لعب مودريتش خلال هذا الموسم 3530 دقيقة، وهو رابع أكثر لاعبي ريال مدريد مشاركة، لا يسبقه سوى كورتوا وبنزيما وكاسيميرو. لم يكتف بالمشاركة فقط بل كان من أفضل لاعبي الفريق وعنصرًا فاعلًا في وصوله إلى نصف نهائي دوري الأبطال والمنافسة على الدوري الإسباني حتى الجولة الأخيرة. الغريب أنه يفعل ذلك وهو في عمر ال 36.

في مثل هذا السن، يفكر اللاعبون عادة في الاعتزال أو الانتقال للصين وأمريكا من أجل عدة ملايين إضافية، في عمر 36 كان إنييستا ينهي مسيرته في اليابان، تشافي كان في قطر، وزيدان كان في منزله بعد أن اعتزل في سن 34، وأبو تريكة كان يجلس في الإستديوهات التحليلية.

فلماذا استطاع مودريتش أن يستمر حتى هذا السن أساسيًا في أعلى مستويات كرة القدم دون غيره؟ ربما كان هناك سر حان وقت اكتشافه، دعنا نرَ.

في جحيم زادار

تعود أصول مودريتش إلى بلدة زادار الكرواتية، والتي كانت في وقت مولده جزءًا من جمهورية يوغوسلافيا المتحدة، والتي تفككت لاحقًا بعد حروب دامية كان مودريتش شاهدًا على أحداثها، فقد جده فيها على يد الصرب، وقضى طفولته كلاجئ، لعب كرة القدم لأول مرة في ساحة ركن السيارات وعلى أصوات القذائف والمدافع.

على مستوى كرة القدم، أثرت نشأة مودريتش في جمهورية يوغوسلافيا عليه بشكل عميق، وربما لا يحمل الاسم أي قيمة حاليًا، لكن يوغوسلافيا ظلت لعقود أحد كبار كرة القدم العالمية، شاركت في 8 بطولات لكأس العالم وحصدت المركز الرابع في مرتين عامي 1932، 1960، وحلت وصيفًا لبطولة اليورو في 1960، 1968، وكانت كرة القدم تحظى باهتمام ودعم متواصل من الجميع هناك.

ظهر اهتمام الجمهورية اليوغوسلافية بكرة القدم على أرض الواقع، حيث أنشئت العديد من الأكاديميات في فترة الخمسينيات والستينيات، عمل بها مجموعة من أفضل الكشافين الذين كانت مهمتهم التقاط المواهب من الشوارع والميادين، كما توفرت لهم أيضًا العديد من التجهيزات والمعدات الحديثة في التدريب آنذاك.

وحتى الآن ما زالت يوغوسلافيا رغم تفككها من أكبر مصدري اللاعبين في جميع الألعاب، وتحتل دولة مثل صربيا المركز الرابع بين أكبر الدول المصدرة للاعبي كرة القدم بعد البرازيل والأرجنتين وفرنسا رغم أن تعدادها لا يتجاوز 7 مليون نسمة.

ولعل هذه الأنظمة وانتشار الكشافين هي ما سمحت لمودريتش بممارسة كرة القدم بشكل احترافي لأول مرة، حين رآه أحد هؤلاء الكشافين والذي كان يدعى «توميسلاف باسيتش» وآمن بموهبته، وكان صاحب الفضل الأكبر في مسيرته، حيث ساهم في انتقاله إلى دينامو زغرب في بداية مسيرته بعدما رفضته الأندية الأخرى لضعف بنيانه الجسدي، وظل داعمًا ومرشدًا له في كل محطاته، حتى أن مودريتش يعتبره والده الثاني، وقد أهداه الفوز عقب تتويجه بدوري الأبطال مع ريال مدريد في 2014.

ظلت يوغوسلافيا جزءًا مهمًا في تكوين مودريتش حتى بعد انقسامها، ففي عام 2004 قرر نادي دينامو زغرب إرساله معارًا إلى فريق زرينجسكي موستار والذي يلعب في الدوري البوسني أحد أعنف الدوريات في العالم، وربما كان هذا العام هو أهم أعوام بناء مودريتش بدنيًا على الإطلاق.

تعلم في هذا العام خوض الصراعات الثنائية وتفادى ضرب الخصوم، والصمود في مواجهة ملعب ممتلئ لا يتوقف عن السباب وتوجيه الإهانات العرقية طوال المباريات.

