تختلف رؤية كرة القدم عند كل مدرب في تاريخ هذه اللعبة. يمكن تقسيم تلك الرؤى إلى مدارس، كل مدرسة تضع تشبيهًا واضحًا لطرق التدريب الخاصة بها، فمنهم من يرى كرة القدم مثل الشطرنج، أو مثل مواعدة فتاة جميلة أو مثل الحرب. لكنك ستجد شخصًا واحدًا فقط يراها مثل الصيد، هو «دييجو سيميوني».

يؤمن «تشولو» بأن الصيد يتلخص في ثانية واحدة. تظهر الفريسة خلال هذه الثانية، وربما تختفي في الثانية التالية. الأمر نفسه مع كرة القدم. حيث يعتقد أن أحداث تلك اللعبة تشبه هذا الوميض، الذي ربما يختفي بعد ثانية، أو أقل، وعليك اتخاذ قرارك المناسب خلاله. لكن هل تكون تلك الثانية كافية عند اتخاذ قرار مهم في كرة القدم؟

الاختباء وسط العشب

في عام 2011، تولى الأرجنتيني مهمة تدريب أتلتيكو مدريد. وخلال فترة تواجده في الفريق تمكن من تطبيع الفريق بشخصيته، واعتقاداته ورؤيته في طريقة اللعب. وسواء اتفقت أو اختلفت على جودة تلك الطريقة، فالأكيد في النهاية أن الوضوح هو صفتها الأساسية.

يقول «لويس فيجو» إنه بمجرد رؤية هؤلاء اللاعبين خلال أي مباراة، فإنك تستطيع بسهولة التأكد من أن سيميوني هو المدرب. لذا بات ذكر اسم أتلتيكو مدريد فقط يكفي لأن ترتسم في عقلك صورة عن التمركز في مناطق الجزاء.

وفي حين نُسمي تلك الطرق في كرة القدم باسم الطرق الدفاعية، يفضل سيميوني أن يسميها: انتظار الوقت الأمثل للهجوم، أو الاختباء وسط العشب، تمامًا مثلما تفعل الحيوانات المفترسة في لحظات ما قبل الانقضاض على الفريسة.

الوضعية الأمثل لسيميوني هي الاختباء في الظلام، بين العُشب، في منطقة تبدو غير مرئية للخصم، وانتظار الثانية المناسبة للانطلاق على الفريسة، انتظار الوميض. قال ذات مرة إنه يرى أن الوصف المثالي لتلك الوضعية على أرض الملعب هو «اللعب والسكين بين أسنانه». في إشارة إلى وضعية قاتل يختبئ في انتظار استخدام هذه السكين.

وبالرغم من أن المنطق يؤكد أنه لا يمكن أن يتحلى الحيوان المُفترس بشخصية دفاعية، ولا حتى هذا الصياد، أو القاتل الذي يُمسك بسكين بين أسنانه، حيث يجب أن يكون الطابع الهجومي هو الأميز لشخصيات تقوم بهذه التصرفات، يظل سيميوني يرى أنها أمثل تشبيه لطريقته التدريبية، فكيف ذلك؟

الفوز يأتي أولًا

ربما نجد الإجابة في عام 2014، وقتما حظي سيميوني بصيدٍ ثمين، حين فازوا بالدوري الإسباني لأول مرة بعد غياب عقدين تقريبًا.

ولعل أكثر ما ميز هذا اللقب الذي جاء بعد سعي طويل هو المباراة الأخيرة أمام برشلونة في ملعب «كامب نو». فبعيدًا عن هدف «جودين» التاريخي، فإن استحواذ أتلتيكو على الكرة أكثر من برشلونة، في الشوط الثاني، كان إشارة لا يمكن إغفالها.

في الحقيقة، لا يهتم دييجو إطلاقًا بأي وصف يحصل عليه فريقه، الوضع الهجومي، أو الارتكان الدفاعي، كلها أنماط لا تعنيه، هو فقط يهتم بالفوز. فهو لا يملك أي أفكار صارمة بخصوص كرة القدم، حسبما يصف نفسه، لكنه فقط يهتم بالفوز أيًّا كانت طريقته.

الفكرة في الفوز. لا أعرف أي طريقة أخرى غير الفوز. لذا يتعلق الأمر بإيجاد أفضل الخصائص لكل لاعب خارج الملعب للوصول إلى الهدف النهائي، وهو الفوز أيضًا.
دييجو سيميوني في محاولة شرح لأفكاره حول كرة القدم

لا يبحث سيميوني عن لاعبين من طراز دفاعي، ولا لاعبين من طراز هجومي، يبحث فقط عن أولئلك الذين يُحبون الفوز بكل الطرق. فالأهم من أن يُوصف الحيوان المفترس أو القاتل أو الصياد بالصفة الهجومية أو الدفاعية، هو أن يحصل في الأساس على وصف مفترس أو قاتل أو صياد.

دقة التخطيط للفشل

وصل سيميوني إلى مدريد بفضل قرار حكيم من صديقه السابق «ميغيل أنخيل جيل مارين»، الذي كان مديرًا تنفيذيًّا للنادي الإسباني آنذاك. ووضعا معًا سياسة جديدة للتعاقدات والكشف عن المواهب الخاصة بالفريق. حيث تأكد كلاهما أن منافسة ريال مدريد وبرشلونة في الكشف عن المواهب في كل بلاد العالم، أمر مستحيل. وكذلك، لأنه ليست كل بلدان العالم تمتلك مواهب تحمل تلك الطبائع التي يتمنى دييجو أن تتواجد في لاعبيه.

