ما تواجهه الإنسانية المعاصرة من كوارث وأزمات يدعو – أكثر من أي وقت مضى – إلى وجوب تفعيل فقه مقاصد الشريعة الإسلامية عمليًّا، ولزوم نقله من حيز التنظير والأقوال، إلى حيز التطبيق والأفعال، والقيام بكل ما يقتضيه هذا التفعيل من إدماج القواعد الأساسية للمقاصد في البنى الدستورية والقانونية القائمة، وإعادة النظر في هذه البني وتعديل ما يحتاج إلى تعديل، وإعادة هيكلة السياسات العامة للحكومات بخاصة ولمؤسسات المجتمع المدني بعامة؛ لكي يكون هذا الفقه العريق المبني على «رعاية المصالح»، حيث يجب أن يكون في خدمة الناس، لا في رءوس العلماء وسطور الكراريس، ولكي يسهم في مواجهة ما تعانيه البشرية من أزمات وكوارث، ليس آخرها كارثة الزلازل التي ضربت جنوب تركيا وشمال سوريا فجر يوم الاثنين 15 رجب 1444هـ/6 فبراير 2023. وفي هذه المناسبة المحزنة إنسانيًّا قد يكون مفيدًا إلقاء الضوء على جهود إحياء فقه مقاصد الشريعة في الواقع المعاصر.

قبل عامين وفي مثل هذه الأيام توفي الشيخ أحمد زكي يوم 11 رجب 1442هـ/23 فبراير 2021. كانت الصحافة العالمية تلقبه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بأنه «ملك الذهب الأسود». وبعد انتهاء مسئولياته الحكومية، تفرَّغ لخدمة التراث الإسلامي، وأنشأ «مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي» في لندن، ووفر لها كل ما تحتاجه «المؤسسة العصرية» من كفاءات إدارية وتكنولوجية وقدرات علمية رفيعة المستوى من مختلف البلدان الإسلامية.

أنشأ بداخل هذه المؤسسة ثلاثة مراكز، أحدها لموسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، والثاني لبحوث مخطوطات التراث الإسلامي، والثالث لدراسات مقاصد الشريعة، وهو أول مركز عصري متخصص في هذا العلم، في حدود علمي. وكنت ممن تشرَّفوا بالمشاركة في الندوة التأسيسية لمركز دراسات المقاصد في عام 2005.

بعد عامين من اليوم يكون قد مضى على هذا المركز عشرون عامًا، انتقلت في خلالها دراسات وبحوث المقاصد العامة للشريعة نقلة معرفية حملت في طياتها اجتهادات جديدة على النحو الذي يجده القارئ في سلاسل المطبوعات التي أصدرتها مؤسسة الفرقان.

وكان أكثر ما لفت نظري في «ندوة تأسيس» مركز المقاصد 2005: الرؤية الواضحة التي قدمها الشيخ زكي رحمه الله، والتي قصد بها إحياء فقه المقاصد وتجديد النظر فيه، وقد تمثلت رؤيته في مقدمتين: واحدة واقعية معاصرة، والثانية منهجية أصولية.

أما المقدمة لواقعية المعاصرة فهي: وجوب إدراك الظروف الدولية المتغيرة اقتصاديًّا وماليًّا، وأخذها بعين الاعتبار، لأنها اختلفت عمَّا كان عليه الحال في العصور الماضية لمجتمعات الأمة الإسلامية، بخاصة، وبقية مجتمعات العالم بعامة. وانشرح صدري يومها عندما سمعت عالمًا في الشريعة يقدم هذا الطرح غير التقليدي. والشيخ زكي لمن لا يعرف درس الشريعة في حقوق القاهرة، وحصل في الستينيات على الدكتوراه في الشريعة والقانون من جامعة إكستر البريطانية.

وأما المقدمة المنهجية الأصولية فهي: أنَّ أيَّ جهدٍ معاصر يستهدف تجديد الفقه ليتمكن من الاستجابة لتلك الظروف والمتغيرات، يتعينُ أن يكون فقهُ المقاصد أهم آلياته. وأن الإجماع يكاد ينعقدُ، إلا من فئة قليلة، على أن مقاصد الشريعة هي أهم آلية لتجديد الفقه، يستخدمها الفقهاء والمجتهدون للوصول إلى الأحكام الشرعية التي تواجه المتطلبات المستجدة والظروف المتجددة.

