بعد سنوات من العمل في الولايات المتحدة عاد جاك ما إلى مدينة هانجتشو الصينية مبهورًا بالاكتشاف المبهر الذي تعرَّف عليه في الولايات المتحدة، الإنترنت. من شدة انبهاره بالإنترنت دعا أصدقاءه إلى منزله ليشاهدوه الإنترنت، فتح جاك جهاز الكمبيوتر وأخذ ينتظر مع أصدقائه الاتصال بالإنترنت، طال الأمر بهم فبدأوا يلعبون الورق ريثما يتصل الإنترنت، طال الأمر حتى جاوز بضع ساعات، لكنهم في النهاية شاهدوا المعجزة، صفحة المتصفح ونافذتهم على عالم آخر.

أخبرهم جاك أنه يريد أن ينقل تلك التقنية إلى الصين، لم يصدِّقوا أن تلك التقنية سوف تدخل بلدهم، وبالتأكيد لم يكونوا يتوقعون، وغالبًا لم يكن جاك نفسه يتوقع، أنه عبر تلك التقنية البسيطة سوف يُصبح إمبراطورًا عالميًّا للتجارة عبر الإنترنت، ودخله السنوي يُقارب مليار دولار.

عبر موقعه الضخم والمميز، ضخم لأنه يبلغ ثلاثة أضعاف موقع أمازون الشهير للتسوق، ومميز لأن الموقع يعمل في اتجاهين متوازيين، الأول هو البيع بالقطعة كأي موقع للتسوق، ويستهدف بالأساس المواطن الصيني، ما يعني أن هناك مليار فرد يتسوقون منه سنويًّا. أما الاتجاه الآخر فهو البيع للتجار، ما يعني أنه يستهدف كذلك الأسواق خارج الصين، يقوم تاجر التجزئة بالدخول للموقع واستخدام عدة أدوات يتيحها له الموقع للاتفاق على صفقة تجارية والتفاوض حول كل تفاصيلها، ثم استيرادها من الصين لبلده دون أن يتحرك من أمام حاسوبه.

تلك السهولة المفرطة تأتي بعد مرحلة شديدة الصعوبة، كان الاستيراد من الصين فيها عمليةً شديدة التعقيد. يضطر التاجر إلى السفر للصين بنفسه، والذهاب للمصنع ومعاينة المُنتج بنفسه، لكن قدَّم لهم علي بابا الحل السحري، وفتح لهم مغارة الصين على مصراعيها بضمان جاك ما لجودة كل ما يُعرض على موقعه، وكونه وسيطًا أمينًا في عمليات الدفع والتسليم ومواعيد الشحن والاستلام.

نافذة العالم على الصين

أسطورة جاك ما بُنيت من التغيير الذي أحدثه في المجتمع الصيني، ولم تُبن بقيمة حساباته البنكية فحسب. قد يبدو أن جاك ما لا يوظف سوى 40 ألف فرد بصورة دائمة، رغم أن هذا الرقم ليس ضئيلًا، لكن الواقع أن جاك ما يُوظف الصين بأكملها. فكل التجار الصغار وأصحاب المصانع وكل أصحاب الحرف، كل هؤلاء يعتمدون على جاك وموقعه في التواصل مع العالم الخارجي، فعلي بابا هو مصباح الضوء الذي يكشف للمستثمر غير الصيني كل الصين مهما كان المصنع صغيرًا أو يقع في منطقة مهجورة جغرافيًّا.

أضف لهؤلاء التجار الخدمات الأخرى التي تزدهر على هامش التجارة الإلكترونية، مثل شركات الشحن والتوزيع، ومصممي الإعلانات، ومطوري مواقع الإنترنت، ومسئولي صفحات التواصل الاجتماعي، وغيرهم الكثير. فقد جعلت منصة علي بابا خدمات كل هؤلاء تزدهر بنسبة 80%. فمنذ 7 سنوات كان الموقع هو الوسيط لإجراء عمليات بيع جاوزت 240 مليار دولار.

