بالرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على اندلاع الثورة الليبية، فإن ليبيا تشهد أزمة سياسية حادة. ويُعد الموقف الجزائري أحد أهم المواقف الإقليمية المؤثرة في الأزمة الليبية؛ فالجزائر هي أحد أهم دول الجوار الجغرافي لليبيا، إلى جانب علاقتها المتميزة معها. ولأن المقاربة الجزائرية للأزمة الليبية مختلفة عن المقاربة المصرية، فإن للموقف الجزائري بالضرورة تأثيرًا مباشرًا في المصالح المصرية في ليبيا.


أبعاد الموقف الجزائري تجاه الأزمة الليبية

كان الغموض هو السمة الأساسية للموقف الجزائري الأوّلي من الثورة الليبية التي اندلعت في 17 فبراير/شباط 2011، قبل تحولها إلى صراع مسلح شامل، حيث رفضت الجزائر تدخّل حلف الناتو في ليبيا ضد نظام القذافي، واعتمدت مقاربتها الأمنية في تفاعلها مع الأزمة على فكرة أن «التدخل الأجنبي في ليبيا سيفكك البلاد ويُعمّق الصراع إلى حرب أهلية واسعة، كما سيمنح المتطرفين مبررًا شرعيًا لجعل ليبيا أرض جهاد جديدة». أما المقاربة السياسية فتقوم على «إشراك كلٍّ من أنصار القذافي والإخوان وكافة الأطراف الأخرى في العملية السياسية»، وهو ما يمكّن الجزائر من صياغة علاقات جيدة مع معظم الأطراف.

ويمكن القول إن هناك محورين يُلخصون أبعاد تطور الموقف الجزائري تجاه الأزمة الليبية عبر السنوات الخمس الماضية:

1. موقف الجزائر من أطراف النزاع

رغم انحياز الجزائر الواضح مع بداية انطلاق الثورة الليبية للقذافي، إلا أنه سرعان ما تبدّل الموقف الجزائري، مُتقبلاً الأمر الواقع؛ سقوط نظام القذافي، فبدأت في اتباع سياسة استيعابية متوازنة لكافة أطراف اللعبة السياسية في ليبيا، حتى صارت تتمتع بعلاقات جيدة مع معظم أطراف الصراع هناك، مُحافظة على قنوات اتصال مع كافة الأطراف المعنية هناك، وهو ما يتسق مع الرؤية الجزائرية للأزمة، ويُعتبر شرطًا أساسيًا للعب دور الوسيط.

ورغم التوتر الذي ساد علاقة الجزائر بالمجلس الوطني الانتقالي عقب الإطاحة بالقذافي، إلا أن تعديل الجزائر لسياساتها تجاه ليبيا، وما صاحب ذلك من زيارات رسمية عدة بين البلدين، سرعان ما خفف من حدة هذه التوترات، فتحول التوتر إلى تعاون.

تلخصت رؤية الجزائر تجاه الأزمة الليبية في ضرورة إشراك كافة الأطراف في العملية السياسية بما في ذلك الإسلاميين وأنصار القذافي.

استمرت الجزائر في موقفها الحيادي، وفتحت قنوات الاتصال مع بنغازي وطرابلس في مواجهة زيادة حدة الاستقطاب، واندلاع الصراع المسلح بين الشرق والغرب، وتشكيل حكومتين؛ وهو الأمر الذي أثار غضب حكومة بنغازي، ولكن سرعان ما تبدل هذا الموقف بعد اعتراف الأخيرة بحكومة عبد الله الثني المؤقتة.

جمعت الحكومة في طرابلس بالجزائر علاقات جيدة، حتى بعد اعتراف الأخيرة بحكومة الثني، وهو ما يعود إلى تقدير حكومة طرابلس لموقف الجزائر الرافض للتدخل الأجنبي في ليبيا (بما في ذلك التدخل المصري)، وهو التدخل الذي كان سيُوجَّه بالأساس إلى «قوات فجر ليبيا» (بجانب مواجهة داعش). كما أن الجزائر استقبلت «نوري أبو سهمين»، رئيس المؤتمر الوطني الانتقالي السابق، أكثر من مرة، وفتحت الأجواء الجوية لاستقبال عدد من الشخصيات الليبية التي تنتمي لحكومة طرابلس حينئذ.

كانت الجزائر أحد الداعمين الأساسيين لعقد اتفاق الصخيرات الثاني في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، وبالطبع كانت الداعم الأكبر لتشكيل حكومة السراج، ودفع المجتمع الدولي للتكاتف خلفها، وتذليل العقبات أمام شروعها في ممارسة مهامها الرسمية.