من يلعب في الدوري البوسني، يمكنه أن يلعب في أي مكان في العالم.
لوكا مودريتش

لكن السر الأساسي في تفوق مودريتش البدني لم يأت بعد، هيا نكمل.

كرة قدم حتى ال40

رونالدو وزلاتان إبراهيموفيتش ودجيكو يتواجدون في قائمة هدافي الدوري الإيطالي، سواريز يقود أتلتيكو مدريد في صراع الليجا، راموس ما زال أفضل مدافعي ريال مدريد ويرغب في تمديد عقده لعامين رغم بلوغه ال35، كافاني مدد عقده مع مانشستر يونايتد وهو في ال34، تياجو سيلفا انتقل إلى تشيلسي وقاده لنهائي دوري الأبطال وهو يقترب من ال 37،  لكن ماذا يعني ذلك؟

لا يبدو الأمر وكأنها حالات فردية، بل تبدو كجزء من اتجاه مطرد في السنوات الأخيرة يتزايد فيه عمر اللاعبين في الملاعب تدريجيًا، حيث يظهر ذلك في دراسة بعنوان «هل لاعبو كرة القدم أكبر من ذي قبل؟» والتي نشرت في مجلة «Frontiers in Psychology» في عام 2019.

تشير الدراسة أنه منذ موسم 93-1992 إلى موسم 18-2017، ارتفع متوسط ​​عمر لاعبي دوري أبطال أوروبا من 24.9 إلى 26.5 عامًا، وكذلك فإن اللاعبين يصلون الآن إلى الذروة في وقت متأخر عن السابق، وعدد اللاعبين الذين تخطوا الثلاثين يصبح أكبر مع الوقت.

هذا يعني أن الأجيال الحالية أكثر قدرة على الاستمرار في الملاعب لفترة أطول من سابقيهم، ويمتلك أغلبهم قدرات بدنية أفضل، لكن لماذا حدثت هذه الطفرة؟ هل اللاعبون الحاليون أفضل من سابقيهم أم أننا تطورنا كجنس بشري إلى جنس أقوى؟

الإجابة قدمها ديفيد إبستين الباحث في علوم الرياضة في محاضرته عبر منصة «ted» الشهيرة، حيث يرى إبستين أن تفوق الجيل الحالي من الرياضيين يعود إلى عدة أسباب، أولها هو التقدم التكنولوجي الهائل الذي حدث مؤخرًا والذي لم تتمتع به الأجيال السابقة.

يضرب إبستين عدة أمثلة على أثر التكنولوجيا الواضح على أداء الرياضيين، منها مقارنة جيسي أوينز بطل سباق 100 متر في عام 1936 ويوسين بولت بطل عام 2013، طبقًا لأرقامهم المسجلة فلو أجري السباق بينهم اليوم لسبق بولت أوينز بنحو 14 قدمًا كاملة، هذا رقم ضخم حين نتحدث عن سباق 100 متر.

طبقًا لإبستين فإن الفارق الضخم في السرعة قد يوحي بأن بولت كان عداءً أفضل من أوينز بكثير، لكن الحقيقة البسيطة أن أوينز كان يركض على أرضية من الرماد المتخلف من حرق الأخشاب، إذ كانت هذه هي المواد المنتشرة في ذلك الوقت، على عكس بولت الذي ركض على خامة صناعية أقرب للبساط، ولا تقاوم خطواته إلا بأقل قدر ممكن.

استعان إبستين بأحد علماء البيولوجيا الميكانيكية لمحاولة إزالة أثر تلك العوامل وتطبيقها على الثنائي، ليتضح حينها أن أوينز كان ليصبح على بُعد خطوة واحدة فقط من بولت، وليس 14 قدما كاملة، فقط لو تسابقوا على نفس الأرضية.

بنفس الفكرة طرح إبستين العديد من الأمثلة من رياضات مختلفة مثل السباحة وركوب الدراجات لإثبات الأمر نفسه، أن ما يحظى به الجيل الحالي من الرياضيين لم يتوفر لغيرهم، وفي كرة القدم بالتحديد، فإن أمورًا مثل الأحذية منخفضة الوزن والكرات المصممة بدقة، والعشب المنتظم الدقيق، ورغم أنها تبدو بلا قيمة فإن أثرها يكون هائلًا على أداء اللاعبين.