هذه الأسطورة تُروى باعتبارها قصة نجاح عصامية لرجل بدأ من الصفر ووصل لقمة العالم، لكن الواقع قد يبدو مختلفًا بعض الشيء عند نقطة العصامية تلك، فالكثير من التقارير تتحدث عن علاقة تربط جاك ما بالحكومة الصينية. قد تكون العلاقة غير مباشرة من كون الحكومة الصينية دائمًا ما تكره الشركات الأجنبية، الأمريكية خاصةً، فتضع في طريقها العراقيل الهائلة، لكن بالطبع تقدِّم تسهيلات هائلة لمنصة علي بابا كونها منصة صينية أصيلة.

لكن أيضًا قد تكون تلك العلاقة علاقة مباشرة على مستوى عالٍ من التواصل والتنسيق الأمني والمخابراتي بين المنصة والحكومة الصينية. فلم تكن الحكومة الصينية لتترك منصة علي بابا لتُنشئ إمبراطوريتها المكونة من منصة خاصة لدفع وتحويل الأموال، والتي يتم من خلالها تريليون عملية دفع وتحويل سنويًّا يقوم بها 300 مليون مستخدم، دون أن تعرف على وجه الدقة من أين تأتي تلك الأموال وأين تذهب.

الفاشل دراسيًّا ينجح حياتيًّا

ساهم في تضخيم الأسطورة أن جاك ما هو أول صيني، وآسيوي، تظهر صورته على مجلة فوربس الأمريكية، ليكون بذلك واجهةً ناجحةً غزت الشارع الأمريكي رغم القيود والصراع الأمريكي الصيني، أضف إلى ذلك أنه فعل كل تلك الإنجازات ولما يبلغ 50 عامًا.

كما أن قصة حياته لا بد أن تُطعم بالحديث عن النهوض بعد التعثر، والإفاقة بعد الكبوة، خاصة أنه كان تلميذًا فاشلًا، فشل مرتين في اختبار المدرسة الابتدائية، وفي اختبار المدرسة المتوسطة ثلاث مرات، وفي امتحانات القبول للجامعة مرتين. كما أن السخرية تكمن في أن موقع علي بابا التكنولوجي الضخم يملكه رجل لا يحب الرياضيات ولا تحبه، فقد حصل على 1% فقط كتقدير بعد دخوله امتحان الرياضيات في الجامعة. كما لا يستطيع حتى الآن قراءة التقارير المحاسبية.

وقبل أن يدخل جاك ما لجامعة هانجشتو العامة لدراسة اللغة الإنجليزية حاول التقدم لجامعة هارفارد 10 مرات متتابعة، لكنه رُفض في كل مرة. وبعد أن تخرج من الجامعة ظل الفشل رفيقه الوفي، فتقدم للالتحاق بأكثر من 30 وظيفة مختلفة، لكنه رُفض فيها جميعًا. من ضمن تلك الفرص تقدمه للعمل في كنتاكي الصين، تقدم برفقة 23 شابًّا، قبلوا جميعًا ورُفض هو فقط، تفسيره الشخصي أن ذلك لقصر قامته وافتقاره للمظهر الجيد.

حتى بعد أن بدأ مجموعة علي بابا فقد واجه خطر الإفلاس أكثر من مرة، وفشل في الحصول على أي دعم مادي لشركته الناشئة. كما أنه أخبر رفاقه المساهمين في الشركة الناشئة، 18 مساهمًا، أنه لن يسمح لهم بتخطي منصب مدير في الشركة مهما بلغ حجمها، يقول جاك ما لاحقًا إن ذلك كان أسوأ قرار اتخذه في حياته.

اللعب بالنار

لكن تلك السطوة المالية والعلاقات الوثيقة بين الإمبراطور الاقتصادي والإمبراطور الحاكم، زعيم الحزب الحاكم، لم تشفع للرجل بضع كلمات عامة قالها بهدف التلميح لحاجة الصين للإصلاح الاقتصادي. ففي 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2020  صعد جاك للمنصة لإعلان عقد أكبر اكتتاب عام في التاريخ بقيمة 35 مليار دولار لشركته، كما أن تلك اللحظة كانت ستجعل ثروته الخاصة تتجاوز 61 مليار دولار، ما يعني أنه سيكون الصيني الأكثر ثراءً على الإطلاق.