كان الجنرال خليفة حفتر دائمًا ولا يزال محل تحفظ الجزائر في معظم جهودها للوساطة، ومن ثم فهو الاستثناء الوحيد من هذه المعادلة، حيث تنظر له الجزائر على أنه أحد أسباب تطور الصراع في ليبيا إلى هذا المستوى؛ وذلك بسبب أطماعه الشخصية في الحكم، إلى جانب كونه مُمثِّلاً للمصالح المصرية والإماراتية التي لا تتفق مع نظيرتها الجزائرية، فضلاً عن اتهام الجزائر له بدعم الاضطرابات التي تشهدها البلاد بين العرب والأمازيغ.

يعتبر موقف القيادة السياسية في الجزائر من الإسلاميين، ونهجها في التعامل معهم، أحد أهم محددات تعاملها مع الأزمة الليبية؛ كون الإسلاميين أحد أطراف الصراع الرئيسيين هناك. حيث يمتلك النظام السياسي الجزائري خبرةً مريرةً في التعامل مع الإسلاميين، إذ يدرك جيدًا أن التيارات السياسية الدينية تحتاج إلى طرق للاحتواء غير العنف المباشر؛ وهو ما يُفسّر اتباع الجزائر نهج الحوار مع إسلاميّي ليبيا، ورفضها استخدام العنف واللجوء إلى التدخل العسكري الخارجي.

2. انعكاسات الأزمة الليبية على الأمن القومي الجزائري

أدى الصراع المسلح في ليبيا إلى تداعيات خطيرة على مستوى الأمن القومي الجزائري، وهذه التداعيات مُرشحة للتصاعد كلما ارتفعت وتيرة الصراع.

حيث أدى الصراع الليبي إلى انكشاف الحدود الشرقية للجزائر مع ليبيا، والتي تمتد على طول 980 كيلومترًا، وهو ما فرض على الجزائر تسخير إمكانيات كبيرة (مادية وبشرية) لضمان تأمين تلك الحدود.

كما اتسع نشاط الخلايا والتنظيمات الإرهابية في ليبيا، وامتد هذا النشاط إلى الحدود الجزائرية، وأصبحت ليبيا أكبر مراكز المنطقة لتهريب السلاح، سواء أكانت أسلحة خفيفة أم ثقيلة. كما عانت الجزائر – ولا تزال تعاني – من انتشار الجريمة المنظمة على حدودها مع ليبيا، سواء على مستوى تهريب وتجارة المخدرات، أو تزايد نشاط الهجرة غير الشرعية.


الموقف الجزائري في السياق الإقليمي وانعكاساته على الدور المصري

بالحديث عن عدم الاتساق في المواقف بين الجزائر ومصر، يمكن القول إن الموقف الجزائري تجاه الأزمة الليبية كان له انعكاسات مباشرة على المصالح المصرية المرتبطة بالأزمة.

ويمكن تفنيد أبرز انعكاسات الموقف الجزائري على المصالح المصرية الإماراتية في ليبيا، على النحو التالي:

1. تختلف إستراتيجية أبرز القوى الإقليمية المتضررة من الإرهاب في ليبيا، وهي تونس والجزائر، تمامًا عن الإستراتيجية الحالية للجانب المصري، حيث تتلخص إستراتيجيتهما في الاعتماد على الإجراءات الدفاعية التي لا تتجاوز حدود أراضيهما. وأسهم الموقف الجزائري الرافض للضربات المصرية ضد داعش في ليبيا، في إجبار مصر على اتباع إستراتيجية الإجراءات الدفاعية، دون السعي إلى تجفيف منابع الإرهاب في درنة وسرت.

2. يمكن القول إن الموقف الجزائري، وانعكاساته على الموقف المصري، قد تسبّب في تأجيل الحسم العسكري للأزمة الليبية. فلا شك أن التوازن العسكري لأطراف الصراع في ليبيا هو ما أدى إلى امتداد الصراع طوال هذه الفترة الزمنية، وبالتالي فإن انحياز أحد الأطراف الخارجية لمصلحة أحد أطراف الداخل، كان من شأنه أن يُغلّب كفة أحد أطراف الصراع، أو يمنحه الأفضلية في الميدان؛ مما قد يُمهّد لنصر عسكري قريب، وهو ما كان مُنتظرًا حال تدخل مصر عسكريًا لصالح حفتر. لذا، فقد أدى تأجيل الحسم العسكري للأزمة الليبية إلى استمرار تضرر المصالح الأمنية المصرية.

3. نتيجة لتأجيل الحسم العسكري للأزمة الليبية، استمر وجود داعش هناك، بل استقر وامتد، وهو الأمر الذي شكّل خطورة كبيرة على الأمن القومي المصري، ومصالحه الأمنية والاقتصادية في ليبيا.