ومن تلك اللحظة التأسيسية انطلقت موجة واسعة النطاق من الدراسات المقاصدية، وشارك فيها عدد كبير من أعلام العلماء والباحثين المجدين. وصدرت عشرات الكتب والبحوث وألقيت عشرات المحاضرات وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات. وتراكمت كل هذه الجهود وأضحت – بما لها وما عليها – محلًّا للدرس والمقارنة والنقد والتفنيد.

ومن أهم النتائج العامة التي كشفت عنها تلك الجهود: أن مقاصد الشريعة ليست علمًا فقط، بل إنها أيضًا ثقافة، وفقه قائم بذاته وموصول بمختلف علوم الشريعة وأحكامها. وكثير من العلماء يعتبرون فقه المقاصد هو «الفقه في الدين» الذي عناه الرسول، صلى الله عليه وسلم، في قوله: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين». أدرك المسلمون وعلماؤهم ذلك منذ الصدر الأول للإسلام، وعرفوا أن للشريعة «مقاصد عامة»، وليس فقط أحكام جزئية وعلل خاصة بكل حكم.

وتشمل المقاصد في عمومها كل ما جاءت به الشريعة من أحكام في مجالات العبادات والمعاملات والعادات والجنايات. صحيح أن ظهور «علم المقاصد» قد تأخر وجاء تاليًا لعلم «أصول الفقه» – والبعض يعتبر المقاصد مندرجة في أصول الفقه – ولكن استقراء العلماء لأحكام الشريعة الجزئية بما تضمنته من معانٍ وتوجيهات تفصيلية، أدى بهم إلى اكتشاف مشتركات عامة تؤلف فيما بينها في وحدة منسجمة و«مقاصد عامة»، تدور حول رعاية «المصالح» وانتظام شئون حياة الأفراد والجماعات وتطور العمران.

تطور فقه المقاصد مع التطور العام للفقه الإسلامي عبر التاريخ، وأضحى مصدرًا من مصادر تكوين الوعي العام للمجتمع بمختلف فئاته، كما أصبح رافدًا من روافد الثقافة السائدة في المراحل التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية علميًّا وعمرانيًّا.

وتوضح وقائع التاريخ الإسلامي أن مراحل الازدهار الحضاري هي نفسها المراحل التي نما فيها فقه المقاصد وازدهرت ثقافته على نطاق واسع في صفوف الأمة، وأن مراحل التدهور والتراجع الحضاري شهدت تراجعًا لفقه المقاصد، وضمورًا للثقافة العامة المبنية على هذا الفقه، وتجلى هذا بشكل واضح في وجود فجوة بين الإيمان النظري والشعائري من جهة (الذي يعتني بالأحكام الفقهية الجزئية)، والممارسة الاجتماعية والتصرفات السلوكية العامة التي من المفترض أن تسترشد بمقاصد الشريعة العامة من جهة أخرى.

إن ثمة علاقة قوية إذن بين ازدهار فقه المقاصد والازدهار الحضاري والعمراني بشكل عام. وضمور المعرفة النظرية بهذا الفقه مؤشر على تراجعه في الممارسة العملية، والعكس صحيح. ومن ثم فإن الواقع الراهن بحاجة ماسة إلى إحياء ثقافة المقاصد، والتنبيه إلى مصادرها، وإعادة وصلها بالواقع الذي نعيشه، وإذاعتها على أوسع نطاق ممكن لتكون مصدرًا من مصادر تكوين الوعي الحضاري بشكل إيجابي في مجتمعاتنا.

ولكن ما تعريف المقاصد العامة للشريعة؟ وكيف عَرَفها العلماء المسلمون؟

في الكتابات المبكرة في فقه المقاصد لا نكاد نجد تعريفًا اصطلاحيًّا محددًا لما هي «المقاصد العامة للشريعة»، وإنما نجد فقه هذه المقاصد مبثوثًا في مختلف جوانب أبواب الفقه، ونجده أيضًا منتشرًا – وبصور متباينة، وبنسب مختلفة – في مختلف صنوف المعرفة التي أنتجها العقل الإسلامي؛ في علم التفسير، وعلوم السنة، وعلم الكلام، والفلسفة، وعلوم الأدب واللغة، والتاريخ؛ إلى جانب علوم الفقه وأصوله بطبيعة الحال. وهذه ملاحظة مهمة جدًّا من حيث وظيفية علم المقاصد والدلالة على دوره في صوغ الرؤية الحضارية العامة، وليس فقط في التعرف على علل الأحكام أو الحكمة منها بمعزل عن التطبيقات العملية لها.