قال جاك في بداية خطابه إنه كان متحيرًا مما يجب قوله، لكنه يشعر أن تلك اللحظة هى أهم لحظة في تاريخه وتاريخ الاقتصاد الصيني، لذا فلا بد من الحديث بشكل مختلف، على حد تعبيره، ثم انطلق قائلًا إن النظام المالي الحالي هو إرث العصر الصناعي، ويجب على الصين أن تنشئ جيلًا جديدًا من الشباب، لذا يجب على الدولة الصينية إصلاح النظام الحالي.

الجيل الجديد سيحل محل مجموعة العواجيز، كما وصفها جاك، التي تتحكم في الاقتصاد الصيني كما لو كان مجموعة من بيوت الرهان، ما يتسبب في خنق جميع الصناعات القائمة على الابتكار والإبداع في الصين.

 تلك الصراحة غريبة على المجتمع الصيني، لكنها ليست غريبة على جاك ما شخصيًّا. فدائمًا ما سمحت له السلطات بهامش من الحرية رغم عضويته الرسمية في الحزب الشيوعي، ما جعل لجاك كاريزما مختلفة في الأوساط الصينية والغربية. لكن يبدو أن السلطات ضاقت ذرعًا بجاك ما، فقد أرسلت له السلطات سابقًا رسالة واضحة اللهجة جاء فيها أنه لا يوجد ما يُسمى بعصر جاك ما، لكن يوجد عصر يعيش فيه جاك ما. تلك الرسالة تعني بصراحة أن جاك ما ليس إلا صنيعة الحكومة، والمساحة التي يتحرك فيها ممنوحة له بوعي وإرادة الحكومة الصينية.

لا أحد فوق الصين

بعد هذا الخطاب تعرضت شركات جاك ما كلها ومنصة علي بابا لرقابة علنية ولصيقة من الحكومة الصينية. وأعلنت الحكومة أن الشركة سوف تواجه تحقيقًا بتهمة الاحتكار، وأُبلغت شركات جاك ما بتعليق اكتتابها العام، وضرورة القيام بإعادة الهيكلة.

كل ذلك لم يلفت النظر إلا بعد أن اختفت صورة جاك ما من لجنة تحكيم تقوم بها شركاته لتقديم منحة قيمتها 1.5 مليون دولار لأصحاب المشاريع التجارية الأفارقة، جاك اعتاد أن يكون على رأس لجنة التحكيم، لكن فجأة بعد تصريحاته السابقة غاب عن التحكيم وحضر مكانه أحد المسئولين التنفيذيين في شركته.  كما حُذفت صورته تمامًا من المقطع الترويجي للمسابقة، ولم يُشاهد جاك منذ تلك اللحظة في أي مكان ولا في شركاته.

ليس جاك ما أول من يتعرض لهذا الاختفاء الغامض، فقد سبقه وو شياهووي رئيس إحدى الشركات الكبرى، وحُكم عليه بالسجن لمدة 18 عامًا عام 2018. واعتقلت السلطات الصينية في نفس العام يي جيان مينج رئيس إحدى شركات الطاقة، استثمر 9 مليارات دولار في شركة طاقة روسية، ولم يزل مختفيًا حتى الآن. كما اختُطف شياو جيان هوا من قبل الحكومة الصينية من شقته عام 2017، شياو يُسيطر على بنك باو تشانج، وأجبرته الحكومة على تفكيك إمبراطوريته المالية.

بعد تلك الاعتقالات اُضطرت الشركات الناشئة إلى التنازل وبيع مئات الأصول للحكومة الصينية. وأخبرت الحكومة الصينية كل رجال الأعمال أن لهم دورًا وطنيًّا في بناء البلاد والحزب، ما يعني أن على كل رجال الأعمال تعديل مسار أعمالهم لتتماهى مع اتجاهات الدولة.

كما أن الرسالة الأهم التي أرسلها الزعيم الصيني شي جين بينج إلى رجال الأعمال كافة هي أن لا أحد أكبر من الدولة أو الحزب. حتى جاك ما الذي ظن أنه يملك ما لا يملك الآخرون من الحرية، فقد أعادت السلطات الصينية تهذيبه بهذا الاختفاء، لتؤكد له أن الزمان هو زمان شي جين بينج، ولا يمكن أن يكون أبدًا زمان جاك ما أو غيره، وأن الرقص على الحبال المتشابكة ببراعة وبإتقان لا يمنح صاحبه حصانةً للأبد من السقوط.