تركزت خطط البحث الخاصة بهما في بلدان بعينها. يمكنك أن تجد بلادًا مثل البرازيل، وأوروجواي، وتركيا، والبرتغال، والأرجنتين، تتكرر أسماؤها في عمليات التعاقد مع لاعبين من دورياتها ويحملون جنسياتها.

سرعان ما يتحول هؤلاء اللاعبون إلى مقاتلين في جيش مُستعد للموت من أجل دييجو. جميعهم، وفيهم سيميوني، قد يعودون لنفس الأصول تقريبًا، يتشاركون في الظروف التي نشأوا فيها. جميعهم كانوا سيتحولون إلى لا شيء بدون العاطفة، بدون الإيمان، بدون الشغف.

انضم سيميوني لمنتخب بلاده لأول مرة في عمر 17 عامًا. تحكي قصة انضمامه عملية دقيقة للغاية، كانت مليئة بالتنظيم والشغف والإيمان، وكان الفشل نتيجتها النهائية.

في اليوم الأول، طُلب منه الحضور في المكتب الرئيسي لاتحاد كرة القدم الأرجنتيني في وسط مدينة بوينس آيرس. فور وصوله، اكتشف أنه قد أخطأ في الموعد المُحدد، وقد تحركت بعثة الفريق بدونه. وعلى الفور، أدرك أن أمامه رحلة صيد سريعة ليقتنص فرصته في اللحاق بالتدريب الأول له. الفرصة التي قد لا تتكرر.

كانت الخطة كالتالي، سيتحرك دييجو وصديقه «أنطونيو محمد»، الذي كان قد أخطأ موعد الوصول هو الآخر، لركوب المترو، ومنه وصولًا إلى المحطة الرئيسية، مِن ثَم استقلال حافلتين حتى بلوغ مقر التدريب. كانت تلك هي الخطة.

لكن بعد استقلال الحافلة الأولى، جاء دور الإيمان والشغف، اكتشفا أن النقود لن تكفي لاستقلال الثانية، فإما أن تؤمن بحظوظك في تلك الرحلة، أن تؤمن بأن الفوز سيكون حليفك، وأن تلك الفريسة/الفرصة ستكون بين يديك، وإما أن تستلم الآن.

صعدا معًا إلى الحافلة، وتوجه سيميوني على الفور للسائق ليخبره بثقة شديدة أن عليه أن يحفظ ذلك الوجه جيدًا، «في يوم من الأيام سأكون لاعب كرة قدم محترفًا. سألعب للأرجنتين. سأكون نجمًا. تذكر اسمي واسمه أيضًا. لا تنسنا. نحتاج فقط إلى خدمة صغيرة». فلم يكن أمام السائق إلا الإيمان هو الآخر، والموافقة.

أوصلهما السائق إلى مسافة تبعد 6 كيلومترات عن المقر، فقرر سيميوني أن يركض تلك المسافة حتى يبلغ مقصده. لم يكفر حينها بأن الثانية المناسبة تنتظره هناك، لكن فور وصوله اكتشف أن الفشل قد حل، والفريسة قد غادرت. فلقد انتهى التدريب.

انضم الأرجنتيني فيما بعد إلى قوام الفريق الأول، فقط بإيمانه، لم يكن مدرب الفريق الأول آنذاك يعرف أي شيء عن إمكانياته، لكن إيمانه قد حدد كُل شيء. ما زال سيميوني يبحث في لاعبيه عن صفاتٍ مثل هذه.

ثانية واحدة فقط

هل تتذكر تلك الثانية التي قرر فيها سيميوني أن يذهب لمقر التدريب بعدما فاته الموعد؟ هل تتذكر الثانية التي قرر فيها أن يحاول إقناع السائق بأن يقلهما مجانًا؟ هل تتذكر الثانية التي قرر فيها الركض 6 كيلومترات حتى بلوغ مقر التدريب؟ في كل ثانية كان يعتقد دييجو أنها الأخيرة، إما أن يلحق بفريسته أو أن يحصل على اللاشيء. هذا هو الطابع الذي عاش عليه حياته.

يقول سيميوني إن جزءًا كبيرًا من الشكل الذي يظهر به أتلتيكو مدريد في هذه الأيام، يعود الفضل فيه لرحلته في إيطاليا. والحقيقة أن رحلة إيطاليا قد علمتنا عن دييجو أكثر مما يُدرك هو نفسه.

فلقد اتخذ قرار السفر إلى إيطاليا بعد فترة تفكير دامت 15 دقيقة فقط. كان عليه أن يُقرر في الحال، إما أن يوافق على عرض نادي بييزا الإيطالي أو يرفض، التأخير يعني ضياع الفرصة إلى الأبد، هكذا أكد وكيله وقتما أبلغه بالعرض. أي لاعب غير سيميوني كان ليفكر قليلًا، لكنه لم يفعل، فقط لأنه سيميوني.

وذلك لأنه يؤمن أن ثانية كافية جدًّا لأن تتخذ القرار، سواء في كرة القدم أو غيرها، لكنها مدة لا تضمن أن يكون القرار صحيحًا. لم يعرف أي شيء ينتظره في إيطاليا عندما وافق على العرض، ولم يحاول أن يعرف، حتى إنه قد حزم أمتعته بملابس صيفية، في حين كان فصل الشتاء يملأ أوروبا بالكامل.

الآن عليك أن تطبق هذا على كل قرار يتخذه هذا المجنون في كرة القدم. ربما ينجح، وربما يفشل، الأمر بالنسبة له سواء. هو يعتقد أن تلك الثانية قد لا يأتي بعدها شيء أبدًا، فعليه أن يعيشها وهو مؤمن بنفسه، وبأي طريقة.