4. تَمثّل الانعكاس الأهم للموقف الجزائري للأزمة الليبية على المصالح المصرية، في استمرار وجود الإسلاميين كطرف أصيل في الأزمة، يمكن – وأحيانًا يجب – التفاوض معه، دون وجود احتمال لاستبعاده من المشهد التفاوضي في صورته النهائية. حيث أصرت الجزائر على اتباع نهج الحوار، وفتح قنوات تواصل مستمرة مع إسلاميّي ليبيا، واعتبارهم شريكًا أساسيًا في أي تسوية محتملة، وهو الأمر الذي ناهضته مصر؛ نتيجة موقفها من الإسلاميين، وخشيتها من تنامي نفوذهم في ليبيا، بحيث يمثلون ظهيرًا سياسيًا يدعم نظيره في مصر.


لماذا ترفض الجزائر التدخل العسكري الخارجي في ليبيا؟

يمكن القول إن الموقف الجزائري، وانعكاساته على الموقف المصري، قد تسبّب في تأجيل الحسم العسكري للأزمة الليبية.

تتمسك القراءة الجزائرية الرسمية بموقف رافض للتدخل العسكري الأجنبي لاعتبارات عدة؛ فلديها وعي بخطر استهداف مقاتلي تنظيم داعش في ليبيا؛ لما قد يجرّه ذلك من فرار لعناصر التنظيم، والبحث عن ملاجئ في حدودها الشاسعة مع ليبيا من جهة، ولما قد يشكله التدخل من جذب للمقاتلين من دول مختلفة إلى ليبيا، وهو ما يعني مزيدًا من الضغط الأمني عليها.

إن التدخل العسكري الأجنبي في الأزمة الليبية سيعمل على تهميش الدور الجزائري، وهو ما يمثل انتقاصًا من قدرتها على إدارة الأزمات الإقليمية.

ومن ناحية أخرى، فإن التدخل الأجنبي سيعمل على تهميش الدور الجزائري في الأزمة، وهو ما يمثل انتقاصًا من قدرتها على إدارة الأزمات الإقليمية. ناهيك عن أن التدخل لابد أن يكون لصالح طرف ضد آخر، وهو ما يتناقض مع رؤية الجزائر للأزمة.

أما مصر، فهي ترفض تدخلاً خارجيًا لا تكون طرفًا رئيسيًا فيه، وهناك العديد من التقارير التي تشير إلى تورط مصر عسكريًا في ليبيا، وذلك قبيل قصفها لمواقع تنظيم داعش هناك العام الماضي (2015)، كما أنها عبّرت عن دعمها لرفع الحظر عن توريد السلاح إلى ليبيا، وهو ما يؤشر إلى أنها ترى أن دعم حلفائها في حربهم على الإرهاب يضمن لها دورًا في التدخل، كما أنه يمكن أن يكون بديلاً عن التدخل الصريح.

وقد دأبت مصر على انتقاد غموض الموقف الجزائري من مبادراتها لحل الأزمة الليبية. ويبدو أن الموقف من الإسلاميين هو أحد نقاط الارتكاز في هذا الخلاف؛ إذ إن مصر لا تُبدي ارتياحًا لنهج الجزائر الهادف إلى فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين، فمصر تضع جماعات، مثل «أنصار الشريعة» وداعش، مع «فجر ليبيا» في سلة التنظيمات الإرهابية، كانعكاس لطبيعة المواجهة الداخلية التي تخوضها السلطة المصرية مع الإخوان المسلمين منذ يونيو/حزيران 2013، بينما الجزائر تجد أنه من مصلحتها التعامل مع الإسلاميين وحلفائهم من مصراتة الذين يسيطرون على طرابلس.

ورغم عدم وضوح الرؤية بشأن احتمالات حدوث تدخل عسكري عربي أو دولي في ليبيا حاليًا، إلا أنه يظل احتمالاً قائمًا في أي وقت. فتنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية ما زال قادرًا على التعايش مع البيئة الليبية، وبالتالي فمن المُحتمل أن يزداد نفوذه وتتسع رقعة سيطرته الجغرافية، وهو ما قد يُغير معادلة الاصطفافات الإقليمية والدولية تجاه الأزمة، ويفرض على معظم الأطراف فكرة التدخل العسكري.

ستتحمل الجزائر عبء أي عمل عسكري أجنبي في ليبيا، أكثر من تحمل تبعات تدخل الناتو عام 2011، والدليل شحنات السلاح المتسربة من ليبيا إليها يوميًا، وزيادة معدلات تسلل الإرهابيين إلى أراضيها.

نظرًا إلى كل ما سبق، فقد حرصت الجزائر على إقناع المجتمع الدولي بتشجيع الليبيين على ملء الفراغ، والإسراع في تشكيل القوى الأمنية، ودمج كل الأطراف المسلحة المُعترَف بها دوليًا، وتجنيد الجميع من أجل محاربة داعش والمجموعات الإرهابية.