والجيل الذي وصل منتصف الثلاثينيات حاليًا هو أول الأجيال التي استفادت بهذا التقدم التكنولوجي في كرة القدم، حيث تمتعوا بإمكانيات أفضل في التدريب والاستشفاء وعلاج الإصابات، حيث لم يعد من المعتاد أن تنتهي مسيرة لاعب لمجرد إصابة أو اثنين، مع أن الكثير من الأساطير في الماضي اعتزلوا اللعب تمامًا بسبب إصابات لم تعد تمثل أي مشكلة حاليًا مع تقدم الطب الرياضي.

يحظى اللاعبون الآن كذلك بحماية أكبر من الحكام، ويمتلك أغلبهم وعيًا أكبر بأهمية أمور مثل التغذية والنوم، ومودريتش نفسه يتبع نظامًا غذائيًا شاملاً وبرنامج استعداد بدني موازٍ للذي يقوم به في الريال رفقة فالتكو فوسيتش، أستاذ علم الحركة الكرواتي، وربما هذا يفسر لماذا سيكون بإمكان الأجيال الحالية الاستمرار في الملاعب لفترة أطول.

تحت وطأة الشيوعية

هل سمعت شيئًا من قبل عن كرة القدم تحت حكم الشيوعية؟ انسَ كرة القدم التي تعرفها الآن تمامًا، الأمر هناك كان أسوأ مما تتصور، هناك كان يعتقل لاعب لأنه سجل هدفًا في فريق يشجعه الرئيس، ويقتل آخر لأنه ترك الفريق المملوك لأمن الدولة، ويجند اللاعبون للتجسس على بعضهم البعض، هذه كانت أمورًا عادية لا تثير الاستغراب آنذاك.

لكن لعل أكثر تلك الممارسات إجرامًا أن بعض الدول كانت تجبر الرياضيين الشباب على تعاطي المنشطات والهرمونات منذ الصغر ليتمكنوا من التفوق على أقرانهم ويحصدوا ميداليات تتفاخر بها الدولة، وقد تناول مئات اللاعبين هذه المنشطات ونجحوا في حصد الكثير من الميداليات بالفعل كما أرادت حكوماتهم.

في ألمانيا الشرقية أحد أقطاب الشيوعية على سبيل المثال، هناك الكثير من تلك الحالات، «فالكو جوتز» الذي لعب في دينامو برلين بين عامي 1979 و 1983، صرح أنهم كانوا يتناولون المنشطات دون علمهم منذ كان في منتخب الشباب، وقد اكتشف الأمر بالصدفة حين خضع للتحليل في أحد مباريات دوري أبطال أوروبا.

جيرد بونك الذي توج بالميدالية الفضية في رفع الأثقال في أولمبياد 1976، يُعتقد أنه تناول نحو 12775 ملليجرامًا من المنشطات خلال عام واحد، وهي أعلى كمية من المنشطات تناولها رياضي على الإطلاق، لتدرك الرقم، فإن بونك تناول أكثر من ثمانية أضعاف الكمية التي تناولها العداء الكندي بن جونسون الفائز بسباق 100 متر في أولمبياد عام 1988، والتي استبعد على إثرها.

بونك قضى حياته مصابًا بالعديد من الأمراض، عانى من مرض السكري وقضى حياته على كرسي متحرك، وكان ذلك ثمنًا باهظًا في مقابل الميدالية التي حصل عليها.

الكثير من الفتيات في الرياضات المختلفة حقنوا بهرمون التستوستيرون ليكتسبوا صفات ذكورية وقوة أكبر ضمان تفوقهم على أقرانهم، لكن الكميات الزائدة من الهرمون جعلت أغلبهم يعاني من مشاكل عديدة فيما بعد، الإجهاض لازم بعضهم، وأنجب البعض الآخر أطفالًا بإعاقات مختلفة.

رفع هؤلاء اللاعبون العديد من القضايا على الحكومات فيما بعد، وحُكم في بعضها لصالحهم بالفعل، لكن رغم التعويضات التي تحصلوا عليها فإنهم لم تعوضهم أبدًا عن تدهور صحتهم، ولم تنفِ إجرام الدول الشيوعية في حق الرياضيين.

هل تذكر أين نشأ مودريتش؟ في يوغوسلافيا، أهم حلفاء الشيوعية في ذلك الوقت، لكن ما علاقة ذلك بقوة مودريتش البدنية واستمراره أساسيًا حتى الآن؟ ربما لا علاقة، وكان العنوان خادعًا ليس أكثر، لذلك نعتذر عن ذلك.