقومان بهاجمة الأجسام الغريبة مباشرة.

في العلاج بتقنية CAR-T cells يقوم الأطباء بسحب عينة دم من المريض (أو المتبرع في حالة التجربة الجديدة) والتخلص من مكونات الدم المختلفة لتتبقى الخلايا التائية فقط. حينئذ تبدأ هندسة الخلايا بواسطة حمض نووي فيروسي بحيث تقوم بإنتاج جزء من هيكل جسم مضاد Antibody على سطحها.

بعد إعادة حقن الخلايا في دم المريض وأدائها لوظيفتها تستمر في التكاثر لتقوم بعمل درع للجسم ضد عودة السرطان وهو ما يعتبر ميزة حاسمة لهذا العلاج

هذا الجسم المضاد هو مستقبل/ بروتين له القدرة على التعرف على المستضدات Antigen التي تحملها الخلايا السرطانية في جسم المريض، بعد ان يعاد حقنها في دماءه وتقوم بمهاجمتها بفعالية شديدة تصل إلى حد اختفاء النشاط السرطاني في أيام. الامر الذي إذا أثبتته التجارب القادمة فسيكون ثوريا بشكل يصعب تصديقه. لكن علينا أن نحاذر من التفاؤل الزائد حيث إن النتائج أولية جدا.

بعد إعادة حقن الخلايا المعدلة في دم المريض وأدائها لوظيفتها المنشودة، تستمر الخلايا في التكاثر لتقوم بعمل درع للجسم ضد عودة السرطان مرة أخرى وهو ما يعتبر ميزة حاسمة لهذا النوع من العلاج لا تكفلها الطرق التقليدية. بالطبع، لا يوجد تقنية لا تحمل آثارا جانبية من نوع ما. وللأسف لهذه التقنية بعض الآثار غير المرغوبة والتي تجري المحاولات حول الحد منها على قدم وساق.

من بين هذه الأعراض نجد الزيادة المفرطة في إفراز السيتوكين، وهي مادة تواصل الخلايا مع بعضها البعض، والتي ما إن يتم تنشيط الخلايا التائية بواسطة مستضدات الخلايا السرطانية –خلال عملية تدمير الخلية السرطانية- حتى تنطلق مادة السيتوكين كما لو أن الجسم يعاني من عدوى بكتيرية. يتسبب ذلك في أعراض مثل الحمى وانخفاض ضغط الدم وانخفاض مستوى الأكسجين في الرئة.

كما في العلاج الإشعاعي والكيماوي، فإن الخلايا المعدلة قد تستهدف خلايا السرطان ومعها الخلايا البائية السليمة أيضا مما يتسبب في تدميرها هي الأخرى فيما يعرف بعدم تنسج الخلايا البائية B-Cell aplasia، مما قد يسبب انخفاضا «مؤقتا» في كميات الأجسام المضادة التي تقوم بحماية الجسم من العدوى.

أخيرا فإن حتى النجاح التام في قتل الورم قد يؤدي لأعراض خطيرة مثل انحلال الخلايا الميتة بكميات كبيرة مؤديا لمتلازمة تعرف باسم Tumor lysis syndrome. إلا أن هذا العرض يتم التعامل معه بسهولة من خلال الاحتياطات الطبية المعروفة في العناية بمريض السرطان الجديد.

كانت هذه نظرة سريعة على الأساسات التي تقوم عليها مجموعة من التقنيات التي يرى علماء الأحياء أنها تملك الإمكانية لأن تصبح العلاج الأساسي للأورام غير القابلة للاستئصال في غضون سنوات، ذلك بالطبع إذا أسفرت النتائج القادمة عن نجاحات أكثر، وهو الأمر الذي يجب الحكم عليه بحذر شديد قبل أن تبدأ عملية التعميم.

وفي الوقت الراهن على الجميع أن يتحلى بالصبر والإصرار في تطوير كل الأساليب الممكنة لمواجهة هذا الكابوس الحاصد للأرواح.

المراجع
  1. Two Infants Treated with Universal Immune Cells Have Their Cancer Vanish
  2. Gene editing has saved the lives of two children with leukaemia
  3. Chimeric Antigen Receptor (CAR) T-Cell Therapy Facts
  4. cells expressing CD19 chimeric antigen receptors for acute lymphoblastic leukaemia
  5. CAR T-Cell Therapy: Engineering Patients’ Immune Cells to Treat Their Cancers