في تلك المراحل الأولى – وخاصة قبل عصر التدوين في القرن الثاني الهجري – لم يكن الأمر يحتاج إلى تعريف اصطلاحي، بقدر ما كانت الحاجة إلى بث المعرفة بهذا الفقه، وتنشئة المجتمع على ثقافة المقاصد مع ربطها بأحكامها الجزئية وتكاليفها التفصيلية في مختلف المجالات. ثم استوت نظرية المقاصد على يد سلسلة من العلماء المجتهدين، وتواضعوا على تعريفها بقولهم: «هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، وتدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغاياتها العامة»، كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور مثلًا، أو هي «الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها».

ويعتبر أبو إسحاق الشاطبي (ت: 790هـ) أول من قدم صياغة متكاملة لفقه المقاصد في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة»، وإن كان قد سبقه آخرون من أمثال القفال الشاشي، والحكيم الترمذي، والإمام الغزالي، والإمام الجويني؛ فكتب هؤلاء تشير إلى أنهم قد استنبطوا المقاصد العامة بعد طول انشغالهم بالأحكام الفقهية الجزئية. فهذا الانشغال قادهم إلى البحث عن «علل» الأحكام. والبحث عن العلل قادهم إلى ملاحظة وجود «علل مشتركة» تجمع كل منها أحكامًا جزئية مختلفة. وصار من المعتاد تقسيم المقاصد الشرعية إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات.

وقد بسَّط الشيخ عبد الوهاب خلاف كل صنف منها وشرحه بأسلوب بديع ولغة سهلة، وذهب إلى أن الضروري هو ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وأن الأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وأما الحاجيات فهي ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة. وأما التحسينيات فهي ما تقتضيه المروءة والآداب العامة، وهي في جملتها ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. وفي كل مستوى من هذه المستويات تفصيلات توضح أولويات التطبيق وآليات الربط بين المقصد العام والحكم الخاص بهذه المعاملة أو تلك، أو بهذا التصرف أو ذاك.

وثمة اجتهادات معاصرة تقسم المقاصد تقسيمًا آخر، وقد تضمنها كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية» الذي حرَّره الدكتور «محمد سليم العوا»، وقدم له الشيخ أحمد زكي يماني (رحمه الله)، ومن ذلك تقسيم المقاصد إلى ثلاثة أقسام هي:

  1. المقاصد العامة، وهي تدور حول «جلب المصالح ودرء المفاسد».
  2. المقاصد الخاصة، وهي تتعلق بما تهدف إليه الشريعة في باب معين أو مجال ما مثل: مقاصد الشرع في التصرفات المالية، أو في القضاء بين الناس، أو في أحكام العائلة … إلخ.
  3. مقاصد جزئية، وهي تتناول ما أراده الشارع الحكيم من كل حكمٍ على حدة، أو كما يقول علامة المغرب «علال الفاسي»: هي «الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها».

ويوجد جدل واسع النطاق بين العلماء في طريقة النظر إلى مقاصد الشريعة، كما أن هناك عدة مدارس فقهية بهذا الخصوص، منها ما يقسمها إلى ثلاثة: الأولى هي مدرسة الظاهرية الجدد؛ الذين يفقهون النصوص الشرعية بعيدًا عن مقاصدها، والثانية هي مدرسة المعطلة الجدد، وهي على عكس السابقة، فأنصارها يعطلون النصوص بحجة مراعاة المصالح أو المقاصد العامة، وأخيرًا المدرسة الوسطية، وهي التي يربط أنصارها بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة.

وأيًّا ما كانت الاختلافات بين العلماء في تصنيف المقاصد العامة، فإنهم متوافقون على أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام ـ كما يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف ـ هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة؛ بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم؛ والشارع الحكيم شرع أحكامًا في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينيات للأفراد والجماعات الذين يعيشون في ظل الاجتماع السياسي الإسلامي دون تمييز بينهم، بسبب الجنس أو الدين أو المذهب أو اللون أو غير ذلك؛ فمجرد ثبوت وصف الآدمية يرتب تلك الحقوق والمصالح التي جاءت بها الشريعة وقصدت إلى تحقيقها.

بعض العلماء يرون أن ترتيب المقاصد الخمس الكبرى للشريعة هو ترتيب ذو مغزى؛ بمعنى أن تقديم حفظ الدين يعني أنه له الأولوية على ما عداه، ويليه حفظ العقل الذي يتقدم على غيره، وهكذا. وبعضهم الآخر يرون أن الترتيب غير ذي دلالة من حيث الأولوية أو الأهمية التي تشير إليها المقاصد. ولكنا نميل إلى أنصار الرأي الأول؛ إذ إن حفظ الدين – من منظور الشريعة الإسلامية – هو أساس حفظ جميع المصالح والمقاصد الأخرى، بما في ذلك دين أو أديان المخالفين للإسلام، فحفظها واجب وله أولوية أولى تقع على عاتق المؤمنين بها؛ لأن الإسلام ذاته هو الذي يأمر بحفظ عقائدهم، ويقرر بوضوح مبدأ «لا إكراه في الدين»، و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وكذلك بالنسبة لحفظ العقل الذي يكون بتنشئته وتثقيفه وتغذيته بالأفكار والقيم والمبادئ، وحثه على التأمل والنقد والابتكار … إلخ، وبدون ذلك يصعب جدًّا حفظ المقاصد الأخرى، في النفس والنسل والمال والعرض وغيرها من المقاصد التي لا يزال العلماء يجتهدون في استنباطها وإضافتها إلى منظومة المقاصد العام للشريعة، ومن أهم ما أضيف إليها مقصد الحرية الذي نبه إليه الشيخ الطاهر بن عاشور، ومقصد العمل الخيري الذي نبهت إليه في أكثر من مناسبة.

يهمنا الآن التأكيد على أن الموضوع الرئيسي لهذا لعلم المقاصد العامة للشريعة هو البحث عن غايات الإسلام من التشريع الذي جاء به في قوانين المعاملات، والآداب التي يرى أنها جديرة بأن تُخص باسم «الشريعة»، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعريف المصالح والمفاسد والموازنة بينها وترجيح أحدها على الآخر؛ مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية.

وقد حدَّد المقاصديون عدة طرق للتعرف على المقاصد العامة للشريعة منها: أدلة القرآن الواضحة الدلالة، والسنة النبوية المتواترة، واستقراء الأحكام المعروفة عللها.

وحب الحصيد هو أننا كلما تأملنا في المقاصد العامة للشريعة؛ سواء منها ما استنبطه الأولون، أو ما استنبطه المحدثون، وجدنا أنها تشكل منظومة متماسكة، وتقيم بنيانًا يشد بعضه بعضًا؛ بحيث يصعب جدًّا أن نتصور مقصدًا بمعزل عن بقية المقاصد، تمامًا كما يصعب أن نتصور فقهًا في الأحكام الجزئية بلا مقاصد عامة؛ فكل منها يأخذ بيد الآخر، وكلها ماضٍ على طريق مصلحة الآدمي، مسلمًا كان أو غير مسلم ، ذلك لأنها كلها موثوقة برباط الفطرة الإنسانية، ومبنية عليها؛ باعتبار أن الفطرة هي «وصف الشريعة الأعظم» وقد أصاب وأجاد العلامة ابن عاشور في شرحه لهذه الصفة المركزية من صفات الشريعة الإسلامية، واستخلص في كتابه العمدة «المقاصد العامة للشريعة الإسلامية» أن «السماحة» هي أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها.

إن لب لباب مقاصد الشريعة جعل الأولوية الأولى هي أن تتكاتف كل الجهود من إغاثة ضحايا الكوارث وحفظ أرواحهم وسلامة أبدانهم ومعالجة جرحاهم؛ لا فرق في ذلك لأي سبب كان، إذ يكفي أنهم من الأسرة البشرية الكبيرة، وقد جاء الشرع رحمة للعالمين.